صمد أمام الاستعمار والزلزال.. مسجد “سيدي غانم” بالجزائر ثاني أقدم جوامع المغرب العربي

مدار الساعة ـ نشر في 2022/05/06 الساعة 15:53
مدار الساعة -يعتقد بعض الجزائريين أنّ مسجد "عقبة بن نافع" الموجود بمدينة بسكرة، هو أقدم مسجد بالجزائر، لحمله اسم أول قائد للفتوحات الإسلامية بإفريقيا وبلاد المغرب، ولكن المسجد الأقدم منه هو "سيدي غانم"، الذي بناه الفاتح الثاني، التابعي أبو المهاجر دينار، في عام 59هـ، الموافق 678م، في حين أنّ المسجد الأول بُني سنة 66هـ، وذلك بعد وفاة عقبة في عام 63هـ الموافق 682م.
"سيدي غانم" ثاني أقدم مسجد بالمغرب العربي بعد مسجد "القيروان" بتونس، ولا يزال قائماً حتى الآن بمدينة "ميلة القديمة"، شرق الجزائر، والتي تعد متحفاً وطنياً مفتوحاً، يضم الكثير من آثار الحضارات النوميدية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.
تاريخ دخول الإسلام إلى الجزائر
يميل المؤرخون إلى أنّ الإسلام وصل إلى شمال إفريقيا في عهد الخليفة الثاني، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ حيث فتح القائد عمرو بن العاص مصر في عام 20هـ، الموافق 641م.
وبعد سنتين من ولايته لمصر، قرر عمرو بن العاص مواصلة الفتوحات الإسلامية غرباً؛ فتوجه نحو المناطق التي كانت خاضعة للإمبراطورية البيزنطية، وتسكنها قبائل أمازيغية؛ ففتح بعض المدن التي تنتمي حالياً لدولة ليبيا، على غرار برقة وطرابلس وصبراتة، كما كلف عقبة بن نافع بقيادة جيش فتح به مدن وقرى أجدابية وزويلة وفزان.
وعقب فتح عمرو بن العاص لطرابلس في سنة 23م، ترك بها حامية عسكرية، وعاد إلى عاصمته بمصر "الفسطاط"، بعدما رفض الخليفة عمر طلبه بالزحف نحو "إفريقية" التي كانت تضم تونس الحالية وأجزاءً واسعة من الشرق الجزائري.
وكان سبب تأجيل عمر بن الخطاب فتح إفريقية هو انشغال جيوش المسلمين بتقويض دولتي الروم والفرس بالشام والعراق، وهو ما وقع فعلاً في فترة خلافته، ثم في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
وبعد استتباب الأمور في الشام والعراق، كتب الخليفة عثمان لوالي مصر، عمرو بن العاص، يطلب منه الاستعداد لمهمته الجديدة، لكنه كلف عبد الله بن سعد بن أبي السرح بقيادة الجيش الذي خرج من الفسطاط نحو إفريقية، في أواخر سنة 29هـ، الموافق 649م، ودخلها في أوائل عام 30هـ الموافق 650م، حيث فتح مدن قابس وسبيطلة وقفصة.وقبل رجوع عبد الله بن سعد بن أبي السرح إلى المدينة المنورة، عيّن عبد الله بن نافع بن عبد القيس خلفاً له على إفريقية سنة 33هـ الموافق 653م، لكن أهلها سرعان ما نكثوا العهد ورفضوا دفع الجزية، مستغلين انهماك الدولة الإسلامية الناشئة بالفتنة التي وقعت بعد وفاة الخليفة عثمان بن عفان في سنة 35هـ الموافق 656م، واستمرت بعد اغتيال الخليفة الرابع علي بن أبي طالب في سنة 40هـ الموافق 661م.
ولما انتهت الفتنة بعد عقد البيعة لمعاوية بن أبي سفيان، أعاد الأخير تعيين عمرو بن العاص والياً على مصر حتى وفاته في سنة 43 هـ، حيث خلفه في الولاية ابنه عبد الله لمدة سنتين، قبل أن يتم تعيين معاوية بن حديج والياً جديداً في سنة 45هـ (666م)، فأمره الخليفة بإعادة فتح إفريقية، فكان له ذلك بمساعدة والي "برقة"، عقبة بن نافع الفهري، الذي ذاع صيته ووصلت أصداء بطولاته مسامع الخليفة، فنصبه في سنة 50هـ الموافقة لسنة 670م، والياً على إفريقية.
وقرر عقبة بن نافع إنشاء مدينة في وسط إفريقية تكون بمنزلة قيرواناً، أي مركزاً عسكرياً دائماً، وذلك لِتثبيت الفتح الإسلامي فيها، فبدأ بناءها سنة 51هـ، وأنهاها عام 55هـ، وسماها "القيروان"، حيث بنى فيها أول مسجد بالمغرب العربي، يحمل اسم المدينة نفسها التي أصبحت قاعدة انطلاق الفتوحات نحو المغرب الأوسط (الجزائر حالياً) والمغرب الأقصى.
لماذا بنى أبو المهاجر دينار مسجده؟
عقب تعيين مسلمة بن مُخلد الأنصاري والياً على مصر في عام 57 هجرياً، قام معاوية بن أبي سفيان بعزل عقبة من ولاية إفريقية، وضمها لمصر، ثم قرّر مسلمة تعيين خالد بن ثابت الفهمي نائباً له على إفريقية وبلاد المغرب. وبعد وفاة خالد عيَّن مسلمة عليها مولاه "أبا المهاجر دينار".
