'الجمعة اليتيمة' في رمضان.. بين الفسطاط والقدس!
مدار الساعة ـ نشر في 2022/04/30 الساعة 20:47
مدار الساعة - اعتاد أهل القدس ومَن حولها في آخر جمعة من رمضان أن يتوافدوا إلى المسجد الأقصى من كل ناحية قريبة أو بعيدة بعشرات الآلاف رجالاً ونساءً، شِيباً وشباباً، أطفالاً وفتياناً، يودّعون الشهر ويؤانسونه ويبكونه أحرّ بكاء، وكأنهم في عزاءٍ مبكر يشهد احتضار الشهر وأذان رحيله ومكابدة انتزاع الروح منه، ويتحسّرون على انقضاء اجتماعهم بمسجدهم الذي يشدون الرحال إليه في كل جمعة من ذلك الشهر العظيم كما كان آباؤهم من قبل، فتكون هذه الجمعة الباكية جمعة الوداع، وسمّوا تلك الجمعة بالجمعة اليتيمة تشبيهاً لها باليتيم الذي فقد عائله والقائمَ عليه، ولا أدري هل يقصدون أنفسهم بوصف اليتم أم يصفون المسجد الأقصى بذلك!
وهذه العادة يجتهد الفلسطينيون في بقائها في الوقت الذي تموت فيه في بلدان عديدة تحوّلت إلى موسم وطنيّ مشبوب بعاطفة قوية يهدف إلى تعزيز حضور القدس والمسجد الأقصى في نفوس المجتمع، وربط هويتهم بهما، وتأكيد استعدادهم للدفاع عنها، وإظهار قيمتها وأولويتها لديهم في مواجهة أطماع "الإسرائيليين" وسياساتهم تجاهها كما فعل الناصر صلاح الدين من قبل في إحياء موسم النبي موسى ومسيرات البيارق الهادرة.
ولا نعرف بالضبط متى نشأت هذه العادة التراثية في الثقافة الفلسطينية، لكن كثيراً ما كانت تقاليد الجمعة اليتيمة في القدس تستورد شعائرها من مصر، حيث كانت القاهرة تترنّم في أيام "التواحيش" الحزينة منذ اليوم الأول من العشر الأواخر من رمضان لتبلغ ذروتها في آخر جمعة منه، ويؤدي ترانيم التواحيش متطوعون ومنتدبون من المنشدين والمغنين والمسحراتية المتباكين على فراق الشهر، مذكّرين بفضائله التي ستفوت على الساعين العاملين فيه، يترنّمون بلغة حزينة في أسطح منازلهم وزواياهم وبيوتهم ومآذنهم قائلين:
لا أوحش الله منك يا شهر رمضان!
يا شهر القرآن!
يا شهر المصابيح!
يا شهر التراويح!
يا شهر المفاتيح!
لا أوحش الله منك يا شهر الصيام!
لا أوحش الله منك يا شهر القيام!
وفي مصر الفاطمية كان الخليفة الفاطمي يتحرك في مواكب معطّرة؛ إذ كان يصرف لهذا الموكب من خزانة التوابل الندّ وماء الورد والعود والبخور الفاخر، حيث يتحرك الخليفة في الجمعة الرمضانية الثانية في موكبه إلى جامع الحاكم، وفي الجمعة الثالثة إلى الجامع الأزهر، وفي الجمعة الرابعة إلى جامع عمرو بن العاص في الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية الأولى حيث أول المساجد الرسمية الجامعة، وهناك وعقب صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان يذاع بلاغ رسمي كان يسمّى سجل البشارة، وتواصل الاحتفاء الرسمي والشعبي بالمناسبة إلى زمان قريب، حيث كان ملك مصر يشارك الناس في صلاة الجمعة اليتيمة بموكبه الكبير في جامع عمرو بالفسطاط، وظل هذا الأمر قائماً حتى ثورة الضباط الأحرار عام 1952م.
وتجدون صدى الاحتفاء بهذه المناسبة على امتداد النيل؛ حيث اعتاد الناس في السودان إلى وقت قريب على إحياء "الرحْمتات" وهي نحت جميل من قولهم "الرحمة تأتي" أو "الرحمة أتت" في إشارة إلى تتابع الرحمات وتكاثرها في هذه الجمعة التي تعتاد فيها الأسر الميسورة ذبح بعض الشياه وصغار الماعز وتوزيع لحمها المطبوخ طعاماً مع فتة ساخنة على الأطفال الطائفين عليهم في غناء متصل يُفرِح الجميع وينشر الرحمة والبهجة فيهم حتى يختموها بدعائهم الجماعيّ "الله يرحم ميتينكم".
ولا يبعد أن يكون هذا الاحتفاء المقدسي بالجمعة اليتيمة من بقايا تأثر الناس ببعض آراء المتفقّهة والصوفية المتأخرين الذين كانوا من ذوي النفوذ الشعبي العريق في الثقافة الشعبية الفلسطينية، حيث رغّب هؤلاء الناسَ في الاستدراك على أنفسهم والعودة إلى دينهم باستثمار هذا اليوم المبارك العظيم في هذا الشهر المبارك العظيم في ليالي العشر.
