عن المدينة الجزائرية التي رغب الفاتيكان في إقامة الحج الكاثوليكي بها
مدار الساعة ـ نشر في 2022/04/27 الساعة 23:51
مدار الساعة -تامنراست، تامنغست، واختصاراً تام، هي ولاية جزائرية في أقصى جنوب البلاد، تبعد عن العاصمة الجزائر بـ 2200 كلم، تتعدى مساحتها 556.000 كيلومتر مربع، وهي بذلك تفوق مساحة دول كإسبانيا وألمانيا، بل إن البعض لا يعتبرها مجرد ولاية أو منطقة بل كوكباً آخر، ولد فوق أرخبيل حجري في قلب سلسلة صخرية تسمى الهقار وهضبتها الغريبة "الأتاكور" ذات التشكيلات البركانية والصهارة المتجمدة، النابتة على قطر250 كلم، ويعتبرها علماء الجيولوجيا كتاباً منثوراً يلخص التاريخ الجيولوجي للأرض في حيز شاسع يعتبر أكبر متحف طبيعي على الهواء الطلق في العالم ومصنف تراثاً إنسانياً.
الطريق براً نحو تامنراست شاق وطويل لكنه مغرٍ على المسير والمغامرة، ذلك أنك ستكتشف مروراً بالمدينة الألفية مدناً أخرى بديعة ستقف عندها طويلاً مثل "غرداية" و"واحة المنيعة" و"أراك" و"هالافوك" و"أوتول" و"هيراكوك".وستشكل مفهوماً جديداً للصحراء، فليست الصحراء هنا رملاً ذهبياً ونخيلاً سامقاً، بل أرض ترابية وصخرية تسمى هنا "الحمادة" التي يمكنها أن تنتج أجود المزروعات كما لو أنها جنان في قلب وعلى مشارف الجحيم.
المدينة الجزائرية تامنراست
هنا في الطريق يفقد الزمن معناه وسط الخلاء المترامي الأطراف، فما بين المنيعة وعين صالح يتوقف المسافرون وجوباً لاقتناء المأكولات والمشروبات والتزود بالوقود، فبعدها لن تجد على مدار مسافة 500 كلم الفاصلة بينهما شيئاً غير المناظر الخلابة والسكون، وتسمى- نومانز لاند – الأرض الخالية- التي تمنحك خيال التأمل في المدى اللا نهائي.
المسافات هنا لا تحمل معنى القرب والبعد، فعلى تخوم منطقة أراك وهي نقطة الاستراحة الوحيدة قبل تامنراست يكلمك صديقك الطارقي.. أين أنت؟ فتجيب "أراك" فتسمع مقتنعاً كلمة "خلاص لقد وصلت"، "فـأراك" تبعد عن تام مسافة 300 كلم وهي مسافة مهملة مقارنة بالفضاء الشاسع الذي يحاصرك من الجهات الأربع، لا بل إن بعض الطوارق وطرداً للملل وهرباً من البشر يتنقلون هنا للخلوة بسياراتهم من أجل شرب قهوة وكوب ماء.
عندما تصل تجد مدينة منبسطة وبها بيوتات قديمة بعضها يعود لبدايات القرن العشرين فيما بُنِي بعضها على مراحل متفاوتة يحرسها جبل أدريان البارز للعيان وكأنه الحامي الأزلي الوحيد. لكن المدينة ذات التناسق الفوضوي والفوضى المتناسقة غنية بالرموز التراثية فهي حافظت في بعض الأحياء الحديثة: الجامعة والمرافق الإدارية كالمطار على المعمار المحلي المزين بالرموز
القديمة، وعاصمة الهقار لا تشبه دبي أو لاس فيغاس وحتى مدن الجزائر الأخرى.
