الجنرال الصيني المسلم “تشنغ خه”..

مدار الساعة ـ نشر في 2022/06/25 الساعة 06:00

مدار الساعة -حين يُذكر الرحالة والرحلات الاستكشافية التي جابت بحار العالم القديم، تأتي أسماء مثل"كريستوفر كولومبوس" و"ماجلان" في العالم الغربي، و"ابن بطوطة" و"ابن جبير" في العالم العربي، لكنك ربما لن تسمع عن الرحالة والجنرال الصيني المسلم "تشنغ خه" أو "حجّي محمود شمس الدين"، الذي زار أكثر من 36 دولة ويعتقد أنه وصل القارة الأمريكية قبل كولومبوس بـ60 عاماً.

من ابن عائلة حاكمة إلى أسير "مخصي"

ولد "تشنغ خه" عام 1371 في مقاطعة يونان بجنوب غرب الصين، باسم "ما خه"، لأسرة مسلمة من قومية الهوي الصينية، وكانت أُسرته تحكم مقاطعة يونان، انحدرت تلك الأُسرة من حاكم مغولي يُدعى "شمس الدين عمر" واشتقت العائلة اسمها "ما" من الترجمة الصينية لاسم النبي "محمد".

عام 1381، وعندما كان "ما خه" يبلغ من العمر حوالي 10 سنوات، احتلت القوات الصينية التابعة لسلالة "مينغ" مقاطعة يونان، آخر معقل للسيطرة المغولية في الصين، وكان الطفل "ما خه" من بين الأطفال الذين تم أسرهم.

وكانت العادة لدى الصينيين أن يخصوا بعض أسراهم، ويجعلوهم خدماً يعملون في قصور النبلاء، وأُطلق عليهم "جماعة الخصيان"، وكان "ما خه" من بين أولئك "الخصيان"، وأُرسل للعمل في البلاط الإمبراطوري، في خدمة الأمير "تشو دي" الابن الرابع للإمبراطور الصيني.

أثبت "ما خه" أنه لم يكن مجرد خادم للأمير، وأثبت جدارته في فنون الحرب والدبلوماسية، وكوَّن صداقات قوية في القصر، فعيَّنه الأمير ضابطاً في الجيش، وبعد أن أثبت شجاعته وجسارته في ساحة المعركة، أطلق عليه الأمير اسم "تشنغ خه".

من خادم الأمير إلى مساعد الإمبراطور

أصبح الأمير "تشو دي" إمبراطوراً عام 1402، وبعدها بعام واحد جعل الإمبراطور من مساعده "تشنغ خه"، أميرالاً بحرياً، وكان "تشنغ خه" أول خصي يُعيَّن في مثل هذا المنصب العسكري الرفيع في تاريخ الصين.

وأمره الإمبراطور بالإشراف على بناء أسطول بحري، وإرسال رحلات لاستكشاف البحار المحيطة بالصين، وزيارة الدول الأجنبية وبناء علاقات صداقة والتبادل التجاري معها، فأرسل معه الهدايا من الحرير والمطرزات ومنتجات أخرى قيمة لرؤساء الممالك الأجنبية، أما الهدف الثاني، فكان الاطلاع على أوضاع تلك الأراضي البعيدة والعودة بأخبارها إلى الصين.

"أسطول الكنوز".. والرحلات الـ7

استعداداً لهذه الحملات، بُنيت حوالي 1180 سفينة من مختلف الأنواع والقياسات، ويختلف حجم الأسطول من رحلة إلى أخرى، وتولى "تشنغ" قيادة كل رحلة بنفسه، لكنه غالباً ما كان يعهد إلى مساعديه بالقيام برحلات جانبية، بعيداً عن خط سير الرحلة الرئيسي لتغطية أكبر مساحة ممكنة،

واُطلق عليه اسم "أسطول الكنز".