وزعموا للناس أن (مَن قضى صلاةً من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة)، فيأتي هؤلاء المفرِّطون اليائسون فيصلون بعد الجمعة سبع عشرة ركعة متصلة في جماعات هي عدد ركعات اليوم والليلة المفروضة، يظنون أنهم قضوا ما فرّطوا فيه من قبل في سنوات الترك الطويلة، وغسلوا كبائر إثمهم بذلك؛ ومَن كان تفريطه أقلّ في شأن صلواته المفروضة فيكفيه أن يصلي الجمعة في آخر جمعة رمضانية مستندين إلى حديث موضوع لا يُعرَف قائله: (من صلى في آخر جمعة من رمضان الخمس الصلوات المفروضة في اليوم والليلة قَضَت عنه ما أخلّ به من صلاةِ سَنَته) .
وقد انتشر هذا الأمر في معظم مساجد الدنيا، بل شاعت عندهم عادة اتّكاليّة عرفها الناس باسم "حفائظ رمضان" يقولون إنها تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات إذا كتبها المأموم في آخر جمعة منه أثناء خطبة الإمام وهو على منبره، يكتبون فيها هذه الطلاسم المختلطة: (لا آلاءَ إلا آلاؤك يا الله، إنك سميع عليم، محيط به علمك، كعسهلون!!! وبالحق أنزلناه وبالحق نزل).
وقد بالغ الناس في ذلك حتى باتت هذه المفاهيم خطراً على الدين ذاته، ولفخر الهند عبد الحي اللكنوي تأليف جامع سمّاه "ردع الإخوان عما أحدثوه في آخر جمعة رمضان"؛ وقد بالغ بعضهم في تخييل الأمر حتى قال لمريديه إنّ قيامة الناس تكون في هذه الجمعة الأخيرة، وإذا كتب الله لهم شهودها فإن المسجد سيرتفع عن أهوال القيامة بمَن فيه فيكتب الله لهم دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب!!
ثم وجدنا بعضهم بعد دهر طويل يؤسس على تلك التقاليد الشعبية فأطلق "يوم القدس العالمي" في الجمعة اليتيمة، وهو أمر دِعائيّ سيّسوه استناداً إلى قضية رابحة سياسياً واجتماعيّاً يدْعون فيه إلى نصرة القدس وإعلاء ذكرها، ثم حدَث ما يخشاه الناس من تسييس وصباغة بلون مذهبيّ حيث بات إعلامُهم يُوهِم أنّ احتشاد أهل القدس في تلك الجمعة استجابة للداعي الخميني، وكأن المقدسيين من أتباعه، وأنهم يؤمنون بمقالته، ولم يفطَنوا إلى أنها عادة قويّة أبقاها الفلسطينيون قائمة لاعتبارات خاصة، وظروف داعية، بعد أن جرّدوها من انحرافات المبطِلين!
وفي العموم فإن هذا اليوم من السنة بات اليوم سلاحاً شعبيّاً يحرص الفلسطينيون على استثماره في معركتهم مع الاحتلال بكفاءة واحتراف تتجدد مهاراته عاماً بعد عام.
وهذه العادة يجتهد الفلسطينيون في بقائها في الوقت الذي تموت فيه في بلدان عديدة تحوّلت إلى موسم وطنيّ مشبوب بعاطفة قوية يهدف إلى تعزيز حضور القدس والمسجد الأقصى في نفوس المجتمع، وربط هويتهم بهما، وتأكيد استعدادهم للدفاع عنها، وإظهار قيمتها وأولويتها لديهم في مواجهة أطماع "الإسرائيليين" وسياساتهم تجاهها كما فعل الناصر صلاح الدين من قبل في إحياء موسم النبي موسى ومسيرات البيارق الهادرة.
ولا نعرف بالضبط متى نشأت هذه العادة التراثية في الثقافة الفلسطينية، لكن كثيراً ما كانت تقاليد الجمعة اليتيمة في القدس تستورد شعائرها من مصر، حيث كانت القاهرة تترنّم في أيام "التواحيش" الحزينة منذ اليوم الأول من العشر الأواخر من رمضان لتبلغ ذروتها في آخر جمعة منه، ويؤدي ترانيم التواحيش متطوعون ومنتدبون من المنشدين والمغنين والمسحراتية المتباكين على فراق الشهر، مذكّرين بفضائله التي ستفوت على الساعين العاملين فيه، يترنّمون بلغة حزينة في أسطح منازلهم وزواياهم وبيوتهم ومآذنهم قائلين:
لا أوحش الله منك يا شهر رمضان!
يا شهر القرآن!
يا شهر المصابيح!
يا شهر التراويح!
يا شهر المفاتيح!
لا أوحش الله منك يا شهر الصيام!
لا أوحش الله منك يا شهر القيام!