فالعمارات المربعة ذات الأجسام المكعبة نادرة إن لم تكن منعدمة، وجل البنايات متوسطة العلو في وسط عمراني ذي نكهة محلية ذات لون أرجواني ومع ذلك ففيها ما يكفي لتكون هونغ كونغ لسببين بشريين لا علاقة لهما بفن البناء، فهي مجمع بشري يعيش فيه أبناء مختلف الولايات الجزائرية الثماني والأربعين الذين نزحوا إليها للعمل أو العيش والتجارة المزدهرة، كما تضم مختلف الجنسيات الإفريقية القادمة من دول الساحل وجنوب الصحراء النيجر مالي وتشاد ولا غرو في ذلك، ففي هذه المنطقة تنعدم من ذهن الطوارق كلمة الحدود التي لا تعني شيئاً أمام الواقع المعيش، واقع بدو رحل يتحركون في مسارات لا علاقة لها بالحدود الجغرافية والسياسية الوهمية.
لهذه الأسباب ظلت الجزائر ترفض كل تدخل أجنبي غير مدروس في المنطقة وتنأى عن نقل جندي واحد من جيشها شمال مالي، فشمال مالي هو جنوب الجزائر وجنوب مالي هو شمال الجزائر، لا بل تحولت تامنراست إلى مستقر لكافة الطوارق والصحراويين الفارين من الجوع والجفاف والحروب المندلعة بسبب أو بغير سبب جنوب الصحراء الكبرى.
وأنت تتجول في المدينة لا تحتاج لجهد كبير لتعرف أنك في إفريقيا حقاً وحقيقة، فالأسواق إفريقية الطراز تعرض عليك السلع المتنوعة وسط لهجات مختلفة وكأنك في كيدال وتمبكتو أو أغاديس.
أما المحلات فعامرة بصناعات تقليدية من النحاس واللباس ومختلف المصنوعات اليدوية المتقنة، التي تحمل رموزاً لتراث المنطقة مثل نجمة الشمال والسيوف، والقلائد المتنوعة، والنساء يرتدين لباساً اسمه "التيسغنس" زاهي الألوان ووجوهن مكشوفة، فيما يرتدي الرجال في "البازان" بعضهم مكشوف الوجه أما أغلبهم فيخضعون لـ"حرمة التقاليد" التي تضطرهم لتغطية الوجوه مثلما تقتضي العادات والأعراف وقانون "العيب الاجتماعي" منذ آلاف السنين، في شكل يصنع مفارقة عجيبة تقع خارج المألوف.
تقول بعض الروايات الأسطورية إن "تين هينان" ملكة الطوارق الأولى والأم الروحية للعرق الأزرق حكمت هنا في القرن الرابع الميلادي كل الأجناس الطارقية بوصفات القوة والجمال والحكمة وبنت مملكة الصحراء العظيمة، وأن رجال جيشها عادوا منهزمين من معركة فاضطروا لتغطية وجوههم خشية العار ومنذ تلك اللحظة صارت تلك العادة لازمة رجالية خالصة، إن هذه الأسطورة منتشرة تقريباً ولو بصور مختلفة في الهقار كما في الطاسيلي، ففي الولاية المجاورة إيليزي ومدينة جانت تتردد ذات الرواية بشكل مغاير، فقد انهزم الرجال وانتصرت النساء في معركة رسخت الطابع الأمومي لعرق الطوارق أو "الطماشاق" باللغة المحلية.
المدينة الجزائرية تامنراست
تين هينان
يبدو المجتمع هنا أكثر حداثة في موضوع المرأة عن غيره من المجتمعات الأخرى، إذ لا تبدو أن هناك مشكلة للمرأة في فضائها الخاص أو العام، فهي تعيش وتتحرك بسلاسة غير مفتعلة طبقاً للتقاليد الألفية ضاربة الأطناب في القدم، كما أن لفظة الاختلاط مع الجنس الآخر لا تعترضه عوازل نفسية، ففي العادة يرقص الرجال والنساء معاً في حوارات جسدية لا توحي بوجود مشكلة نفسية أو جنسية أو دينية، فلا تتفاجأ إن دخلت مطعماً شعبياً كي تتناول أكلة المايناما الشهيرة المشكلة من لحم دجاج وغنم مطهي في فرن تقليدي إن وجدت امرأة عامرة الجسد مستلقية بلباسها التقليدي أمامك غير آبهة بجسدها أو بك أو بوجودك.
