المشهد الحزبي الأردني في مخاض حاسم

محمد ابو رمان
مدار الساعة ـ نشر في 2022/08/16 الساعة 09:56
شكّلت مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية (جرى إقرارها وإشهارها في العام الماضي) نقطة تحوّل نحو مسار جديد مختلف في الحياة السياسية الأردنية، ويمكن تلخيص ذلك بجملة واحدة "نقل الأحزاب السياسية من هامش العملية السياسية إلى صميمها" من خلال قوانين الأحزاب والانتخاب والمناهج الجديدة في المدارس والجامعات.
انعكس ذلك، بالضرورة، على المشهد السياسي بصورة ملموسة، إذ نلاحظ حراكاً حزبياً كبيراً، بخاصة أنّ قانون الأحزاب أمهل الأحزاب الحالية عاماً لتصحّح أوضاعها بما يتناسب مع القانون الجديد، مثل زيادة عدد الأعضاء، ليصل إلى ألف (في الحدّ الأدنى) مع نسبة 20% من الشباب و20% من النساء، والانتشار الجغرافي وغيرها من أمور نصّ عليها القانون، بما يشكّل ديناميكيات مفترضة لتطوير قدرات الأحزاب وإمكاناتها للارتقاء لمواجهة تحدّي بناء قاعدة حزبية وقاعدة جماهيرية تمكّنها من المنافسة والوصول إلى قبّة البرلمان.
للجواب عن السؤال عن حالة الأحزاب والتوقعات المرتبطة بالمرحلة المقبلة، بناءً على نتائج اللجنة الملكية، جاءت الدراسة الميدانية (بالاشتراك بين معهد السياسة والمجتمع وصندوق الملك عبد الله الثاني)، التي ستصدر في كتاب بعد أيام بعنوان "على أعتاب التحول... دراسة ميدانية تحليلية لواقع الأحزاب السياسية الأردنية والمسارات المتوقعة"، وقد شاركتُ في إنجازها مع فريق من الباحثين الرئيسيين والميدانيين، وشملت دراسة المشهد الحزبي الراهن من خلال مجموعة من المؤشرات الرئيسية: البنية الهيكلية والمؤسسية والقيادية، الانتشار الجغرافي، الأجنحة الشبابية والنسوية، الرسائل الإعلامية والقدرات الاتصالية... إلخ.
اعتمدت الدراسة على أكثر من خمسين زيارة ميدانية ومجموعة من ورشات العمل للمجموعات المركّزة مع القيادات الحزبية والشبابية، وكانت النتيجة أنّه بالرغم من العدد الكبير للأحزاب (أكثر من 50) فإنّ عدد الأحزاب التي تمتلك وجوداً فعلياً ولديها الإمكانية على الاستمرار وتصحيح الأوضاع، بل والمنافسة في الانتخابات المقبلة، محدود، ولا يتجاوز أصابع اليدين، بينما الغالبية العظمى من الأحزاب تفتقر إلى البنى الرئيسية؛ على صعيد الهوية السياسية والخطاب والبنية القيادية والكادر الحزبي، فضلاً عن غياب أي قاعدةٍ شعبيةٍ متماسكة وكبيرة لهذه الأحزاب.
في المقابل، حتى لو نجحت بعض الأحزاب في عبور مرحلة تصحيح الأوضاع بصعوبة، بخاصة لدى الأحزاب الوسطية التي تقوم حالياً بعملية الاندماج والضم فيما بينها، فالسؤال الرئيس عما إذا كانت هذه الأحزاب ستكون قادرة فعلاً على الاشتباك مع القواعد الجماهيرية، وتقديم خطاب مقنع وقيادت تحظى بالقبول والشعبية، وهو معبر آخر من الصعب اجتيازه لدى غالبية هذه الأحزاب.
في المحصلة؛ طالما أنّ مخرجات اللجنة الملكية تنقل الأحزاب نحو قلب العملية السياسية، على مراحل، وفي المقابل، لا تزال غالبية الأحزاب السياسية غير قادرة على الوصول إلى هذه المرحلة، فإنّ هنالك فجوة كبيرة في هذا المجال، بخاصة أنّ قانون الانتخاب وضع قائمة وطنية حزبية (تبدأ في الانتخابات المقبلة بثلث مجلس النواب، حتى تصل بعد دورتين إلى 65% من مقاعده)، فما هي الخيارات والحلول المطروحة للتعامل مع هذه الفجوة؟واضحٌ أنّ المشهد الحزبي سيتغير بصورة جذرية وكبيرة في المرحلة المقبلة، وستختفي أغلب الأحزاب السياسية القائمة، إما من خلال الانتهاء عملياً أو سياسات الضم، وستنشأ أحزاب جديدة (بدأت بالفعل خلال الأشهر الماضية تتشكل أنويتها من خلال حراك سياسي ملحوظ) تحاول ملء الفراغ، ورأينا كيف أنّه، على صعيد الاتجاه المحافظ، برز مشروع حزب جديد. وعلى صعيد ما يسمى يسار الوسط، هنالك الحزب الديمقراطي الاجتماعي ومجموعة من المشروعات الحزبية. وعلى صعيد الإسلامية الوطنية، اندمج حزباً الوسط وزمزم في حزب الائتلاف الوطني، وهكذا فإنّ هنالك ألواناً سياسية بدأت تظهر في المشهد، وتركّز على بناء الكوادر الحزبية والقواعد الشعبية والعبور إلى المرحلة الجديدة.
