استُشهد وهو يحاول فتح فرنسا!
مدار الساعة ـ نشر في 2022/04/28 الساعة 23:19
مدار الساعة - محمد شعبان ايوب
من يقرأ في صفحات التاريخ الإسلامي يُدرك كيف كانت شخصية عُمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، الخليفة الأموي العادل، أو الخليفة الراشدي الخامس كما أطلق عليه بعض العلماء والمؤرخين، وهو حفيد الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من ناحية الأم، وكيف كان هذا الرجل في إدارته وأخلاقه بين خلفاء وأمراء البيت الأموي، سواء السابقين له أم اللاحقين عليه، ولعل لهذه الأخلاق العالية، وتحري العدل والصدق، ومراقبته الدائمة لله تعالى في حركاته وسكناته، كان السبب في اختيار ابن عمه سُليمان بن عبد الملك بن مروان؛ ليكون خليفته وخليفة المسلمين أجمعين بعد وفاته سنة 99هـ.
لقد كان عمر بن عبد العزيز بمثابة الوزير والناصح الدائم لابن عمه سُليمان، الذي تولى قيادة المسلمين فيما بين أعوام 96- 99هـ/ 715- 717م، كما كان على اطلاع دائم على دهاليز قيادة الدولة، ومعرفة بالموظفين والولاة وقادة الجيوش ومَن دونهم، وفق هذا ومعه تولى إمارة المدينة المنورة لعدة سنوات، وكان والده عبد العزيز بن مروان والياً على مصر لعشرين سنة كاملة، هذا الانخراط في الإدارة واتخاذ القرار، بالإضافة إلى تقواه وعدله وإخلاصه؛ أهّله ليتقلد خلافة المسلمين بمنطق الخبير والإداري العليم، فضلاً عن الرجل الصادق الشفيق على المسلمين ومصالحهم.
ومن هذا المنطلق، كانت خلافة عمر بن عبد العزيز (99- 101هـ/718- 720م) تجديداً كاملاً في مفاهيم الإدارة واختيار الولاة والرجال؛ فقد كان يتحرى عوامل الخبرة والقوة مع الأمانة والصدق فيمن يتولى الوظائف العامة، ولم يكن يهتم كثيراً بمقوّمات النسب أو الولاء الشخصي، وقد ظهر ذلك في إمارة الأندلس التي كانت تشهد حالة من الاحتراب الأهلي بعد مقتل واليها عبد العزيز بن موسى بن نصير، ثاني ولاة الأندلس بعد والده الفاتح موسى بن نصير، وذلك في عام 97هـ، وارتقاء الحر بن عبد الرحمن الثقفي لهذه الولاية.
فكيف نظر عمر بن عبد العزيز لولاية الأندلس؟ ولماذا اختار لها السّمح بن مالك الخولاني دون غيره؟ ولماذا جعلها ولاية مستقلة بذاتها بعدما كانت تابعة لولاية شمال إفريقيا "إفريقية" التي كانت عاصمتها القيروان آنذاك؟ ذلك ما سنراه في قصتنا التالية.
معيار الاختيار
كان والي المغرب والأندلس في حياة سليمان بن عبد الملك بن مروان هو محمد بن يزيد، وكان محمد هذا قد عيّن الحر بن عبد الرحمن الثقفي والياً على الأندلس، وهو أول الولاة الأندلسيين المسلمين الذين عبروا جبال البرانس الفاصل الجغرافي بين الأندلس وفرنسا، لكن عمر بن عبد العزيز بعد ارتقائه للخلافة في صفر سنة 99هـ رأى أن يعزل محمـد بن يزيد والي المغرب والأندلس، ويولّي مكانه إسماعيل بن أبي المهاجر.
ولتولية إسماعيل مكان محمد بن يزيد قصة وعبرة؛ فقد كانت العادة جرت إذا بعَثَ الولاةُ بجبايات وأموال الأمصار والولايات أن يُرسلوا معها وفداً من عشرة رجال من وجوه الناس والقادة العسكريين؛ ليحلفوا بين يدي الخليفة بأنه ما من درهم ولا دينار من الأموال التي جاؤوا بها إلا وأُخذ من حقه، وأنه مال زائد عن نفقات البلد من المقاتلين والعامة، وقد جاء وفد إفريقية "تونس وما يجاورها" بخراجها مرة من المرات في أيام سليمان بن عبد الملك، فحلف ثمانية من رجاله بأن ما معهم من الأموال قد أُخذ بحقه وحلاله، لكن اثنين لم يحلفا، هما إسماعيل بن عبد الله والسّمح بن مالك الخولاني، فأعجب ذلك عمر بن عبد العزيز الذي كان شاهداً على هذه الواقعة، وحفظها لهما، وأدرك أمانتهما، فحين تولى الخلافة، أصدر قراره بتعيين إسماعيل بن عبد الله على إفريقية، وولّى السمح بن مالك على الأندلس.
