داودية يكتب: شئ من الذكريات الحميمة!

محمد داودية
مدار الساعة ـ نشر في 2022/05/07 الساعة 01:41

أصبحت في تمام الاستعداد النفسي إلى قفزة في المجهول، إلى مغامرة ومغادرة حوزتي وفقاعتي في المفرق والذهاب إلى المدينة الكبيرة.

لم تكن عمان بالنسبة لنا سوى ممر عبور بالسيارة، في طريقنا من الشمال، إلى الكرك أو الطفيلة أو معان أو العقبة والعودة، دون حتى تفكير بالنوم فيها.

ذكرني انتقالي أنا الشاب النصف بدوي والنصف قروي إلى مدينة اسمنتية غامضة، بالأفلام المصرية التي تعرِض انتقالَ الشاب الصعيدي إلى القاهرة ومعاناته وضياعه.

لكنني لم أكن سهلا.

فلم يكن بالإمكان بيعي المدرج الروماني أو جبلي عمان واللويبدة، لأنني لم أكن املك ما اشتري به اكثر من ساندويشات لمدة 3 أيام، ولإنني كنت «فِتِح» !!

كنت شديد البأس، فلم أذهب إلى عمان على ضعفٍ او صَغَارٍ أو ضِعة.

***

أصبحت مهيأ تمام التهيئة إلى الانتقال لمهنة جديدة، مختلفة كليا عن مهنة التدريس، التي امضيت فيها أحد عشر عاما اهّلتني إلى الحياة !

عملت في مدرسة عبد الله بن رواحة في المفرق بمعية المدير الراقي طالب أحمد الشواقفة - أبو نبيل. ومع المعلمين حنا حداد وغازي هلال النمري- الباشا.

يوم 9 شباط 1977، وفي ظروف جوية سيئة، سقطت الطائرة السمتية -الطوافة التي كان يقودها الطيار العالي الكفاءة بدر الدين ظاظا، وكان على متنها الملكة علياء الحسين والدكتور محمد البشير وزير الصحة ومهند ألخص مرافق الملكة.

سقطت الطوافة وهي في طريق العودة من زيارة إلى مستشفى الطفيلة، إثر شكوى تقدم بها مواطن حول سوء خدمات المستشفى وتجهيزاته.

قررتُ زيارة الدكتور المتميز محمد طايل الشواقفة- أبوزيد، الذي تم تعيينه مديرا لمستشفى الطفيلة.

وهو قريب مدير مدرستي المحترم الأستاذ طالب الشواقفة وأصدقائي رجل الأعمال الشيخ نوفان ضيف الله الشواقفة وشقيقه الصيدلاني نايف الشواقفة.

في سيارة السرفيس من عمان إلى الطفيلة، يَسَّر اللهُ لي راكبا، لم يتوقف عن سرد المشاكل التي تعاني منها محافظة الطفيلة.

قررت الإقدام على مغامرة وعلى فعل كبير خطير، له عواقب وخيمة، لن تطالني إن أنا أتقنت التمويه.

كان عدد من المعلمين موقوفين، لخلاف مع مدير التربية الذي وجد زجاج سيارته محطما في الصباح.

وكان عطاء بناء درج شاهق للمدرسة الثانوية، قد شابه غش بيّن.

وكان هناك من استولى على أراض قرب بلدة القادسية وحرثها بتواطؤ رسمي وبتراكتورات رسمية !.

انتحلت صفة صحفي لأتمكن من الكتابة عن تلك المشاكل من الداخل.

كانت أول المستلزمات أن يكون معي مصور. فاصطحبت الصديق المصور جمال مسودة وذهبنا إلى المتصرف- الحاكم الإداري الذي ابلغه الحاجب أن الصحافي محمد داودية من صحيفة «الأخبار» قادم من عمان ويطلب مقابلته.

فُتِحت لي الأبواب على مصاريعها فقد كان استقبال المتصرف بمثابة حصان طروادة.

وبعد شرب الشاي، عاتبت المتصرف على حبس المعلمين. وطالبت أن أزورهم في «النظارة» الكائنة في البقيع.