وفي مصر الفاطمية كان الخليفة الفاطمي يتحرك في مواكب معطّرة؛ إذ كان يصرف لهذا الموكب من خزانة التوابل الندّ وماء الورد والعود والبخور الفاخر، حيث يتحرك الخليفة في الجمعة الرمضانية الثانية في موكبه إلى جامع الحاكم، وفي الجمعة الثالثة إلى الجامع الأزهر، وفي الجمعة الرابعة إلى جامع عمرو بن العاص في الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية الأولى حيث أول المساجد الرسمية الجامعة، وهناك وعقب صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان يذاع بلاغ رسمي كان يسمّى سجل البشارة، وتواصل الاحتفاء الرسمي والشعبي بالمناسبة إلى زمان قريب، حيث كان ملك مصر يشارك الناس في صلاة الجمعة اليتيمة بموكبه الكبير في جامع عمرو بالفسطاط، وظل هذا الأمر قائماً حتى ثورة الضباط الأحرار عام 1952م.
وتجدون صدى الاحتفاء بهذه المناسبة على امتداد النيل؛ حيث اعتاد الناس في السودان إلى وقت قريب على إحياء "الرحْمتات" وهي نحت جميل من قولهم "الرحمة تأتي" أو "الرحمة أتت" في إشارة إلى تتابع الرحمات وتكاثرها في هذه الجمعة التي تعتاد فيها الأسر الميسورة ذبح بعض الشياه وصغار الماعز وتوزيع لحمها المطبوخ طعاماً مع فتة ساخنة على الأطفال الطائفين عليهم في غناء متصل يُفرِح الجميع وينشر الرحمة والبهجة فيهم حتى يختموها بدعائهم الجماعيّ "الله يرحم ميتينكم".
ولا يبعد أن يكون هذا الاحتفاء المقدسي بالجمعة اليتيمة من بقايا تأثر الناس ببعض آراء المتفقّهة والصوفية المتأخرين الذين كانوا من ذوي النفوذ الشعبي العريق في الثقافة الشعبية الفلسطينية، حيث رغّب هؤلاء الناسَ في الاستدراك على أنفسهم والعودة إلى دينهم باستثمار هذا اليوم المبارك العظيم في هذا الشهر المبارك العظيم في ليالي العشر.
وزعموا للناس أن (مَن قضى صلاةً من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة)، فيأتي هؤلاء المفرِّطون اليائسون فيصلون بعد الجمعة سبع عشرة ركعة متصلة في جماعات هي عدد ركعات اليوم والليلة المفروضة، يظنون أنهم قضوا ما فرّطوا فيه من قبل في سنوات الترك الطويلة، وغسلوا كبائر إثمهم بذلك؛ ومَن كان تفريطه أقلّ في شأن صلواته المفروضة فيكفيه أن يصلي الجمعة في آخر جمعة رمضانية مستندين إلى حديث موضوع لا يُعرَف قائله: (من صلى في آخر جمعة من رمضان الخمس الصلوات المفروضة في اليوم والليلة قَضَت عنه ما أخلّ به من صلاةِ سَنَته) .
وقد انتشر هذا الأمر في معظم مساجد الدنيا، بل شاعت عندهم عادة اتّكاليّة عرفها الناس باسم "حفائظ رمضان" يقولون إنها تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات إذا كتبها المأموم في آخر جمعة منه أثناء خطبة الإمام وهو على منبره، يكتبون فيها هذه الطلاسم المختلطة: (لا آلاءَ إلا آلاؤك يا الله، إنك سميع عليم، محيط به علمك، كعسهلون!!! وبالحق أنزلناه وبالحق نزل).
وقد بالغ الناس في ذلك حتى باتت هذه المفاهيم خطراً على الدين ذاته، ولفخر الهند عبد الحي اللكنوي تأليف جامع سمّاه "ردع الإخوان عما أحدثوه في آخر جمعة رمضان"؛ وقد بالغ بعضهم في تخييل الأمر حتى قال لمريديه إنّ قيامة الناس تكون في هذه الجمعة الأخيرة، وإذا كتب الله لهم شهودها فإن المسجد سيرتفع عن أهوال القيامة بمَن فيه فيكتب الله لهم دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب!!
ثم وجدنا بعضهم بعد دهر طويل يؤسس على تلك التقاليد الشعبية فأطلق "يوم القدس العالمي" في الجمعة اليتيمة، وهو أمر دِعائيّ سيّسوه استناداً إلى قضية رابحة سياسياً واجتماعيّاً يدْعون فيه إلى نصرة القدس وإعلاء ذكرها، ثم حدَث ما يخشاه الناس من تسييس وصباغة بلون مذهبيّ حيث بات إعلامُهم يُوهِم أنّ احتشاد أهل القدس في تلك الجمعة استجابة للداعي الخميني، وكأن المقدسيين من أتباعه، وأنهم يؤمنون بمقالته، ولم يفطَنوا إلى أنها عادة قويّة أبقاها الفلسطينيون قائمة لاعتبارات خاصة، وظروف داعية، بعد أن جرّدوها من انحرافات المبطِلين!
وفي العموم فإن هذا اليوم من السنة بات اليوم سلاحاً شعبيّاً يحرص الفلسطينيون على استثماره في معركتهم مع الاحتلال بكفاءة واحتراف تتجدد مهاراته عاماً بعد عام.
مدار الساعة ـ نشر في 2022/04/30 الساعة 20:47