كما تحتكر المرأة هنا فن "الإمزاد" لوحدها، وهو عزف على هذه الآلة الوترية مصحوب بضرب الدف المبلل بالماء، تروي فيه العازفة المغنية أغاني الوجد والفراق والانتظار.
ولا يزال الطوارق والسياح يحجون إلى مدفن الملكة تين هينان المُشكل من غرف حجرية في بلدية أباليسا، والذي يبعد حوالي 80 كلم غرب تامنراست، بعد أكثر من 1500 سنة عن مرورها من هنا.
يفضل الزوار والسياح المارون إلى تامنراست رحلة الشوق إلى جبل الأسكرم – قمة القمم-، مروراً بمنبع تاهابورت الساخن، ولا مجال في هذه المنطقة أن تفكر في استعمال سيارتك التي لن تقوى بكل تأكيد على المسير هنا، ولا تغامر بفعل ذلك لوحدك لأنك لن تصل إلى أي مكان دون مرافقة الأدلاء الطوارق المنتدبين من عشرات وكالات السفر المختصة، ذلك أنه لا طريق هنا فاصلاً بين تامنراست والأسكرم الواقع على مسافة 88 كيلومتراً فقط، بل هناك مسالك وصحراء صخرية تتخللها وديان وأشجار "الأكاسيا" المتحدية للجفاف والحرارة والبرودة في شموخ كما هم ساكنو هذه الأرض السمحة المعطاء.
المدينة الجزائرية تامنراست
تُسيّر الوكالات السياحية سيارات رباعية الدفع يقودها سائقون يعرفون الطريق كما جيوبهم، ويبدأ السفر عبر أرض منبسطة شبه صحراوية من حصى وتراب، وفي منعرجات ضيقة تنزلق إلى عمق الوديان ثم تصعد في التواء حاد، قبل أن تشعر في لحظة ما أنك عرجت لتضاريس من نوع آخر وأنت تطلع على هضبة الأتاكور – جمجمة الهقار- حيث تقع أغلب جبال الهقار المشكلة من أكثر من أربعين قمة أعلاها تاهات -3003 أمتار- وهي أعلى قمة في الجزائر.
غير أنك ستشعر لزاماً أنك صعدت إلى كوكب المريخ، فالهضبة صخرية بركانية ذات مشاهد برزخية كأنها معلقة بين الأرض والسماء، وشاسعة إلى حد لا يطاق من الجمال والجلال، وستشعر كما لو أنك ذرة منعدمة في ذلك الفضاء الشاسع من الامتداد اللانهائي الفارغ سوى من بساتين حصى زرقاء تارة وسوداء تارة أخرى، مكورة وملساء بشكل عجيب تتخلل ضفتي الطريق.
المدينة الجزائرية تامنراست
ثم تضيع وسط غابات حجرية ضخمة مقطعة بعناية كأنها الأحجار التي بنيت بها الأهرامات المصرية القديمة، مروراً بجبل تينشاكاكار وهو جبل بركاني منفجر لتفهم أسرار ما حدث هنا قبل ملايين السنين، فقد كانت هذه الأرض ذات وديان عامرة بالماء وخضار وأدغال وحيوانات مثل الزرافات والديناصورات وأحراش كثيفة قبل أن تلحقها لعنة العصور الجليدية والنيازك والبراكين لتحيلها إلى عراء شكلته الرياح وأمواج القر والحر بطريقة فنية عجيبة.
ولم تبق منها سوى رسوم تمتد لـ 10.000 سنة، تلخص لك المشهد السابق عبر مجسمات فنية منتشرة في الهقار والطاسيلي، حيرت الكثيرين وبينهم الكاتب أنيس منصور الذي يعتقد أن منشأ حضارة الفراعنة يتقاطع مع هذه الصحراء وأنها صنيعة الذين هبطوا من السماء.
ففي الجوار بالطاسيلي وفي مدينة سيفار المنسية رسوم قديمة تحوي بشراً على شكل رواد فضاء ومجسمات صحون طائرة.