وما كاد إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر يصل إلى القيروان عاصمة إفريقية؛ حتى أرسل السمحَ بن مالك الخولاني، تنفيذاً لقرار الخليفة عمر بن عبد العزيز، والياً على الأندلس، فبلغَها السمح في شهر رمضان سنة 100هـ/أبريل 719م، ولما ولي السمح الأندلس لم يكن قد مر على فتحها سوى ثماني سنوات فقط، وبسبب ذلك لم تكن البلاد مستقرة، ولا كان أهلها قد خضعوا بعد للحكم الإسلامي خضوعاً تاماً، لا سيما النبلاء القوط المسيحيين المنهزمين من قريب.
وقد أدرك عمر بن عبد العزيز من مقر خلافته في دمشق الخطر الذي يمكن أن يتعرض له المسلمون في هذه البلاد المنقطعة جغرافيّاً عن العالم الإسلامي خلف البحار؛ لا سيما وأن أعداد المسلمين فيها قليلة مقارنة بالأعداء المسيحيين في الشمال وفي الأندلس ذاتها من بقايا القوطيين، فكتب إلى السمح يطلب منه إرسال تقرير عن أوضاع المسلمين، ويستشيره في إخراج المسلمين من هذه البلاد خوفاً عليهم من قوة العدو.
وعلى خلاف ما كان يتوقعه عُمر، رفع السمحُ تقريراً إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يطمئنه فيه بانتشار الإسلام والمسلمين في الأندلس، وأن أعدادهم في ازدياد، وقد تكاثروا واستقروا فيها، فعدل عُمر عن مشروعه، لكن المؤرخ المغربي ابن عُذارى المراكشي (ت 695هـ/1296م) في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" يُعقّب على هذه القصة قائلا: "ولَيْتَ اللهُ تعالى أبقاه (أي عمر بن عبد العزيز) حتى يفعل (أي يُخرج المسلمين من الأندلس)؛ فإن مصيرهم مع الكفّار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله برحمته".
والحق أن السمح بن مالك الخولاني اتبع نصائح الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الأموي في الرفق والعدل، وإقامة كلمة الحق والدين، فكان السمح مع ذلك حاكماً وافر الخبرة والحكمة، وقد استغل استقلالية الأندلس وتبعيتها مباشرة إلى الخليفة في دمشق بعدما كانت تابعة لولاية شمال إفريقيا في القيروان، فقبض على زمام الأمور بحزم وهمّة، وبادر بقمع المنازعات والفتن، وإصلاح الإدارة والجيش.
القيادة الاستراتيجية
لكن أهم ما قام به السمحُ بن مالك وضع استراتيجية واضحة فيما يتعلق بالإصلاحات الداخلية في الأندلس، وحركة الفتوحات الخارجية، التي بدأت في التوسع في جنوب فرنسا؛ ففي الداخل حرص على توحيد العاصمة قرطبة، وسهولة الحركة فيها، فعمل على تجديد قنطرة الوادي الكبير، وكان الرومان قد عقدوا على نهر الوادي الكبير قنطرة أي جسراً، فلما فتح المسلمون الأندلس كانت هذه القنطرة قد تهدّمت، ولم يكن قد بقي منها إلا أُسسها وعدد من حناياها، ففي سنة 101هـ ورد كتاب من عمر إلى السمح يأمره فيه بتجديد بناء القنطرة بحجارة يأخذها من السور، وأن سور المدينة لم يكن ذا أهمية مادام المسلمون قد كثروا وسادوا الأندلس، فشرع السمح في بناء هذه القنطرة، وهي التي لا تزال باقية في قرطبة إلى يومنا هذا بعد أكثر من ألف وثلاثمائة عام على بنائها!