الرحلة الأولى والسفن الأكبر في التاريخ

إنطلقت الرحلة الأولى عام 1405، مع طاقم قوامه 27800 فرد، كان منهم البحارة والأطباء والحرفيين المهرة والمترجمين والجنود، على متن 62 سفينة كبيرة، منها 4 سُفن رئيسية خشبية ضخمة، كانت من أكبر السُفن التي بُنيت في ذلك الوقت، وكان طول الواحدة منها حوالي 122 متراً وعرضها 50 متراً.

بالإضافة إلى 255 سفينة أصغر بقليل، بعضها تحمل الخيول، وبعضها تحمل المياه العذبة للطاقم، وسفن تنقل القوات العسكرية التي تحمي الأسطول، وامتلأت السفن الأُخرى بآلاف الأطنان من البضائع الصينية الفاخرة للتبادل والتجارة مع الدول الأجنبية خلال الرحلة.

استخدم الأسطول البوصلة للملاحة، وحُرقت أعواد بخور متدرجة لقياس الوقت، وكانت سفن "أسطول الكنز" تتواصل مع بعضها البعض من خلال استخدام الأعلام والفوانيس والأجراس والحمام الزاجل والصنوج واللافتات.

زار الأسطول جنوب فيتنام وتايلاند وملقا وجزيرة جاوة، ثم عبر المحيط الهندي إلى كاليكوت على ساحل مالابار في الهند، ثم وصل سريلانكا، لكن الأسطول واجه مجموعة من القراصنة بالقرب من سومطرة، تمكن "تشنغ" من التغلب عليهم والقبض على قائدهم، وعاد به أسيراً إلى الصين عام 1407.

الرحلة الثانية وتثبيت حكم ملك "كاليكوت"

غادرت رحلة ثانية لـ"أسطول الكنز" في السنة نفسها إلى الهند عام 1407، لكن "تشنغ" لم يذهب في هذه الرحلة وبقي في الصين للإشراف على بعض الإصلاحات للمعابد، لكن الأسطول ساعد في استعادة سلطة ملك "كاليكوت" في الهند، بعد أن واجه الملك تمرداً عسكرياً، وعاد الأسطول الى الصين عام 1409.

الرحلة الثالثة وأسر ملك سريلانكا

لم يثق جميع الملوك في ذلك الوقت بوجود أسطول ضخم يرسو على شواطئهم، دون أن يكون له نوايا عدوانية. فكان ذلك سبباً في اندلاع مواجهات مع ملك "سيلان".

كانت رحلة الأسطول الثالثة بقيادة "تشنغ خه" وانطلقت عام 1409، مكونة هذه المرة من 48 سفينة و30000 رجل، وسارت على مسار الرحلة الأولى، ولكن هذه المرة أنشأ "تشنغ خه" محطات ومستودعات تجارية ومخازن على طول الطريق، لتسهيل تجارة وتخزين البضائع مع الدول.

ولكن عندما وصل الأسطول الى سيلان (سريلانكا الحالية)، لم يستقبلهم الملك وحضَّر جيشاً لمهاجمتهم، لكن "تشنغ خه" بخبرته العسكرية، هزم قوات سيلان على أرضهم، وأخذ ملكهم أسيراً إلى الصين عام 1411.

الرحلة الرابعة زيارة الجزيرة العربية

في رحلته الرابعة، غادر "تشنغ خه" الصين عام 1413 وبعد التوقف في الموانئ الرئيسية في آسيا، توجه غرباً من الهند إلى مضيق هرمز، وأبحر جُزء من الأسطول جنوباً على ساحل شبه الجزيرة العربية. وزارت تلك السفن ظفار وعدن.

وزارت بعثة صينية "مكة"، ثم واصل الأسطول طريقه إلى مصر، وزار البلدات على طول الساحل الشرقي لإفريقيا، فيما يعرف الآن بالصومال وكينيا، وعند عودته إلى الصين عام 1415، اصطحب "تشنغ خه" معه مبعوثين وممثلين من أكثر من 30 دولة زارها، لبناء علاقات الصداقة مع الإمبراطور الصيني.

