عمران خان نموذج ليبرالي تطارده واشنطن
نجاح قوى الدولة العميقة في باكستان بتشجيع أميركي في إسقاط رئيس الوزراء الباكستاني المنتخب عمران خان من منصبه لم ينه الحملة ضده، فهناك تصعيدٌ في حرب قذرة تشنّها أطراف عديدة متنفذة تحدّى خان سيطرتها على مفاصل النظام الباكستاني، وترسّخت عقوداً من الدعم الأميركي والهيمنة الأمنية.
ليس عمران خان زعيماً يسارياً، ولم يَدّع أنه قائد ثوري. هو ليبرالي ضمن التعريف الكلاسيكي لليبرالية، يؤمن بالتعدّدية، وكان دائماً، حتى قبل ولوجه عالم السياسة، مستقلاً برأيه وناقداً للسيطرة الأميركية على بلده. خلال سنواته التي أمضاها في بريطانيا، كان بطل لعبة الكريكيت العالمي، يعبر عن رأيه دائماً، يدين الاحتلال الصهيوني لفلسطين والغزو الأميركي للعراق واستخدام بلاده قاعدة أميركية.
حين أصبح رئيساً للوزراء بعد فوز حزبه بنسبة كبيرة في البرلمان، حاول عمران خان أن يضع حدّاً للتدخل الأميركي الذي جعل من باكستان قاعدة للاختبار والتطبيق العملي لنظريات الحروب الأميركية، وكان أهمها تصنيع إسلام سياسي متطرّف وإقصائي، وإشهاره حربةً في وجه الشيوعية في أوج الحرب الباردة، ومعسكراً لتجميع شباب مسلمين وتعبئتهم من مختلف أنحاء العالم للتعبئة والتدريب على يد الأجهزة الأمنية الباكستانية، وبتمويل من وكالة المخابرات الأميركية.
عملية الإعصار، كما سمّتها أميركا، جعلت من باكستان قاعدة للتطرّف الديني، بدءاً بتجنيد العرب الأفغان، أي العرب الذين ذهبوا للقتال في أفغانستان ضد احتلال الجيش السوفييتي أفغانستان، بل وخلّفت أحزاباً وتيارات وتنظيمات باكستانية وعربية وعالمية متطرّفة، مثل "القاعدة"، التي فَرَخت "داعش"، ومثل حركة طالبان التي بدأت في مدارس دينية للاجئين الأفغان تحت سيطرة الأمن الباكستاني.
العملية الأميركية، التي استغلت مظلوميات حقيقية، ووظّفتها في حروبها، أسّست لتيارات ومراكز متوغلة في الحكم ومستفيدة، بل تطمح إلى استمرار دور باكستان في خدمة أميركا، مستفيدة من موقع باكستان الاستراتيجي قريباً من الاتحاد السوفييتي (وبعده روسيا) ومن القرب من الصين، وفي فترة ماضية؛ محاصرة ومضايقة للهند في عهد حكم عائلة غاندي، وبالأخص أنديرا غاندي التي جاهرت بمناصرتها القضية الفلسطينية وحركات التحرّر الوطني.
سعى خان، في منصبه رئيساً للوزراء، إلى موقف أكثر استقلالية عن واشنطن، رافضاً إملاءات سياسيةً وجد أنها تتعارض مع مصالح بلاده، وبالتالي "نكش في عشّ الدبابير"، فحقبة السيطرة الأميركية لم تنته، إذ كانت وسيلةً للنخب إلى الإثراء والنفاذ إلى مفاصل السلطة والمال، بما في ذلك بعض قيادات تيارات الإسلام السياسي، وإنْ كان بعضها قد انقلب ضد واشنطن، لكنها أصبحت قوىً لها تأثير لا تريد أن تتخلى عنه لصالح رئيس وزراء ليبرالي حداثي، قد يهزّ أعمدة نفوذهم. والنتيجة أنْ سارعت قوى مختلفة، منها نخبٌ، إلى الترحيب بخان في البدء، لكنها تالياً وجدته خطراً على مصالحها، فأسقطته في تصويت ثقةٍ غير مسبوق في مجلس شورى باكستان. وما تزال المعركة مستمرّة، فقد بدأت أجهزة الحكومة أخيراً بتحريك دعوى بتهمة "التجديف" في الدين، بعد أن اعترض معتمرون باكستانيون رئيس الوزراء الجديد شهباز شريف في المسجد النبوي في المدينة المنورة خلال زيارته السعودية، وأطلقوا شعارات ضده وتأييداً لعمران خان. وتتهم السلطات خان وأنصاره بالمشاركة في احتجاج يوم الخميس الماضي ضد شريف هناك، وهذه التهمة قد تودي بخان إلى السجن أو الإعدام. كما هدد وزير الداخلية الباكستاني باعتقال خان بتهمة إثارة الفوضى والشغب، في تأليبٍ واضحٍ للرأي العام ضده.