ومن أهم الإصلاحات الإدارية التي قام بها السمح "تخميس الأندلس"؛ أي إعادة المسح الجغرافي لكامل الأندلس، وتخصيص ريع خُمس الأراضي التي فُتحت عنوة لينفق منه على الفتوحات وعلى مصالح المسلمين، وما بقي من الأخماس الأربعة يُبقيها بين مَن غنمها من الفاتحين الأوائل وأبنائهم كما جرت العادة في الحالات المشابهة في العراق والشام وغيرها، كما خصّص السمح خُمس مساحة قرطبة لإنشاء مقبرة عامة للمسلمين، فأخرج البطحاء المعروفة بالربض لهذا الغرض، وهي الضاحية الجنوبية من قُرطبة.
أما على الصعيد الخارجي؛ فقد أراد السمح أن يتوسع المسلمون في فتوحاتهم الشمالية في جبال البرانس وجنوب فرنسا، ويُعد من أوائل الولاة المسلمين الذين مهّدوا الطريق أمام أبطال معركة بواتييه أو بلاط الشهداء فيما بعده بأربعة عشر عاماً على الأقل؛ إذ أدرك السمح بن مالك خطورة الاختلافات الداخلية بين القبائل العربية أو بين العرب والبربر، وأن بقاء المقاتلين في العاصمة هو أصل الداء في إحداث القلاقل والفتن، وأثره في إمكانية إعادة العدو الشمالي من الفرنجة "الفرنسيين" أو البشكنس "البرشلونيين" الكرَّة على المسلمين نحو الجنوب.
كان السمح أيضاً مهتمّاً بالملف الخارجي، ومتابعاً ما كان ينتاب فرنسا التي كانت تحكمها الأسرة الميروفية عن كثبٍ، وهي أسرة كانت تعيش حالة من الضعف والتخبط، يستبد بالأمور فيها الوزراء والحُجّاب، ويستغل أمراء الأطراف من النبلاء تلك الحالة بالاستقلال شبه التام عن الملوك، وعلى رأس هؤلاء أُودون أمير أكويتانية في جنوب فرنسا، الذي اتخذ من مدينة تولوز عاصمة له.
استشهاد السّمح وإنجازاته لمن بعده
ولهذه الأسباب مجتمعة، وفي عام 100 هجرية/719م، انطلق السمح بن مالك الخولاني بجيوش المسلمين من قرطبة عابراً جبال البرانس، ومتخذاً الطريق الساحلي إلى مدينة أربون "ناربون" المطلة على البحر المتوسط في جنوب فرنسا، واستطاع فتحها، لكن هذا الفتح لم يستمر طويلاً، فأعاد الهجوم عليها مرة أخرى في أواخر سنة 102هـ/ربيع سنة 721م، ففتحها وحصّنها بالمقاتلين والعتاد والأغذية اللازمة، ثم اتجه شمالاً غرب مدينة تولوز التي حاصرها ورماها بالمنجنيق، فلما علم أُودون بهجوم السمح وقوات المسلمين، وكان في الشمال، عاد مسرعاً للدفاع عن عاصمته بصحبة الآلاف من الجرمان والفرنسيين، ورغم أن قوات المسلمين كانت قليلة العدد؛ فإنهم استطاعوا هزيمة قوات الفرنسيين بقيادة أُودون في بادئ الأمر.
الأندلس
قرطبة عاصمة الأندلس / Shutterstock
وعادت المعركة واشتدت شرارتها من جديد حول مدينة تولوز، وبحلول يوم عرفة في 9 ذي الحجة من عام 102هـ/10 يونيو 721م، وفي خضم هذه المواجهة الشرسة، وقع السمح بن مالك الخولاني شهيداً، وقد أدى هذا إلى اضطراب صفوف جيش الأندلس، لكن تمكن أحد كبار القادة المسلمين بحكمته وشجاعته من الانسحاب بباقي الجند سالمين إلى الأندلس، ذلك القائد كان عبد الرحمن الغافقي الذي سيقود شرارة المواجهة ضد الفرنسيين فيما بعد، والذي سيتمكن من فتح نصف فرنسا، وسيصل إلى مسافة 300 كم جنوب العاصمة باريس!