اتصل المتصرف هاتفيا بمدير الشرطة قائلا: الصحافي محمد داودية من صحيفة «الأخبار» في الطريق إليك فدعه يقابل المعلمين الموقوفين.

قابلت المعلمين المحبوسين ورجعت إلى المتصرف ناصحا أن يفرج عنهم، ففعل.

وانتشر كالنار في الهشيم أنني «أطلقت المحابيس».

توجهت إلى حيث المشاكل الأخرى وأجريت تحقيقات كانت أشبه بالتحقيقات الجنائية.

كان المصور جمال مسودة معي، لا يتوقف عن التقاط الصور وهو لا يعلم أنه يساهم إلى حد كبير في التمويه وفي جعله كامل الإتقان.

وفي غمرة انهماكي الشديد وبسبب ضيق الوقت لم أتمكن من تحقيق الهدف الذي جئت من اجله وهو زيارة الدكتور محمد طايل الشواقفه مدير المستشفى !!!

أخذت مجموعة الصور من جمال وعدت إلى المفرق فكتبت تحقيقا مطولا مصورا بعنوان «الطفيلة تحت الصفر»، تقليدا لعنوان رواية معالي الصديق العريق يحيى يخلف «نجران تحت الصفر»، رتبته ووضعت له مقدمة وصورا، أرسلتها إلى الأستاذ راكان المجالي رئيس تحرير صحيفة الأخبار، فنشرها بعد عدة أيام في 4 حلقات تحت عنوان «الطفيلة 77»

انتشيت وأنا أرى اسمي مطرزا على ورق الصحيفة،

تحقيق: محمد حسن داودية.

تصوير جمال مسودة.

ولاحقا عندما طالبني جمال بثمن الصور قلت له مازحا وأنا اعرض عليه الثمن، إنني وضعت اسمه على التحقيق الصحافي وهذا أكبر دعاية له، فغرق في الضحك ورفض قبض المبلغ و"مشّاها".

***

مع بدء العطلة الصيفية، ذهبت إلى صحيفة الأخبار، زرت رئيس تحريرها الاستاذ راكان المجالي الذي عرّفني على الاستاذ فؤاد سعد النمري مالك الصحيفة.

دعاني النمري إلى مكتبه وسألني: ماذا تشتغل يا محمد؟

اجبته: اعمل مدرسا.

قال: أنت خُلقت صحفيا ومكانك هنا معنا في الصحيفة. عرض عليّ فؤاد النمري- أبو فارس ضعف راتبي الذي كان 45 دينارا، فوافقت على الاستقالة من وزارة التربية.

في الاثناء، وصلت الموافقة على النقل من مدرسة عبد الله بن رواحة الى المدرسة العبدلية -العسبلية، الواقعة في طلوع الحايك بجبل عمان.

داومت فيها أسبوعين، كان جوّها مغلقا مكتوما، اين منه اجواء مدارس القرى الفسيحة الرحبة، ومناسف وقلايات وصواني ومناقيش وعلاقات وسهرات معلميها الاجتماعية شبه اليومية.

**

لعبت افلام السينما والمجلات الفنية والروايات الرومانسية، دورا رئيسا في تشكيل وخلق أجواء الحب في تلك البلدة الصحراوية الجافة الهادئة الوادعة، التي تنام على الساعة التاسعة.

كان راديو الترانزستر، هو سيد الإعلام. وكان الاستماع إلى المحطات الإذاعية متعة.

خطابات نارية وهجوم ضارٍ من صوت العرب على الأردن. وهجوم مضاد من الإذاعة الاردنية في عمان والقدس.

ونقل اذاعي حي ومباشر لمباريات كرة القدم من مختلف المدن العربية والأوروبية. ومسابقات وبرامج ثقافية وبرامج للادباء الواعدين، كان الإقبال عليها هائلا.