يعرف الطوارق وسكان المنطقة هنا أن هذا الفضاء مثل أبنائهم أو أشد، فقد علمهم الخلاء اللامنتهي الصبر، ولقنتهم التضاريس فراسة المسير هدياً على ضوء النجوم ليلاً، وطبيعة
المدينة الجزائرية تامنراست
التربة نهاراً، كما يتتبعون أنواعاً من الطيور لمعرفة منابع الماء المنتشرة هنا وهناك، مثل بركة أفيلال الواقع على بعد 11 كلم عن الأسكرام، وهي فضاء للراحة على ضفاف واد ينتهي بحوض طبيعي كبير به أسماك تتعايش مع الإبل في مشهد نادر عجيب.
قبيل الغروب يصعد العشرات من السياح عبر درب حجري نحو خلوة الأب شارل دوفوكو الراهب والقسيس الكاثوليكي الفرنسي، لزيارة منزله الذي كان يختلي به تأملاً وتأليفاً في الحياة الروحية والتي تحول إليها إثر حياة داعرة، ولا تزال تحتفظ بلباسه الرهباني وبكتبه التي قضى 11 سنة في تأليفها.
يحدثك راهب فرنسي بلهجة جزائرية خالصة: "كان الأب شارل عسكرياً نواحي سطيف قبل أن يطرد من الجيش لتورطه في قضية فسق أخلاقي، ثم تحولت حياته نحو الطهر حينما اكتشف الله داخل زاوية إسلامية في واحة بني عباس جنوب غرب الجزائر، وتنقل بين المناطق حتى استقر هنا بتامنراست قبل أن يمارس الخلوة هنا متأملاً هذا الفضاء العجيب، فكتب القاموس الطارقي الفرنسي طوال 11 عاماً، كما ألف كتاباً حول أشعار الطوارق من 3000 صفحة، محافظاً بذلك على الثقافة الطارقية من الاندثار".
كان هذا الراهب الذي يعود له الفضل في ظهور أبناء الأخوة اليسوعية قبل أن يغتاله مراهق من قطاع الطرق عام 1916 يقول "هنا وجدت الحب بطقوسه الثلاثة، الله من أجل العبادة، البشر من أجل التشارك، والطبيعة الفاتنة".
قبل سنوات طلبت حكومة الفاتيكان من السلطات الجزائرية العمل على تنظيم قوافل الحجيج المسيحيين في إطار السياحة الدينية لما لهذا الراهب من قدسية على الصعيد الكاثوليكي، كما طلبت وكالة ناسا الأمريكية بناء محطة هنا، غير أن تلك المشاريع لم تبلغ مرحلة التنفيذ.
مع ذلك، حافظت هذه الرقعة على شهرتها السياحية العالمية، فقد زارها خلال العام 2006 يفوق 3500 سائح في ستة أشهر، وكان متوقعاً أن يتضاعف الرقم إلى مئات الآلاف، لولا أن ما وقع في شمال مالي من أحداث أدخلها في أزمة بعد التأشير عليها بالأحمر ولم يمنع ذلك العدد الكبير من السياح في زيارتها رغم التحذيرات الحكومية الصادرة عن بلدانهم.
ولم تفلح نداءات الوكالات السياحية المحلية والدولية في مطلع سنة 2018 في رفع الحظر الجائر، حيث رفعت الحكومة الفرنسية اللون الأحمر على المنطقة ليتوقع أن يحج إليها أكثر من 12.000 سائح خلال فصل الشتاء الجاري وخلال أعياد رأس السنة.
