الدولة ولغة الشارع
كنا في نهاية الثمانينات شباباً يفزع الى الشارع للمشاركة «بيوم الأرض» تلك كانت اللحظات التي نرى فيها جزءاً أصيلا من الهبّة الشعبية للمقاومة بالصراخ ضد المحتل الإسرائيلي الذي لم تؤثر به الحروب فكيف بالهتافات الفارغة، كنا نشارك في الوقفات والتنديد بالاحتلال، ثم شيئا فشيئاً خفتت الأصوات حتى مات يوم الأرض الفلسطينية، وفي آخر مشاركة وجدت جيلا ليس كما نعرفه مليئاً بالكراهية المدفونة، إذ جئنا الى الشارع العام مكان مبنى أمانة عمان اليوم، وكنت أقود سيارة مرسيدس، وإذ ببعض المشاركين يهجمون علينا في محاولة لتكسير زجاج السيارة، وسط شتائم مفاجئة لنا ورفيقيّ وكأننا دبابة إسرائيلية، استمرت المسيرة الى وادي عبدون، فانطلق بعضهم نحو فلل الحي العبدوني وأوجع الشباب نوافذ البيوت بالحجارة بلا ذنب لأهلها.
تلك ليست لحظة غضب على العدو، بل كاشفة للعبث الذي يتسيده الجالسون في قمرّة القيادة الخلفية لدفع الجيل الجديد آنذاك لمزيد من العنف في منطق سياسي خبيث، ومع مرور الأيام فهم الجيل «المضحوك عليه» أنهم يواجهون مصيرا ليس لهم فيه يدّ، إذ كانت سلطة الدولة قوية واعتقال المشاغبين والمعتدين على الأملاك الخاصة وواجهات المحال التجارية، أسهل إجراء يتخذونه ضدهم، دون الخوض هنا عما كانوا يتهمون به رجال الأمن بأنهم عدو، وهذه المعضلة التي لا تزال تراوح مكانها هي من تدبير بعض ما يسمى قيادات حزبية سرعان ما تكشفت غاياتهم بعد خلافاتهم على الغنائم، وخرجت فلسطين من الحلبة.
اليوم تغير الجيل وتغيرت القيادات وتغير العالم كله، ونحن لم نتغير في دولتنا لمواجهة المستقبل الذي يجب أن تكون الشفافية عنوانه، والأخطر هم المسؤولون الذي لا يكاشفون ولا يناقشون بكل صدق واقع الحياة المعيشية للمواطنين، والكُلف الحقيقية للسلع التي يتم استيرادها ابتداءً من حبة القمح حتى المشتقات النفطية مرورا بتعرفة الكهرباء والرسوم والضرائب المزدوجة، ولسوء الحظ فإن العالم كله بات يعاني من ارتفاع الأسعار وانقطاع الإمدادات والتضخم المالي والتضخم العام وفقدان القوة الشرائية للعملات، في ظل بطالة بين الشباب وتعطّل وظيفي لا قِبل لأي حكومة عليه، أأحببناها أم كرهناها.
إن القاعدة الأساس للتطوير السياسي يُبنى على قاعدة التطوير الاقتصادي، ونحن خلال خمس عشرة سنة مضت فاقت معدلات البذخ عند غير الميسورين منا لدرجة الكُفر بالنعمة، وكل ذلك كان من أجل «الفشخرة» والمباهاة السخيفة والتنابز بموديلات المركبات والتفنن ببناء الفلل والقصور، وظهور طبقة المتاجرين والتضخم المالي والقروض البنكية المرهقة، وهروب بعضهم خارج البلاد لعجزه عن السداد، ثم تحولت البلد الى مبان ومركبات من كل الأنواع، بعدما كنا نستخدم المواصلات العامة بكل رضا، حتى مبدأ التوفير لم نعرفه، وطبقة التعليم الخاص أغرتهم الأرباح الهائلة، وتحولت الأراضي الزراعية المنتجة الى بوار ونشأت عليها البيوت والعمارات، بعدما بعناها وبذرنا أثمانها بدل أن نبذرها بالقمح والشجريات.
من هناك نرى كيف أننا لا نمتلك قاعدة حقيقية لقراءة مستقبل الدولة والعمل على الاكتفاء الذاتي، حتى وقعنا اليوم في ورطة الحرب بين دولتين من أهم مصادر الغذاء، روسيا وأوكرانيا، وهبوط معدلات الزراعة والصناعة في كثير من الدول وارتفاع أسعار النفط والطلب على الطاقة بات وحشا كاسرا تعاني منه الدول الكبرى والمنتجة له، فيما في الأردن بات تحصيل فاتورة الرواتب يشكل قلقا في ظل الاختناق الجوارّي وتلاشي المساعدات، والانفاق على المشاريع التشغيلية يحتاج موازنة خاصة ليست موجودة في جيب الحكومة، وعشرات آلاف الخريجين لا يسعهم السوق، فيما القطاع الخاص له قدرة استعيابيه معينة وبما يخدم مصلحته.
إن استغلال بعض الأحزاب التي لم نر منها سوى اعتلاء المايكروفونات والخُطب الفارغة من البرامج ليس سوى عبث لا ينتج شيئا مفيدا لأبناء القرى المنسية ولا العسكر الصامدين ولا الأحياء التي يخرج أبناؤها للبحث عن عمل، وللأمانة هناك حزب واحد عتيق كنت أرى نهاية كل شهر طوابير السيدات وهن يقفن عند مكاتبهم ليقبضن مساعدات مالية لفئة محددة من التابعين لهم، ولكن لم نر منهم أي مدرسة أو مركز صحي ولا حتى حوزة دروشة في أي قرية حول عنق عمان، وما الدعوات للتحشيد وإعادة استجرار المشهد غير المنتج لا نرى منه سوى ما رأينا ممن ركبوا يوما على ظهور البسطاء في «الرابع» ليشتموا الحكومة ثم فازوا بالإبل وبقيت ظهور الحماّلين منحنية ومغلوبة.
ليس دفاعا عن أحد، ولكن يجب أن تقدم الأحزاب والجماعات الرافضة للسياسات بدائل أفضل مما نحن عليه، فأنا شخصيا من أكثر المتضررين، بل عندما أرى أطفالي لا أعلم أي مستقبل ينتظرهم، ولكن هذا الوطن نشأ وتعالى على محيطه بسبب وجود رجال لا تلهيهم تجارة ولا مكاسب، بل كنا نراهم كيف يهبون في الدفاع عن الوطن ويرخصون الغالي الثمين لحماية أمنهم واستقرارهم من عبث العابثين، لا أن نعيد مشاهد الكراهية والأمراض النفسية التي تفحّ أفواه البعض بها، فإن أخطأت حكومة أو جهة رسمية فمصيرها التغيير ولو بعد حين، ولكن هذه دولة يجب أن نقطع فيها دابر المفسدين لا أن نؤججه لأن «رأس البابور حامي».
Royal430@hotmail.com