لا أحد يجرؤ أصلا
يتسابق كل مسؤول في هذه البلاد للكلام عن إصلاح حكومته، وأجهزتها، وهو يضمر فعليا في صدره كلفة الرواتب، التي تصل الى 550 مليون دينار، شهرياً، وهي فاتورة مرهقة جدا.
نصف موازنة المملكة السنوية يتم دفعها رواتب للعاملين والمتقاعدين، من خلال الضرائب والرسوم المفروضة على القطاع الخاص، الذي يشقى لتجميع هذا المبلغ من اجل دفع التزامات القطاع العام، والقطاع الخاص اصبح يعمل بالسخرة لدى القطاع العام، وللمفارقة لا يتم تركه حتى الآن، بل يريدون سحب ما تبقى من سيولة لديه، بل ويطالبونه بتخليق المزيد من الوظائف.
لكن خفض فاتورة الرواتب، مثلا، او التخفيف من أحمال القطاع العام في الأردن، يبدو مستحيلا لاعتبارات سياسية واجتماعية وامنية، فمن الذي يجرؤ على خفض عدد الموظفين، ونحن نرى ان كل ما تفعله الحكومة، هو احالة الناس للتقاعد وبعضهم لم يتجاوز خدمة خمسة وعشرين عاما، ونقل مشكلة راتبه، من مخصصات الحكومة، الى مخصصات الضمان الاجتماعي.
هذا يعني ان الحكومات في الأردن، تسببت بضررين كبيرين، الاول انهكت القطاع الخاص، حتى تجمع المال من جيوبه لدفعه لمن يعملون في القطاع العام، وأغلبهم لا يعمل فعليا، والثاني لحقت الضمان الاجتماعي في عقر داره، ورحلت مشكلة الرواتب وعبء الالتزامات من ميزانية الحكومة، الى ميزانية الضمان، في خطوة عبقرية، تدل على اننا بتنا نحرق الاخضر واليابس في حياتنا.
ذات مرة وقبل سنوات وفي لقاء مع الكتاب الصحفيين، قال رئيس حكومة سابقة، ان الاصلاح الاداري في الأردن، لن ينجح الا بالتخلص من مائة ألف موظف حالي، لترشيق الجهاز الحكومي، وجعله اكثر فاعلية، وقد رحل الرئيس، ولم ينفذ افكاره، ولا اظن ان احدا لديه الجرأة اصلا على تنفيذ هكذا مشروع، لاعتبارات سياسية واجتماعية وامنية، لا يحتملها وضع الأردن، اصلا.
لقد فشلت الحكومات في ملف الاصلاح الاداري، فشلا ذريعا، وهذه الاطنان من الموظفين الذين لا يعملون بكفاءة، جاءت بسبب الترضيات والواسطات والتنفيعات، وقلة المحاسبة على الاداء.
بدلا من مراجعة جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وترقيتها، بقينا ندور حول انفسنا، دمج هيئة مع هيئة، وإلغاء هيئة واستحداث هيئة، وفي احسن الحالات التخلص من مديرين على مستويات معينة، للخلاص من رواتبهم العالية، وتحويلهم الى متقاعدين على الضمان الاجتماعي.
كان الاولى بالحكومات في الأردن ان تعمل على ملف ترقية الخدمات، وجودتها، في الدوائر الحكومية، وهي دوائر متهالكة، بطيئة، تعيش في زمن قديم، ويتم التعامل مع الناس بفوقية، ولا يتم انجاز المعاملات في وقتها، وتغيب عن اغلبها الخدمات الالكترونية، فوق غياب الربط الالكتروني، والفاعلية، وسرعة الانجاز، فوق الطوابير التي نراها في كل مكان.
إذا اردت ان تكفر عن ذنوبك في الأردن، وخطاياك، فهذا ممكن، عبر المشقة والتعب، ويمكن تحصيلهما بكل سهولة عند مراجعة اي دائرة حكومية، في هذه البلاد الواسعة، قدس الله سرها.
عدا دائرة الاحوال المدنية والجوازات، وترخيص السيارات، فإن أي أردني يستغفر ألف مرة قبل ذهابه الى اي دائرة حكومية، فذاك يوم مشقة، ومفاجآت، ويكفي الوجوه العابسة للموظفين، والبطء، وكثرة الطلبات، وتعدد التواقيع، في مشهد إداري يقول اننا في زمن خارج هذا الزمن.
المعنى هنا ان الحكومات تتحدث عن الاصلاح الاداري، وعينها على هياكل الموظفين، وعددهم، ورواتبهم، وكثرة المؤسسات المستقلة، والهيئات، وغير ذلك، فيما لا تجرؤ فعليا على اجراء اي عملية جراحية على هذا الملف من هذه الزاوية، بسبب المحاذير من ردود الفعل الشعبية، التي قد تحدث، فيما أضاعت الوقت وهي تلاحق هدفا، قد يكون مستحيلا، وكان الاولى ان تراجع كل الاداء من حيث الروتين والبيروقراطية وسوء الخدمات المقدمة للناس.
سألني مسؤول عربي في عشاء خارج عمان، لماذا يتفوق الأردنيون كخبراء في جودة الخدمات الحكومية، وترقيتها خارج الأردن، ويفشلون هنا، ولاينجحون في اصلاح مؤسساتهم وخدماتها؟.
أجبته يومها باختصار لكن الواقع يقول اننا جميعا ندفع اليوم، كلفة ” الفهلوة” في ادارة القطاع العام، فلا ادى الموظف الحكومي، واجبه، ولا تمت ترقية خدمات مؤسسته وتحسينها، وباتت كل القصة بعد ان فاز الكل بمطامعهم، قصة كيف ندير هذا العبء الكبير، الذي يخنقنا اقتصاديا.