لا يشبه الغروب هنا موطناً آخر في العالم لذا صنفته هيئة اليونسكو كأجمل مكان لمشاهدة الغروب والشروق معاً، وفي تلك اللحظات بالذات يصطف الزائرون في أعلى التلة
يرقبون اختفاء القرص في صمت رهيب تتعاكس فيه الألوان الحمراء في قلب الشفق المتواري خلف القمم المتراصة لجبال "تاهات" و"إلامن" و"تينغا" "ويخلف الغروب مشهداً رهيباً حينما تنعكس الأشعة في الجهة المقابلة من سلسلة جبال "تيزوياك" وكأنها تشرق في الضفة الأخرى بألوان قزحية حمراء وزرقاء وبنفسجية مائلة للأصفر، يشعر كل من يتوضأ بالشعاع هناك أنه يتطهر من ماضيه قبل أن ينخرط في راحة أبدية حينما تولد النجوم في قلب الظلمة وهي بعمق هذه الصحراء وبالقرب من السقف العالي تبدو أكثر وميضاً وإشعاعاً وأكثر انتشاراً عن أي مكان آخر، وأحياناً تتحول السماء لمسرح مفرقعات ضوئية صامتة لكثرة الشهب المتساقطة.
نعرف الآن لماذا قال الأب شارل دوفوكو "إذا مت فاتركوني هنا، لا أريد أن أنقل بعيداً عن المكان الذي أشعر فيه أني إلى الله قريب".
عربي بوست
الطريق براً نحو تامنراست شاق وطويل لكنه مغرٍ على المسير والمغامرة، ذلك أنك ستكتشف مروراً بالمدينة الألفية مدناً أخرى بديعة ستقف عندها طويلاً مثل "غرداية" و"واحة المنيعة" و"أراك" و"هالافوك" و"أوتول" و"هيراكوك".وستشكل مفهوماً جديداً للصحراء، فليست الصحراء هنا رملاً ذهبياً ونخيلاً سامقاً، بل أرض ترابية وصخرية تسمى هنا "الحمادة" التي يمكنها أن تنتج أجود المزروعات كما لو أنها جنان في قلب وعلى مشارف الجحيم.
المدينة الجزائرية تامنراست
هنا في الطريق يفقد الزمن معناه وسط الخلاء المترامي الأطراف، فما بين المنيعة وعين صالح يتوقف المسافرون وجوباً لاقتناء المأكولات والمشروبات والتزود بالوقود، فبعدها لن تجد على مدار مسافة 500 كلم الفاصلة بينهما شيئاً غير المناظر الخلابة والسكون، وتسمى- نومانز لاند – الأرض الخالية- التي تمنحك خيال التأمل في المدى اللا نهائي.
المسافات هنا لا تحمل معنى القرب والبعد، فعلى تخوم منطقة أراك وهي نقطة الاستراحة الوحيدة قبل تامنراست يكلمك صديقك الطارقي.. أين أنت؟ فتجيب "أراك" فتسمع مقتنعاً كلمة "خلاص لقد وصلت"، "فـأراك" تبعد عن تام مسافة 300 كلم وهي مسافة مهملة مقارنة بالفضاء الشاسع الذي يحاصرك من الجهات الأربع، لا بل إن بعض الطوارق وطرداً للملل وهرباً من البشر يتنقلون هنا للخلوة بسياراتهم من أجل شرب قهوة وكوب ماء.
عندما تصل تجد مدينة منبسطة وبها بيوتات قديمة بعضها يعود لبدايات القرن العشرين فيما بُنِي بعضها على مراحل متفاوتة يحرسها جبل أدريان البارز للعيان وكأنه الحامي الأزلي الوحيد. لكن المدينة ذات التناسق الفوضوي والفوضى المتناسقة غنية بالرموز التراثية فهي حافظت في بعض الأحياء الحديثة: الجامعة والمرافق الإدارية كالمطار على المعمار المحلي المزين بالرموز
القديمة، وعاصمة الهقار لا تشبه دبي أو لاس فيغاس وحتى مدن الجزائر الأخرى.