كان يشرف على البرامج الثقافية اعلامُ الأدب والإعلام الأردني الكبار: عبدالرحيم عمر ورشيد زيد الكيلاني وحسني فريز وروكس بن زائد العزيزي وتيسير السبول وجورج حداد وحيدر محمود وطارق مصاروة وراكان المجالي وامين شنار.

اتيحت لي السينما والمجلات بلا مقابل. حضرت مجانا كل الأفلام لمدة 5 سنوات متواصلة. كان خالي مشري مزعل مشري آل خطاب مُشغّل السينما «الأوبريتر». وجاء بعده «الاوبريتر» محمود كساب صديق العمر.

اما المجلات الفنية والسياسية والصحف، فلم يُتَح لأحدٍ ان يطالعها بالقدر الذي طالعتها فيه لسنوات ومجانا.

فقد اشتغلت ايضا بائع صحف في العطل الصيفية.

كنت أمرّ كل صباح على مكتبة العم محمد عبد القادر سكر العقايلة، شيخ مثقفي المفرق. أحمل من مكتبته الصحف والمجلات الأردنية والعربية وانطلق بها فأجلس في ظل بيت، أفردها واطالعها كلها، من الجلدة إلى الجلدة، قبل أن امضي إلى بيعها للسياسيين والصبايا والشباب.

كانت الصبايا اليافعات يحتفظن بصور نجوم السينما في كتبهن المدرسية أو تحت وسائد النوم. ويتبادلن ويتهادين صور نجومهن المفضلين: عمر الشريف، أحمد رمزي، كمال الشناوي، عماد حمدي، أحمد مظهر، رشدي أباظة، عبد الحليم حافظ وفريد الاطرش.

وكان الشباب يحتفظون بصور النجمات المصريات الجميلات: فاتن حمامة، ناديا لطفي، ميرفت امين، سعاد حسني، هند رستم، إيمان، صباح، زبيدة ثروت، برلنتي عبد الحميد، تحية كاريوكا، سامية جمال ونجوى فؤاد.

كان حُب تلك الأيام حبا عذريا، مؤثرا، جديا وحارا. مراهقة عاطفية طبيعية في أعمار الشباب.

لقد مات اكثر ذلك الحب في مهده.

من أشهر قصص الحب في المفرق، قصة الكاتب فايز محمود. لقد فشل ذلك الحب، كما كنا نتوقع. لكنه حب صنع منه كاتبا ومثقفا من أبرز مثقفي الأردن.

وقصة حب (م.ع) الذي أوشك ان يقضي عليه، وتسبب في دخوله إلى المستشفى لتلقيه ضربه سكين من شقيق الفتاة الحمش الغاضب.

وقصة حب عبدالوهاب بغدادي شقيق الموسيقار سمير بغدادي، الذي تسبب في مغادرته وأسرته المفرق نهائيا.

قصة الحب هذه التي بطلها الخطاط والرسام المرهف عبدالوهاب، هي القصة الوحيدة التي انتهت بزواج ناجح جدا.

اقام عبدالوهاب في سوريا وهناك ربح جائزة معرض دمشق الدولي الكبرى -البريمو- فافتتح مشغلا لتخطيط القارمات المضاءة.

قصص حب عذري كثيرة، لا يمكن الإفصاح عن كل اسمائها وتفاصيلها !

كانت رسائل الشباب يكتبها كاتب واحد. ويستلم كل شاب نسخة من الرسالة يضع عليها اسم حبيبته ويوصلها بعدة طرق.

وكانت المراهقات اليافعات، يكتبن رسالة واحدة. وتستلم كل واحدة منهن نسخة منها تضع عليها اسم صاحبها وترسلها، بعد أن ترش عليها كمية من العطر وترسم عليها القلوب والقبلات !!

تغير كل ذلك حين دخلتُ على الخط. فقد كنت اكتب رسالة مختلفة لكل حبّيب. تم اصبحت اكتب الردود على تلك الرسائل من كل حبّيبة.

* من كتابي "من الكسارة إلى الوزارة" الصادر حديثا عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع.

مدار الساعة ـ نشر في 2022/05/07 الساعة 01:41