في المقابل، هنالك أحزاب أيديولوجية لديها حضور تاريخي وامتداد سياسي وقواعد شعبية، بالرغم من ضعف مشاركاتها في الانتخابات النيابية، مثل الوحدة الشعبية، والشعب الديمقراطي (حشد)، والبعث الاشتراكي، والحزب الشيوعي، فهنالك عمل مؤسسي أكثر تماسكاً وتمثيل شبابي ونسوي في أغلب هذه الأحزاب، لكن حجم تمثيلها في العملية السياسية، من خلال مجلس النواب، ما زال محدوداً وقليلاً، ولم تستطع هذه الأحزاب مجتمعة في الانتخابات النيابية السابقة إنجاح أيّ مرشّح، مع الإشارة إلى أنّها متفاوتة في حجم الانتشار والقدرات والأنشطة، إذ نجد أنّ حزب الوحدة الشعبية الأكثر نشاطاً، سواء في الجامعات أو الحركات الشبابية وغيرها.
على الجهة المقابلة، يمتلك حزب جبهة العمل الإسلامي، كما أظهرت الدراسة، مقومات هائلة مقارنة بالأحزاب الأخرى، فلديه أجنحة شبابية ونسوية فاعلة، وتداول للمواقع القيادية، وحضور مستمر في الانتخابات النيابية والنقابية والجامعية، فضلاً عن الانتشار الجغرافي والاستراتيجيات المتعلقة بقراءة الواقع والتفاعل معه، والاستراتيجيات الإعلامية والاتصالية المتفوّقة على جميع الأحزاب الأخرى.ومن المفترض أن يمثّل حزب الائتلاف الوطني رقماً مهماً في المشهد السياسي المقبل، فهو يتشكل من قيادات سابقة في الإخوان المسلمين وفي جبهة العمل الإسلامي، ويمثل تياراً واقعياً ولديه قوة شبابية مميزة وفاعلة، لديها تجربة مهمة في العمل التنظيمي، ويتميز بأنّه يمتلك خبرة العمل الإسلامي التقليدي، مع رؤية نقدية وجمع ما بين المساحتين، الوطنية والدينية، وتقديم خطاب يشتبك مع المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية، فمثل هذه المقوّمات، إن تمكن الحزب الجديد من البناء عليها، تشكل له رافعة مهمة في التفاعل مع الشارع وتصميم القاعدة الشعبية المناسبة للحزب.
بالرغم من ازدياد أهمية الاتصال والإعلام في عالم اليوم، بخاصة مع القفزة الكبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، ودورها في إعادة تعريف المجال العام وبناء مفاهيم جديدة في العمل السياسي والاتصال السياسي، وتشكيل الجماهير؛ إلاّ أنّ الكتاب أظهر أن تعامل غالبية الأحزاب السياسية لا يزال مع هذا المجال بدائياً في مستويات إدارة الاعتقاد وصناعة المحتوى الإعلامي وبناء الدعايات السياسية والإعلامية، مع أنّ هنالك فروقاً ملحوظة واضحة في هذا المجال؛ فنجد أنّ أحزاباً، مثل جبهة العمل الإسلامي والوحدة الشعبية والشراكة والإنقاذ، لديها حضور وانتشار إعلامي، لكن من دون وجود طاقم محترف قادر على صناعة الرسائل الإعلامية وتطوير المحتوى.
المهم خلال الفترة المقبلة أن يتحوّل المشهد الحزبي من البعد الشخصي إلى المؤسّسي، وأن يكون هنالك إدراك أنّ الأحزاب هي بمثابة مؤسّسات سياسية تقوم على التخصّص والقيادة والتسويق والبرامج والاستراتيجيات، وليست مجرّد تجمعات لأشخاص يشتركون في تصورات سياسية أو علاقات شخصية. وبالضرورة، يمثل تحوّل كهذا مفتاحاً رئيساً وتحدّيا كبيراً أمام تحقيق الانتقال المطلوب في المشهد السياسي الأردني، لنرى بعد فترة حكومات حزبية تمتلك برامج وسياسات ورؤى.العربي الجديد
مدار الساعة ـ نشر في 2022/08/16 الساعة 09:56