فالعمارات المربعة ذات الأجسام المكعبة نادرة إن لم تكن منعدمة، وجل البنايات متوسطة العلو في وسط عمراني ذي نكهة محلية ذات لون أرجواني ومع ذلك ففيها ما يكفي لتكون هونغ كونغ لسببين بشريين لا علاقة لهما بفن البناء، فهي مجمع بشري يعيش فيه أبناء مختلف الولايات الجزائرية الثماني والأربعين الذين نزحوا إليها للعمل أو العيش والتجارة المزدهرة، كما تضم مختلف الجنسيات الإفريقية القادمة من دول الساحل وجنوب الصحراء النيجر مالي وتشاد ولا غرو في ذلك، ففي هذه المنطقة تنعدم من ذهن الطوارق كلمة الحدود التي لا تعني شيئاً أمام الواقع المعيش، واقع بدو رحل يتحركون في مسارات لا علاقة لها بالحدود الجغرافية والسياسية الوهمية.
لهذه الأسباب ظلت الجزائر ترفض كل تدخل أجنبي غير مدروس في المنطقة وتنأى عن نقل جندي واحد من جيشها شمال مالي، فشمال مالي هو جنوب الجزائر وجنوب مالي هو شمال الجزائر، لا بل تحولت تامنراست إلى مستقر لكافة الطوارق والصحراويين الفارين من الجوع والجفاف والحروب المندلعة بسبب أو بغير سبب جنوب الصحراء الكبرى.
وأنت تتجول في المدينة لا تحتاج لجهد كبير لتعرف أنك في إفريقيا حقاً وحقيقة، فالأسواق إفريقية الطراز تعرض عليك السلع المتنوعة وسط لهجات مختلفة وكأنك في كيدال وتمبكتو أو أغاديس.
أما المحلات فعامرة بصناعات تقليدية من النحاس واللباس ومختلف المصنوعات اليدوية المتقنة، التي تحمل رموزاً لتراث المنطقة مثل نجمة الشمال والسيوف، والقلائد المتنوعة، والنساء يرتدين لباساً اسمه "التيسغنس" زاهي الألوان ووجوهن مكشوفة، فيما يرتدي الرجال في "البازان" بعضهم مكشوف الوجه أما أغلبهم فيخضعون لـ"حرمة التقاليد" التي تضطرهم لتغطية الوجوه مثلما تقتضي العادات والأعراف وقانون "العيب الاجتماعي" منذ آلاف السنين، في شكل يصنع مفارقة عجيبة تقع خارج المألوف.
تقول بعض الروايات الأسطورية إن "تين هينان" ملكة الطوارق الأولى والأم الروحية للعرق الأزرق حكمت هنا في القرن الرابع الميلادي كل الأجناس الطارقية بوصفات القوة والجمال والحكمة وبنت مملكة الصحراء العظيمة، وأن رجال جيشها عادوا منهزمين من معركة فاضطروا لتغطية وجوههم خشية العار ومنذ تلك اللحظة صارت تلك العادة لازمة رجالية خالصة، إن هذه الأسطورة منتشرة تقريباً ولو بصور مختلفة في الهقار كما في الطاسيلي، ففي الولاية المجاورة إيليزي ومدينة جانت تتردد ذات الرواية بشكل مغاير، فقد انهزم الرجال وانتصرت النساء في معركة رسخت الطابع الأمومي لعرق الطوارق أو "الطماشاق" باللغة المحلية.
المدينة الجزائرية تامنراست
تين هينان
يبدو المجتمع هنا أكثر حداثة في موضوع المرأة عن غيره من المجتمعات الأخرى، إذ لا تبدو أن هناك مشكلة للمرأة في فضائها الخاص أو العام، فهي تعيش وتتحرك بسلاسة غير مفتعلة طبقاً للتقاليد الألفية ضاربة الأطناب في القدم، كما أن لفظة الاختلاط مع الجنس الآخر لا تعترضه عوازل نفسية، ففي العادة يرقص الرجال والنساء معاً في حوارات جسدية لا توحي بوجود مشكلة نفسية أو جنسية أو دينية، فلا تتفاجأ إن دخلت مطعماً شعبياً كي تتناول أكلة المايناما الشهيرة المشكلة من لحم دجاج وغنم مطهي في فرن تقليدي إن وجدت امرأة عامرة الجسد مستلقية بلباسها التقليدي أمامك غير آبهة بجسدها أو بك أو بوجودك.