لم يشفع لعمران خان أنه رأسمالي، ولا موافقته على قرض من صندوق النقد الدولي المرتبط بمفاصل السياسة الدولية، ولا رؤيته الليبرالية وسعيه إلى الإصلاح الاجتماعي، فهو نموذج ليبرالي مختلف ومرفوض، فعزّة النفس واحترام الذات صفاتٌ مرفوضة، إذ كان عليه أن يتخلّى عن ثقافته ومواقفه ليجد الرضى الأميركي والترحيب الداخلي، فما حدث معه هو انقلاب "سلمي" قد يتحوّل إلى دموي، إذ لم يستسلم الرجل، ويبدو أنه مُصِرٌّ على ممارسة الديمقراطية التي يؤمن بها، فهو ما زال مستمرّاً على "تويتر"، يتحدّث إلى الشعب الباكستاني والعالم، ويعقد اجتماعاتٍ متحدّياً إسقاطه وسياسات خلفه شهباز شريف التي يراها عودة إلى أيام الدكتاتورية. وقد يكون الأمر كذلك، لكن هناك مؤشّرات تنذر بتحريض قد يؤدّي إلى اغتيال عمران خان، فللتهم الدينية تبعات خطيرة في بلد مثل باكستان، وقد أدّت تهمة التجديف وحدها، في الماضي، إلى السحل والقتل وهجوم جموع تقوم الحكومة بتهييجها أو دفعها إلى إنزال أنواع عقابٍ شنيعة بالمتهم، بغض النظر عن قرار أي محكمة.
ارتفعت أصواتٌ كثيرة، أخيراً، تشكّك في إسلام عمران خان، مذكرة الجميع بأن زوجته الأولى وأم أطفاله يهودية، وتتهمه بترك الأطفال "عند اليهود لتربيتهم". ولم تقتصر هذه الأصوات على المتعصبين الدينيين، أو محدودي الوعي، بل تشارك في هذا أصواتٌ يفترض أنها "مستنيرة"، وقد لا تهمها ديانة زوجة عمران الأولى، بل تستخدمها سلاحاً قد يكون قاتلاً، مستغلة تأثير التعصّب الديني في البلاد، فوسم اليهود بـ"الشر" في باكستان لا يكون مقروناً دائماً بالاحتلال الإسرائيلي، الذي يساهم في معاداة اليهود، لكنه نتيجة تعصّب ساهمت في تأجيجه المخابرات الأميركية (سي آي إيه) سيئة الصيت، تبعتها معاداة وكراهية لأميركا غير مؤسّسَة على فهم السياسات، بل لا تجد تعبيراً عن نفسها إلا بالتطرّف بالديني.
تنسى النخب المعادية لعمران خان وتتناسى مواقف زوجة عمران خان، البريطانية اليهودية شمايما غولد سميث، وهي سيدة أعمال فائقة الثراء، ما زالت تدين إسرائيل، بل وتنشط بتصريحات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، تفضح جرائم الدولة الصهيونية، وترفض أي عذر يقدّمه الغرب دفاعاً عن إسرائيل. وهذا التجاهل مقصود، فبعضهم لا يهمهم الموقف من إسرائيل أصلاً، لكن التشهير بعمران خان جزءٌ من حملة تحريض قذرة، إذ إنه من منظورهم "خانَ النخب"، فهم تقبّلوه في الأصل رأسمالياً ثرياً، لكنه لم يتصرّف سياسياً مثلهم.
في تغريدة مطولة على "تويتر"، سأل عمران خان الرئيس الأميركي جو بايدن متحدّياً: "هل تعتقد أن إزاحة رئيس وزراء مُنتَخَب وتعيين شخص دمية مكانه في بلد يقطنه 220 مليون شخص سوف يخفّف الحقد على أميركا أم يؤجّجه؟"، وهذا سؤال ذكي وفي مكانه، لكن أميركا اعتادت الاعتماد على دمى وأدوات تستخدم كل أساليب القمع والقتل لتقديم أوراقها لواشنطن.. وفي وقتنا الحالي لدى قليل من الحكام الجرأة أو الرغبة بتحدّي أميركا، ولذا يراهن جو بايدن بأن يجد عمران خان نفسه وحده.. وعمران خان في دائرة الخطر، وإذا حدث له مكروه، فالمجرمون ليسوا في داخل باكستان وفي واشنطن فقط، بل هم كل من يمجّد نموذج التبعية.