نصوص قانونية بأثر مستقبلي
تمكن مجلس الأمة بشقيه الأعيان والنواب من إقرار جملة من التشريعات الهامة خلال دورته العادية الأولى التي جرى فَضها قبل أيام. فقد أقر المجلس مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية من تعديلات على الدستور الأردني وإصدار قانونين جديدين للأحزاب السياسية والانتخاب، بالإضافة إلى تعديلات جوهرية على قانوني العقوبات والتنفيذ، وقانون النزاهة ومكافحة الفساد، وقانون منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة.
وثمة قاسم مشترك بين عدد من التشريعات السابقة تتمثل بأنها تضمنت قواعد قانونية لها أثر مستقبلي، بمعنى أن دخولها حيز النفاذ سيكون لاحقا بسنوات لتاريخ سريان القانون المعدل ذاته. ففي الدستور المعدل لعام 2022، جاءت المادة (84/2) منه لتنص على أن تصدر قرارات كل من مجلسي الأعيان والنواب بموافقة ثلثي أصوات الأعضاء إذا كان القرار متعلقا بالقوانين الناظمة للانتخاب والأحزاب السياسية والقضاء والهيئة المستقلة للانتخاب وديوان المحاسبة والنزاهة ومكافحة الفساد والجنسية والأحوال الشخصية، على أن تطبق أحكام هذه الفقرة اعتبارا من مجلس الأمة التالي للمجلس الذي يقر إضافتها.
إن سريان هذا الحكم الدستوري المتعلق بالقوانين ذات الطبيعة الدستورية سيكون في مواجهة مجلس الأمة القادم، على اعتبار أن المجلس الحالي هو من قام بإقرار هذا التعديل. وتكمن الفلسفة من تأخير نفاذ هذا النص الدستوري في تمكين المجلس القائم من إقرار القوانين المرتبطة بالتعديلات الدستورية الأخيرة كالانتخاب، والأحزاب السياسية، والهيئة المستقلة للانتخاب، والمحكمة الدستورية.
وقد اتبع المشرع الأردني النهج ذاته في قانوني العقوبات والتنفيذ المعدلين لعام 2022، حيث تقرر إلغاء الحماية الجزائية للشيكات في مادة (421) من قانون العقوبات وعدم سريانها على الشيكات التي تصدر بعد ثلاث سنوات من نفاذ التعديلات الأخيرة على القانون.
وفي القانون المعدل لقانون التنفيذ، فقد تقرر إدخال حكم تشريعي مستحدث يتعلق بإلغاء حبس المدين إذا عجز عن الوفاء بالتزام تعاقدي - باستثناء عقود الإيجار والعمل - على أن يبدأ سريان هذا التعديل بعد مرور ثلاث سنوات من تاريخ نفاذ أحكام القانون المعدل.
ويبقى التساؤل الأبرز حول الأسباب التي تدفع المشرع الأردني إلى إقرار نصوص قانونية وتأخير سريانها لسنوات عديدة، بدلا من أن يقوم بإجراء تعديل لاحق على القانون وإدخال القاعدة القانونية التي يرغب بها وتطبيقها بأثر فوري.
إن الحكمة من إقرار نصوص قانونية وتأخير سريان نفاذها للمستقبل، تكمن في إعطاء المخاطبين بها الفرصة الكافية لفهمها والعمل بمضمونها، وذلك بدلا من أن تتم مباغتتهم بنصوص قانونية مستحدثة تدخل حيز النفاذ بشكل فوري ومباشر. وهذا هو الحال بالنسبة لجرائم الشيكات، إذ لا يعقل وبعد سنوات من الاستقرار التشريعي على إضفاء حماية جزائية على الشيكات، أن يأتي نص قانوني جديد يقضي بالإلغاء الفوري لهذه القاعدة قانونية. وهو الحال ذاته فيما يخص إلغاء الحبس في الالتزامات التعاقدية لدى دوائر التنفيذ.
وقد يتساءل البعض حول ما يميز القاعدة القانونية التي لم تدخل حيز النفاذ في قانون ساري المفعول عن باقي القواعد الأخرى، وما إذا كان يمكن الطعن بعدم دستورية تلك القاعدة أسوة بالنصوص القانونية الأخرى.
إن اختصاص المحكمة الدستورية كما حددتها المادة (59) من الدستور يشمل الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، وأن أي قاعدة قانونية تقرر سريانها بأثر مستقبلي تكون ضمن قانون نافذ المفعول، إلا أنه لم يبدأ سريانها بعد لكي تعتبر قاعدة قانونية نافذة لغايات الرقابة الدستورية.
إن الدفع بعدم الدستورية كوسيلة من الوسائل الإجرائية لانعقاد الاختصاص للمحكمة الدستورية يُشترط فيه أن تكون هناك دعوى قضائية مقامة موضوعها النص القانوني المطعون بعدم دستوريته. وهذا الأمر من الصعب تحققه في مواجهة القاعدة القانونية المقرة بأثر مستقبلي والتي لا يمكن أن تكون مدار دعوى قضائية أمام قاضي الموضوع، كونه لم يبدأ تطبيقها بعد.
ومع ذلك، فإن خضوع القانون النافذ الذي يتضمن حكما تشريعيا تقرر سريانه بأثر مستقبلي لرقابة المحكمة الدستورية، وصدور القرار القضائي بإعلان عدم دستوريته بشكل كامل، سيؤدي بالضرورة إلى إلغاء القانون برمته، ومن ضمنه أي قاعدة قانونية لم تدخل حيز التنفيذ بعد.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com