كما تحتكر المرأة هنا فن "الإمزاد" لوحدها، وهو عزف على هذه الآلة الوترية مصحوب بضرب الدف المبلل بالماء، تروي فيه العازفة المغنية أغاني الوجد والفراق والانتظار.
ولا يزال الطوارق والسياح يحجون إلى مدفن الملكة تين هينان المُشكل من غرف حجرية في بلدية أباليسا، والذي يبعد حوالي 80 كلم غرب تامنراست، بعد أكثر من 1500 سنة عن مرورها من هنا.
يفضل الزوار والسياح المارون إلى تامنراست رحلة الشوق إلى جبل الأسكرم – قمة القمم-، مروراً بمنبع تاهابورت الساخن، ولا مجال في هذه المنطقة أن تفكر في استعمال سيارتك التي لن تقوى بكل تأكيد على المسير هنا، ولا تغامر بفعل ذلك لوحدك لأنك لن تصل إلى أي مكان دون مرافقة الأدلاء الطوارق المنتدبين من عشرات وكالات السفر المختصة، ذلك أنه لا طريق هنا فاصلاً بين تامنراست والأسكرم الواقع على مسافة 88 كيلومتراً فقط، بل هناك مسالك وصحراء صخرية تتخللها وديان وأشجار "الأكاسيا" المتحدية للجفاف والحرارة والبرودة في شموخ كما هم ساكنو هذه الأرض السمحة المعطاء.
المدينة الجزائرية تامنراست
تُسيّر الوكالات السياحية سيارات رباعية الدفع يقودها سائقون يعرفون الطريق كما جيوبهم، ويبدأ السفر عبر أرض منبسطة شبه صحراوية من حصى وتراب، وفي منعرجات ضيقة تنزلق إلى عمق الوديان ثم تصعد في التواء حاد، قبل أن تشعر في لحظة ما أنك عرجت لتضاريس من نوع آخر وأنت تطلع على هضبة الأتاكور – جمجمة الهقار- حيث تقع أغلب جبال الهقار المشكلة من أكثر من أربعين قمة أعلاها تاهات -3003 أمتار- وهي أعلى قمة في الجزائر.
غير أنك ستشعر لزاماً أنك صعدت إلى كوكب المريخ، فالهضبة صخرية بركانية ذات مشاهد برزخية كأنها معلقة بين الأرض والسماء، وشاسعة إلى حد لا يطاق من الجمال والجلال، وستشعر كما لو أنك ذرة منعدمة في ذلك الفضاء الشاسع من الامتداد اللانهائي الفارغ سوى من بساتين حصى زرقاء تارة وسوداء تارة أخرى، مكورة وملساء بشكل عجيب تتخلل ضفتي الطريق.
المدينة الجزائرية تامنراست
ثم تضيع وسط غابات حجرية ضخمة مقطعة بعناية كأنها الأحجار التي بنيت بها الأهرامات المصرية القديمة، مروراً بجبل تينشاكاكار وهو جبل بركاني منفجر لتفهم أسرار ما حدث هنا قبل ملايين السنين، فقد كانت هذه الأرض ذات وديان عامرة بالماء وخضار وأدغال وحيوانات مثل الزرافات والديناصورات وأحراش كثيفة قبل أن تلحقها لعنة العصور الجليدية والنيازك والبراكين لتحيلها إلى عراء شكلته الرياح وأمواج القر والحر بطريقة فنية عجيبة.
ولم تبق منها سوى رسوم تمتد لـ 10.000 سنة، تلخص لك المشهد السابق عبر مجسمات فنية منتشرة في الهقار والطاسيلي، حيرت الكثيرين وبينهم الكاتب أنيس منصور الذي يعتقد أن منشأ حضارة الفراعنة يتقاطع مع هذه الصحراء وأنها صنيعة الذين هبطوا من السماء.
ففي الجوار بالطاسيلي وفي مدينة سيفار المنسية رسوم قديمة تحوي بشراً على شكل رواد فضاء ومجسمات صحون طائرة.