لم يؤدِّ استشهاد السمح بن مالك الخولاني في تولوز إلى انسحاب المسلمين من أربونة جنوب فرنسا، بل على العكس بقيت في أيديهم حصناً ومكاناً للتعبئة والانطلاق نحو العدو، ورصداً لتحركاته، وكان أهم ما تمكن السمح بن مالك من تحقيقه أنه أعاد اللُّحمة للأندلس وأصلحها إدارياً وعسكرياً، في مدة ولايته التي استمرت سنتين وثمانية أشهر فقط لم يُخيّب نظرة الخليفة العادل عُمر بن عبد العزيز، وكان سبباً مهماً في احتضان وارتقاء عبد الرحمن الغافقي فيما بعد، وهذه من أهم مؤهلات القيادة الحكيمة.
عربي بوست
لقد كان عمر بن عبد العزيز بمثابة الوزير والناصح الدائم لابن عمه سُليمان، الذي تولى قيادة المسلمين فيما بين أعوام 96- 99هـ/ 715- 717م، كما كان على اطلاع دائم على دهاليز قيادة الدولة، ومعرفة بالموظفين والولاة وقادة الجيوش ومَن دونهم، وفق هذا ومعه تولى إمارة المدينة المنورة لعدة سنوات، وكان والده عبد العزيز بن مروان والياً على مصر لعشرين سنة كاملة، هذا الانخراط في الإدارة واتخاذ القرار، بالإضافة إلى تقواه وعدله وإخلاصه؛ أهّله ليتقلد خلافة المسلمين بمنطق الخبير والإداري العليم، فضلاً عن الرجل الصادق الشفيق على المسلمين ومصالحهم.
ومن هذا المنطلق، كانت خلافة عمر بن عبد العزيز (99- 101هـ/718- 720م) تجديداً كاملاً في مفاهيم الإدارة واختيار الولاة والرجال؛ فقد كان يتحرى عوامل الخبرة والقوة مع الأمانة والصدق فيمن يتولى الوظائف العامة، ولم يكن يهتم كثيراً بمقوّمات النسب أو الولاء الشخصي، وقد ظهر ذلك في إمارة الأندلس التي كانت تشهد حالة من الاحتراب الأهلي بعد مقتل واليها عبد العزيز بن موسى بن نصير، ثاني ولاة الأندلس بعد والده الفاتح موسى بن نصير، وذلك في عام 97هـ، وارتقاء الحر بن عبد الرحمن الثقفي لهذه الولاية.
فكيف نظر عمر بن عبد العزيز لولاية الأندلس؟ ولماذا اختار لها السّمح بن مالك الخولاني دون غيره؟ ولماذا جعلها ولاية مستقلة بذاتها بعدما كانت تابعة لولاية شمال إفريقيا "إفريقية" التي كانت عاصمتها القيروان آنذاك؟ ذلك ما سنراه في قصتنا التالية.
معيار الاختيار
كان والي المغرب والأندلس في حياة سليمان بن عبد الملك بن مروان هو محمد بن يزيد، وكان محمد هذا قد عيّن الحر بن عبد الرحمن الثقفي والياً على الأندلس، وهو أول الولاة الأندلسيين المسلمين الذين عبروا جبال البرانس الفاصل الجغرافي بين الأندلس وفرنسا، لكن عمر بن عبد العزيز بعد ارتقائه للخلافة في صفر سنة 99هـ رأى أن يعزل محمـد بن يزيد والي المغرب والأندلس، ويولّي مكانه إسماعيل بن أبي المهاجر.
ولتولية إسماعيل مكان محمد بن يزيد قصة وعبرة؛ فقد كانت العادة جرت إذا بعَثَ الولاةُ بجبايات وأموال الأمصار والولايات أن يُرسلوا معها وفداً من عشرة رجال من وجوه الناس والقادة العسكريين؛ ليحلفوا بين يدي الخليفة بأنه ما من درهم ولا دينار من الأموال التي جاؤوا بها إلا وأُخذ من حقه، وأنه مال زائد عن نفقات البلد من المقاتلين والعامة، وقد جاء وفد إفريقية "تونس وما يجاورها" بخراجها مرة من المرات في أيام سليمان بن عبد الملك، فحلف ثمانية من رجاله بأن ما معهم من الأموال قد أُخذ بحقه وحلاله، لكن اثنين لم يحلفا، هما إسماعيل بن عبد الله والسّمح بن مالك الخولاني، فأعجب ذلك عمر بن عبد العزيز الذي كان شاهداً على هذه الواقعة، وحفظها لهما، وأدرك أمانتهما، فحين تولى الخلافة، أصدر قراره بتعيين إسماعيل بن عبد الله على إفريقية، وولّى السمح بن مالك على الأندلس.
