القضاء الأميركي بين السياسة والقانون

أ. د. ليث كمال نصراوين
مدار الساعة ـ نشر في 2022/07/03 الساعة 01:37
أصدرت المحكمة العليا الأميركية قبل أيام حكماً قضائياً وُصِف بأنه تاريخي، فهو يجيز لكل ولاية من الولايات الأميركية أن تفرض القيود التي تراها مناسبة على حق المرأة في الأجهاض. فبعد أن أرست المحكمة ذاتها الحق في الإجهاض واعتبرته حقاً دستورياً في جميع أنحاء البلاد منذ أكثر من (50) عاماً، تعود المحكمة العليا الأميركية عن اجتهادها السابق، معتبرة أن هذا الحق ليس بالمطلق وإنما خاضع للتنظيم والرقابة من قبل كل ولاية على حدة، والذي يمكن أن يصل حد المنع والحظر.
وقد جاء هذا القرار بمناسبة الطعن المقدم للمحكمة العليا الأمريكية ضد القانون المحلي الذي أصدرته ولاية ميسيسيبي، والذي يحظر الإجهاض بعد (15) أسبوعا من الحمل. فقضت المحكمة ذات الأغلبية المحافظة لصالح الولاية، وأقرت بمشروعية الإجراءات التي اتخذتها لتنظيم الحق في الإجهاض، وذلك بأغلبية ستة أصوات مقابل ثلاثة، مبررة قرارها بأن الدستور الأمريكي لا يمنح الحق في الإجهاض، بالتالي يجب إعادة سلطة تنظيمه إلى الشعب ونوابه المنتخبين.
وبهذا تكون أعلى جهة قضائية أمريكية قد نحت منحى مغايرا لما سبق وأن قررته في القضية الأشهر، وهي قضية رو ضد وايد في عام 1973، والتي اعتبرت فيها المحكمة العليا أن حق المرأة في إنهاء حملها محمي بموجب دستور الولايات المتحدة. وهو القرار الذي لم تتردد المحكمة في قرارها الأخير بأن تنتقده بشكل علني بالقول "إن حكم الصادر في عام 1973 والذي سمح بالإجهاض كان خاطئاً، لأن الدستور الأميركي وتحديداً التعديل المتعلق بالحقوق المدنية لا يأتي صراحة على ذكر الحق بالإجهاض".
إن التبعات السياسية لهذا القرار القضائي بدأت تظهر للعيان، حيث اشتعلت الحرب الإعلامية بين مناصري الحزبين الأكبر في الولايات المتحدة بين مؤيد ومعارض لهذا الحكم. فالجمهوريون الذين يسيطرون على تشكيلة المحكمة العليا الأمريكية رحبوا بالقرار باعتباره قد قضى على أحد أعظم المظالم في تاريخ البلاد، وبأنه قد منح الشعب الأميركي بداية جديدة.
في المقابل هاجم الديمقراطيون قرار المحكمة العليا، حيث اعتبره الرئيس الأمريكي بايدن أنه أعاد البلاد (150) عاما إلى الوراء، في حين وصفته رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي بأنه أعطى النساء الأمريكيات حرية أقل من الحرية التي كانت تتمتع بها أمهاتهن. كما سارع حكام الولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون إلى التلويح بالتصدي لهذا القرار من خلال تعديل دساتير ولاياتهم، وتضمينها نصوصا واضحة تكرس الحق في الإجهاض.
ولم يكن "الإجهاض" الضربة الوحيدة التي وجهتها المحكمة العليا الأمريكية لإدارة بايدن الديمقراطية خلال العام الحالي، إذ سبق لها وأن أصدرت قرارا آخر قبل أيام اعترفت فيه ولأول مرة للأمريكيين بالحق فى حمل الأسلحة اليدوية في الأماكن العامة من أجل الدفاع عن النفس. كما أصدرت في بداية هذا العام حكماً آخر قضت فيه بعدم قانونية قرار الرئيس الأمريكي بفرض اللقاح المضاد لفيروس كورونا في الشركات التي توظف أكثر من مئة عامل، وذلك على أساس من القول إنه يعد تدخلا في الحياة الشخصية للموظفين.
وبهذا تكون التوجهات السياسية لقضاة المحكمة العليا الأميركية ظاهرة بشكل جلي فيما يصدر عنهم من أحكام قضائية. فمفهوم الحقوق المدنية والشخصية ونطاقها هو محل اختلاف دائم بين الجمهوريين والديمقراطين، وهذا ما ظهر منذ بداية هذا العام في القرارات القضائية السابقة، والتي كانت الغلبة فيها للجمهوريين، وذلك نتيجة لقيام الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب بتعيين ثلاثة قضاة محافظين خلال ولايته الرئاسية، مما أسس لأغلبية محافظة من ستة قضاة مقابل ثلاثة ليبراليين.
وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة العليا الأميركية تعتبر أعلى جهة قضائية في النظام الاتحادي الأميركي، وأن لديها العديد من الاختصاصات من ضمنها الحق في إبطال أي قانون في حال ثبوت مخالفته لأحكام الدستور، ذلك على الرغم من أنها لا تعتبر محكمة دستورية بالمعنى الدقيق في القانون الدستوري.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق/الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com
مدار الساعة ـ نشر في 2022/07/03 الساعة 01:37