لم يستقر أبو المهاجر دينار كثيراً بمدينة القيروان، فتنقل بين عدة مدن صغيرة مجاورة، ثم توجه غرباً لفتح بلاد المغرب الأوسط، ووصل حتى مدينة تلمسان (513 غرب الجزائر العاصمة)، حيث فتحها بمساعدة القائد البربري كسيلة بن لمزم وأتباعه من قبيلة "أوربة"، الذي كان قد دخل الإسلام بعدما كان من أشد المحاربين له، وتختلف الروايات حول بقائه على دين التوحيد فيما بعد أو ارتداده عنه.
وبعد فتحه للمغرب الأوسط عاد أبو مهاجر دينار إلى الشرق، فأعاد فتح مدينة قرطاج بتونس، ثم رجع غرباً ليستولي على مدينة ميلة، الواقعة على بعد 396 شرق الجزائر العاصمة، والتي كانت تُسمى في ذلك الوقت "ميلاف"، فاتخذها مقراً لإقامته.
وعلى الرغم من أن عقبة بن نافع وأبا المهاجر دينار كانا من أكبر الفاتحين المسلمين لشمال إفريقيا وبلاد المغرب، إلا أنهما كانا يختلفان في بعض النقاط، مثل أنّ أبا المهاجر كان أكثر مهادنة مع القبائل في مسألة دخول الإسلام.
وبسبب الخلاف بين القائدين، فإنّ أبا مهاجر دينار فضل الاستقرار في مدينة أخرى غير "القيروان" التي بناها عقبة بن نافع، فكان أن أقام بمدينة "ميلة" التي كانت في ذلك الوقت إحدى أربع أكبر مدن لنشر المسيحية بالمنطقة، وهي سيرتا (قسنطينة حالياً) وكولو (القل) وروسيكادا (سكيكدة).
ووجد أبو مهاجر دينار "ميلة" مدينة قائمة بذاتها، ولم يضف إليها سوى دار الإمارة ومسجداً بناه عام 59هـ الموافق 678م، والذي يُسمى حالياً "سيدي غانم"، فيما يُفضل البعض تسميته "مسجد أبي مهاجر دينار"، نسبة للفاتح الإسلامي، ويعد المسجد ثاني مسجد يؤسَّس في المغرب العربي بعد مسجد "القيروان"، الذي بناه عقبة بن نافع.كان يُعتقد في السابق أنّ مسجد أبي المهاجر دينار قد بُني على أنقاض كنيسة مسيحية رومانية، لكن الحفريات التي قام بها الباحثون وعلماء الآثار، في 1968م، كشفت أنه شُيّد بمحاذاة كنيسة رومانية تسمى "بازيليكا" وليس على أنقاضها، وهو الأمر الأقرب للصواب، بحكم أنّ المسلمين لم يكونوا يدمرون الكنائس والصوامع خلال غزواتهم وفتوحاتهم.
وحسبما أوضح الباحث في التاريخ الجزائري، نور الدين بوعروج، لوكالة "الأناضول" فإن مسجد سيدي غانم يتخذ شكلاً مستطيلاً يتربع على مساحة 820 متراً مربعاً، وأن هندسته تشبه تلك التي يتميز بها المسجد الأموي بدمشق بسوريا، ومسجد القيروان بتونس.
ووصف بوعروج المسجد قائلاً: "يحتوي على 4 واجهات، الرئيسة تقع في الجهة الشرقية، وتطل على حيز فسيح، ويتوسطها المدخل الرئيس، يؤدي إلى الصحن ومنه إلى بيت الصلاة".
ويضم المسجد برجين، يمثلان الملاحق الجنوبية والشمالية، ومحور الدرجات الذي يحتوي على باب بارز، إضافة إلى ممر يؤدي إلى الطابق العلوي ببيت الصلاة، عبر ثلاث درجات، وطابقٍ ثانٍ فوق المسجد، وكذا حيزٍ ينفتح به بابان.
ولفت الباحث الجزائري إلى أنه كان في منارة المسجد 365 درجاً حسب أيام السنة، ذات علو شاهق، مقارنة بما كانت عليه بنايات ذلك العصر بمدينة ميلة.
وصمد مسجد أبي المهاجر دينار أمام عوامل الطبيعة و طول الزمن بوصفه بناية ومركزاً دينياً تنويرياً وحضارياً، لكنه تعرض للطمس والتشويه بمجرد سقوط مدينة ميلة بين أيدي الاستعمار الفرنسي في سنة 1838م؛ حيث حوله لثكنة عسكرية، يحيط بها سور المدينة الذي يعود تاريخ بنائه لفترة الوجود البيزنطي بالمدينة (من 539م إلى 678م)، بطول 1200 متر، ويوجد به 14 برجاً للمراقبة.
وأشار بوعروج إلى "أنّ فرنسا انتقمت من السكان بتحويل المسجد إلى ثكنة لجيشها، كما هدمت وشوهت كثيراً من معالمه ذات الطابع المعماري الإسلامي، منها منارته، واستغلال حجارتها في بناء مرافق لها".
المسجد صمد أيضاً أمام الزلزال الذي ضرب مدينة ميلة يوم 7 أغسطس/آب 2020 بقوة 3.1 على مقياس ريختر، لكن، ومنذ مطلع العام الماضي 2021، باشرت الجزائر عملية ترميم جديدة على المسجد؛ حيث لا تزال الأعمال متواصلة حتى الآن.
مدار الساعة ـ نشر في 2022/05/06 الساعة 15:53