وما كاد إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر يصل إلى القيروان عاصمة إفريقية؛ حتى أرسل السمحَ بن مالك الخولاني، تنفيذاً لقرار الخليفة عمر بن عبد العزيز، والياً على الأندلس، فبلغَها السمح في شهر رمضان سنة 100هـ/أبريل 719م، ولما ولي السمح الأندلس لم يكن قد مر على فتحها سوى ثماني سنوات فقط، وبسبب ذلك لم تكن البلاد مستقرة، ولا كان أهلها قد خضعوا بعد للحكم الإسلامي خضوعاً تاماً، لا سيما النبلاء القوط المسيحيين المنهزمين من قريب.
وقد أدرك عمر بن عبد العزيز من مقر خلافته في دمشق الخطر الذي يمكن أن يتعرض له المسلمون في هذه البلاد المنقطعة جغرافيّاً عن العالم الإسلامي خلف البحار؛ لا سيما وأن أعداد المسلمين فيها قليلة مقارنة بالأعداء المسيحيين في الشمال وفي الأندلس ذاتها من بقايا القوطيين، فكتب إلى السمح يطلب منه إرسال تقرير عن أوضاع المسلمين، ويستشيره في إخراج المسلمين من هذه البلاد خوفاً عليهم من قوة العدو.
وعلى خلاف ما كان يتوقعه عُمر، رفع السمحُ تقريراً إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يطمئنه فيه بانتشار الإسلام والمسلمين في الأندلس، وأن أعدادهم في ازدياد، وقد تكاثروا واستقروا فيها، فعدل عُمر عن مشروعه، لكن المؤرخ المغربي ابن عُذارى المراكشي (ت 695هـ/1296م) في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" يُعقّب على هذه القصة قائلا: "ولَيْتَ اللهُ تعالى أبقاه (أي عمر بن عبد العزيز) حتى يفعل (أي يُخرج المسلمين من الأندلس)؛ فإن مصيرهم مع الكفّار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله برحمته".
والحق أن السمح بن مالك الخولاني اتبع نصائح الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الأموي في الرفق والعدل، وإقامة كلمة الحق والدين، فكان السمح مع ذلك حاكماً وافر الخبرة والحكمة، وقد استغل استقلالية الأندلس وتبعيتها مباشرة إلى الخليفة في دمشق بعدما كانت تابعة لولاية شمال إفريقيا في القيروان، فقبض على زمام الأمور بحزم وهمّة، وبادر بقمع المنازعات والفتن، وإصلاح الإدارة والجيش.
القيادة الاستراتيجية
لكن أهم ما قام به السمحُ بن مالك وضع استراتيجية واضحة فيما يتعلق بالإصلاحات الداخلية في الأندلس، وحركة الفتوحات الخارجية، التي بدأت في التوسع في جنوب فرنسا؛ ففي الداخل حرص على توحيد العاصمة قرطبة، وسهولة الحركة فيها، فعمل على تجديد قنطرة الوادي الكبير، وكان الرومان قد عقدوا على نهر الوادي الكبير قنطرة أي جسراً، فلما فتح المسلمون الأندلس كانت هذه القنطرة قد تهدّمت، ولم يكن قد بقي منها إلا أُسسها وعدد من حناياها، ففي سنة 101هـ ورد كتاب من عمر إلى السمح يأمره فيه بتجديد بناء القنطرة بحجارة يأخذها من السور، وأن سور المدينة لم يكن ذا أهمية مادام المسلمون قد كثروا وسادوا الأندلس، فشرع السمح في بناء هذه القنطرة، وهي التي لا تزال باقية في قرطبة إلى يومنا هذا بعد أكثر من ألف وثلاثمائة عام على بنائها!
ومن أهم الإصلاحات الإدارية التي قام بها السمح "تخميس الأندلس"؛ أي إعادة المسح الجغرافي لكامل الأندلس، وتخصيص ريع خُمس الأراضي التي فُتحت عنوة لينفق منه على الفتوحات وعلى مصالح المسلمين، وما بقي من الأخماس الأربعة يُبقيها بين مَن غنمها من الفاتحين الأوائل وأبنائهم كما جرت العادة في الحالات المشابهة في العراق والشام وغيرها، كما خصّص السمح خُمس مساحة قرطبة لإنشاء مقبرة عامة للمسلمين، فأخرج البطحاء المعروفة بالربض لهذا الغرض، وهي الضاحية الجنوبية من قُرطبة.
