الزيود يكتب: التَّعليم العالي والجامعات وجدوى خفض وإيقاف القبول في التخصصات المشبعة والرَّاكدة
جاء قرار مجلس التَّعليم العالي في الأردن بخفض القبول في التخصصات المشبعة والراكدة استجابة لحاجة وطنية ملحة، بعد أن وصلت البِطالة لحملة الدرجات العلمية في هذه التخصصات بالآلاف ولو اتخذ هذا القرار قبل عدة سنوات لكان أكثر فائدة وجدوى واتخاذه اليوم أفضل من تأخيره وليكون جزءا من مواجهة مشكلة البطالة المتفاقمة.
إنَّ مشكلة هذه التَّخصصات تتجلى بانعدام فرص العمل التي تناسب الخريجين بما يملكونه من علم ومعرفة ومهارة، ويعود ذلك حتما للمحتوى والمهارات التقليدية التي تعرَّضوا لها طوال فترة إعدادهم وتأهيلهم والتي لم تعد تلبي متطلبات وحاجات سوق العمل، حيث تنظر مؤسسات سوق العمل لعلم ومعارف ومهارات هؤلاء الخريجين بأنَّها منتهية الصَّلاحية وعديمة القيمة وغير مواكبة للمستجدات العلمية والتقنية التي توظفها وتستخدمها.
وأكاد أجزم بأنَّ خريجي التَّربية والشَّريعة والآداب والهندسة والفيزياء والكيمياء والقانون والسِّياسة والتاريخ والجغرافية وأغلب التخصصات المشبعة والراكدة التي ليس لخريجيها فرص عمل اليوم، قد درسوا محتوى علميًا لا يرتبط بالعصر ولا يواكبه وتدربوا على أدوات وفي مختبرات ومعامل قديمة لم تعد مستخدمة في مؤسسات العمل، وبأنَّ خطط البرامج والمواد الدراسية نادرًا ما يتم تطويرها بآخر المستجدات العلمية بشكل مؤسسي ومنظَّم ومخطط له، وما يتم تطويره في الغالب يكون بجهد ودافعية فردية للمدرسين.
إنَّ خفض وإيقاف القبول في هذه التخصصات مدعاة للجامعات؛ للعمل بجدية لمراجعة جميع برامجها وتخصصاتها بلا استثناء، لمواجهة تحدٍ بأنَّ محتوى المواد تقليدي ويدرَّس بطرق تقليدية في بيئات تعليم تقليدية وبالتالي النتيجة بخريج تقليدي لا يتقن مهارات الحياة المتمثلة بالتواصل والحوار الفعال وتقبل الآخر والإيجابية، ولا يتقن مهارات ومتطلبات مؤسسات العمل والإنتاج التي تركز اليوم على مهارات التفكير الناقد، والتحليل ومهارات العمل التعاوني وروح الفريق والقيادة والمهارات الرقمية و مهارة التكيف ومهارة المبادرة والمبادأة والاختراع والتأثير، ومهارات الاتصال والتواصل مع الاخر والانفتاح عليه وتقبله، ومهارة امتلاك القدرات والمهارات التي تمكِّن الفرد من البحث عن المعلومة والوصول إليها والتفكير فيها وتطبيقها والاسهام في تطويرها، و مهارة الفضول نحو المعرفة والعلم والتقدم والتطور والتميز.
واليوم فإنَّ على الجامعات والأقسام الاكاديمية النهوض بمسؤولية إعادة النظر بالبرامج بالإيقاف والالغاء التام، وتطوير واستحداث برامج وتخصصات علمية جديدة تواكب حاجات سوق العمل وتواكب ما تطرحه الجامعات العالمية المرموقة التي تبتكر وتطور برامجها باستمرار بعيدًا عن الجمود والثبات غير المبرر والذي وصلت إليه أغلب التَّخصصات التي تطرحها جامعاتنا اليوم.
إنَّ الغاء وإعادة بناء وتطوير واستحداث تخصصات جديدة يتطلب رؤية جديدة للجامعات تستند على أنَّ التغيير واجب ومصلحة عليا للجامعات وللوطن، وبأنَّ عليها القيام بدور ريادي يواكب العصر في بناء الانسان وفي مسيرة التنمية وفي حضورها على الساحة المحلية والعالمية، وهذا مرهون بإحداث تغيير جوهري في التخصصات الجامعية المطروحة والتي لم يعد لها حاجة في سوق العمل لاعتبارات مهنية وللضَّعف الظاهر فيما يملكه الخريج من مهارات وقدرات.
كما أنَّ على الجامعات ومجلس التعليم العالي وهيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي مسؤولية النظر لحاجاتنا لذات التخصصات في كل جامعة دون وجود ما يميز هذه التخصصات بين الجامعات، وقد تكون فرصة غنية مواتية لإعادة توطين تخصصات في جامعات معينة وإيقاف تكرار وإعادة انتاج ذات التخصصات في جميع الجامعات، ذلك أننا لسنا بحاجة لتخصصات الهندسة والصيدلة والتربية والقانون والشريعة والسياسية والقانون وغيرها من التخصصات المشبعة والراكدة لتطرح في كل جامعة وهذا جزء اصيل من الحل الذي يجب أن يتبع إيقاف وتخفيض القبول في بعض التخصصات. فما الذي يمنع أن تطرح تخصصات القانون في ثلاث جامعات والتربية في أربع جامعات والهندسة في ثلاث جامعات وهكذا على المستوى الوطني وان تقبل هذه التخصصات الاعداد التي نحتاجها سنويا في ضوء دراسات علمية تقوم على تقدير الحاجات الفعلية واستشراف المستقبل.
إن خفض القبول الى النصف في بعض التخصصات مدعاة لأعضاء هيئة التدريس في اقسامهم وكلياتهم للعمل على تطوير برامج مبتكرة في مجالاتهم العلمية والتشبيك بين التخصصات المختلفة لطرح برامج مشتركة كما شاع وأصبح أمر مسلَّم به في جامعات العالم المرموقة وما اطلق عليه بالتخصصات البينية التي تجمع اكثر من تخصص ويكون له فرص عمل جديدة منتظرة ومطلوبة وطنيا وعالميا.
إن قرار خفض وإيقاف القبول في بعض التخصصات ليس إلا خطوة أولى بالاتجاه الصحيح، ويجب أن يتبعها خطوات عملية إجرائية جريئة أخرى لتصويب الوضع القائم ولجميع التخصصات.