الرحلة الخامسة لإعادة السفراء إلى بلادهم

بعدها بعامين عاد "أسطول الكنز" ليبحر مرة أخرى، ولكن هذه المرة لإعادة المبعوثين الى دولهم، وانطلقت الرحلة عام 1417، ووصل الأسطول الى الخليج الفارسي والساحل الشرقي لإفريقيا، وأعاد المبعوثين على طول الطريق، ثم عاد الأسطول إلى الصين عام 1419.

الرحلة السادسة وموت الإمبراطور

عام 1421 انطلقت الرحلة السادسة، التي كادت أن تكون الأخيرة، زار خلالها الأسطول مناطق جنوب شرق آسيا والهند والخليج العربي وإفريقيا التي كانت مركزاُ تجارياً مهماً في ذلك الوقت، وفي أواخر عام 1421، انطلق جزء من الأسطول للعودة إلى الصين، وما تبقى من السفن وصل الصين عام 1422.

تشنغ خه - الصين - رحالة مسلم

تمثال "تشنغ خه" shutterstock

وفي تلك السنة نفسها توفي الإمبراطور "تشو دي"، وأصبح ابنه "تشو جاوز هي" إمبراطوراً، والذي لم يكن معجباً بتلك الرحلات، فألغى رحلات "أسطول الكنز" وأمر بُناة السفن والبحارة بوقف عملهم والعودة إلى ديارهم، وعيَّن "تشنغ خه" قائداً عسكرياً برياً لمدينة "نانجينغ".

موت الإمبراطور الجديد والرحلة السابعة والأخيرة

لم يدم مُلك "تشو جاوز هي" طويلاً، وتوفي بعد سنتين من توليه الحكم، وتولى ابنه "تشو زانجي" الحكم، والذي قرر استئناف الرحلات البحرية مرة أخرى، وفي عام 1430 أمر الإمبراطور الجديد

بعودة "تشنغ خه" إلى منصبه السابق أميرالاً بحرياً، لتنطلق الرحلة السابعة التي غادرت في رحلة استكشافية كبيرة تضم 100 سفينة و27500 رجل.

وفي رحلة العودة عام 1433، يُعتقد أن "تشنغ" قد مات؛ وتقول روايات أُخرى إنه توفي عام 1435 بعد عودته إلى الصين.

نهاية عصر الاستكشاف وانغلاق الصين على نفسها

بعد وفاة "تشنغ"، أصبح المسؤولون الصينيون وزعماء الحكومة الصينية المحافظون، انعزاليين بشكل متزايد، والذين استاءوا من وصول أحد الخصيان لهذا المنصب، ، فأوقفوا جميع الرحلات البحرية،

ودمروا في النهاية العديد من السجلات التي توثق رحلاته، وضاعت معها كثير من تفاصيلها.

وحظر الأباطرة الذين وصلوا إلى الحكم بعدها، بناء السفن العابرة للمحيطات؛ لتنتهي رحلات "أسطول الكنز"، الذي زار بقيادة "تشنغ خه" أكثر من 36 دولة خلال 28 عاماً، وزع خلالها الهدايا والعطايا الصينية من الحرير والخزف وسلع أخرى للملوك والأمراء.

وأحضر معه إلى الصين الحمير الوحشية الإفريقية والزرافات، التي وُضعت في حديقة الحيوانات الإمبراطورية، والأهم من ذلك عقد الصداقات واسكتشف أغلب بحار العالم، وفي رحلته السابعة نقل أعداداً كبيرة من المسلمين الصينيين إلى جزر الملاوي، فتحولت بفضله شعوب إندونيسيا وسومطرة وماليزيا إلى أغلبية مسلمة.

ويُعتقد أنه من المحتمل أن تكون إحدى البعثات الجانبية التي أرسلها "تشنغ خه"، وصلت شمال أستراليا خلال إحدى الرحلات السبع، بناءً على القطع الأثرية الصينية التي عُثر عليها، بالإضافة إلى التاريخ الشفوي للسكان الأصليين لأستراليا. كما يُعتقد أنه وصل أميركا قبل "كولومبس" بـ60 عاماً، خصوصاً في ظل الدلائل التي تؤكد وصول سفنه إلى المحيط الأطلسي.

مدار الساعة ـ نشر في 2022/06/25 الساعة 06:00