أما على الصعيد الخارجي؛ فقد أراد السمح أن يتوسع المسلمون في فتوحاتهم الشمالية في جبال البرانس وجنوب فرنسا، ويُعد من أوائل الولاة المسلمين الذين مهّدوا الطريق أمام أبطال معركة بواتييه أو بلاط الشهداء فيما بعده بأربعة عشر عاماً على الأقل؛ إذ أدرك السمح بن مالك خطورة الاختلافات الداخلية بين القبائل العربية أو بين العرب والبربر، وأن بقاء المقاتلين في العاصمة هو أصل الداء في إحداث القلاقل والفتن، وأثره في إمكانية إعادة العدو الشمالي من الفرنجة "الفرنسيين" أو البشكنس "البرشلونيين" الكرَّة على المسلمين نحو الجنوب.
كان السمح أيضاً مهتمّاً بالملف الخارجي، ومتابعاً ما كان ينتاب فرنسا التي كانت تحكمها الأسرة الميروفية عن كثبٍ، وهي أسرة كانت تعيش حالة من الضعف والتخبط، يستبد بالأمور فيها الوزراء والحُجّاب، ويستغل أمراء الأطراف من النبلاء تلك الحالة بالاستقلال شبه التام عن الملوك، وعلى رأس هؤلاء أُودون أمير أكويتانية في جنوب فرنسا، الذي اتخذ من مدينة تولوز عاصمة له.
استشهاد السّمح وإنجازاته لمن بعده
ولهذه الأسباب مجتمعة، وفي عام 100 هجرية/719م، انطلق السمح بن مالك الخولاني بجيوش المسلمين من قرطبة عابراً جبال البرانس، ومتخذاً الطريق الساحلي إلى مدينة أربون "ناربون" المطلة على البحر المتوسط في جنوب فرنسا، واستطاع فتحها، لكن هذا الفتح لم يستمر طويلاً، فأعاد الهجوم عليها مرة أخرى في أواخر سنة 102هـ/ربيع سنة 721م، ففتحها وحصّنها بالمقاتلين والعتاد والأغذية اللازمة، ثم اتجه شمالاً غرب مدينة تولوز التي حاصرها ورماها بالمنجنيق، فلما علم أُودون بهجوم السمح وقوات المسلمين، وكان في الشمال، عاد مسرعاً للدفاع عن عاصمته بصحبة الآلاف من الجرمان والفرنسيين، ورغم أن قوات المسلمين كانت قليلة العدد؛ فإنهم استطاعوا هزيمة قوات الفرنسيين بقيادة أُودون في بادئ الأمر.
الأندلس
قرطبة عاصمة الأندلس / Shutterstock
وعادت المعركة واشتدت شرارتها من جديد حول مدينة تولوز، وبحلول يوم عرفة في 9 ذي الحجة من عام 102هـ/10 يونيو 721م، وفي خضم هذه المواجهة الشرسة، وقع السمح بن مالك الخولاني شهيداً، وقد أدى هذا إلى اضطراب صفوف جيش الأندلس، لكن تمكن أحد كبار القادة المسلمين بحكمته وشجاعته من الانسحاب بباقي الجند سالمين إلى الأندلس، ذلك القائد كان عبد الرحمن الغافقي الذي سيقود شرارة المواجهة ضد الفرنسيين فيما بعد، والذي سيتمكن من فتح نصف فرنسا، وسيصل إلى مسافة 300 كم جنوب العاصمة باريس!
لم يؤدِّ استشهاد السمح بن مالك الخولاني في تولوز إلى انسحاب المسلمين من أربونة جنوب فرنسا، بل على العكس بقيت في أيديهم حصناً ومكاناً للتعبئة والانطلاق نحو العدو، ورصداً لتحركاته، وكان أهم ما تمكن السمح بن مالك من تحقيقه أنه أعاد اللُّحمة للأندلس وأصلحها إدارياً وعسكرياً، في مدة ولايته التي استمرت سنتين وثمانية أشهر فقط لم يُخيّب نظرة الخليفة العادل عُمر بن عبد العزيز، وكان سبباً مهماً في احتضان وارتقاء عبد الرحمن الغافقي فيما بعد، وهذه من أهم مؤهلات القيادة الحكيمة.
عربي بوست
مدار الساعة ـ نشر في 2022/04/28 الساعة 23:19