يعرف الطوارق وسكان المنطقة هنا أن هذا الفضاء مثل أبنائهم أو أشد، فقد علمهم الخلاء اللامنتهي الصبر، ولقنتهم التضاريس فراسة المسير هدياً على ضوء النجوم ليلاً، وطبيعة
المدينة الجزائرية تامنراست
التربة نهاراً، كما يتتبعون أنواعاً من الطيور لمعرفة منابع الماء المنتشرة هنا وهناك، مثل بركة أفيلال الواقع على بعد 11 كلم عن الأسكرام، وهي فضاء للراحة على ضفاف واد ينتهي بحوض طبيعي كبير به أسماك تتعايش مع الإبل في مشهد نادر عجيب.
قبيل الغروب يصعد العشرات من السياح عبر درب حجري نحو خلوة الأب شارل دوفوكو الراهب والقسيس الكاثوليكي الفرنسي، لزيارة منزله الذي كان يختلي به تأملاً وتأليفاً في الحياة الروحية والتي تحول إليها إثر حياة داعرة، ولا تزال تحتفظ بلباسه الرهباني وبكتبه التي قضى 11 سنة في تأليفها.
يحدثك راهب فرنسي بلهجة جزائرية خالصة: "كان الأب شارل عسكرياً نواحي سطيف قبل أن يطرد من الجيش لتورطه في قضية فسق أخلاقي، ثم تحولت حياته نحو الطهر حينما اكتشف الله داخل زاوية إسلامية في واحة بني عباس جنوب غرب الجزائر، وتنقل بين المناطق حتى استقر هنا بتامنراست قبل أن يمارس الخلوة هنا متأملاً هذا الفضاء العجيب، فكتب القاموس الطارقي الفرنسي طوال 11 عاماً، كما ألف كتاباً حول أشعار الطوارق من 3000 صفحة، محافظاً بذلك على الثقافة الطارقية من الاندثار".
كان هذا الراهب الذي يعود له الفضل في ظهور أبناء الأخوة اليسوعية قبل أن يغتاله مراهق من قطاع الطرق عام 1916 يقول "هنا وجدت الحب بطقوسه الثلاثة، الله من أجل العبادة، البشر من أجل التشارك، والطبيعة الفاتنة".
قبل سنوات طلبت حكومة الفاتيكان من السلطات الجزائرية العمل على تنظيم قوافل الحجيج المسيحيين في إطار السياحة الدينية لما لهذا الراهب من قدسية على الصعيد الكاثوليكي، كما طلبت وكالة ناسا الأمريكية بناء محطة هنا، غير أن تلك المشاريع لم تبلغ مرحلة التنفيذ.
مع ذلك، حافظت هذه الرقعة على شهرتها السياحية العالمية، فقد زارها خلال العام 2006 يفوق 3500 سائح في ستة أشهر، وكان متوقعاً أن يتضاعف الرقم إلى مئات الآلاف، لولا أن ما وقع في شمال مالي من أحداث أدخلها في أزمة بعد التأشير عليها بالأحمر ولم يمنع ذلك العدد الكبير من السياح في زيارتها رغم التحذيرات الحكومية الصادرة عن بلدانهم.
ولم تفلح نداءات الوكالات السياحية المحلية والدولية في مطلع سنة 2018 في رفع الحظر الجائر، حيث رفعت الحكومة الفرنسية اللون الأحمر على المنطقة ليتوقع أن يحج إليها أكثر من 12.000 سائح خلال فصل الشتاء الجاري وخلال أعياد رأس السنة.
لا يشبه الغروب هنا موطناً آخر في العالم لذا صنفته هيئة اليونسكو كأجمل مكان لمشاهدة الغروب والشروق معاً، وفي تلك اللحظات بالذات يصطف الزائرون في أعلى التلة
يرقبون اختفاء القرص في صمت رهيب تتعاكس فيه الألوان الحمراء في قلب الشفق المتواري خلف القمم المتراصة لجبال "تاهات" و"إلامن" و"تينغا" "ويخلف الغروب مشهداً رهيباً حينما تنعكس الأشعة في الجهة المقابلة من سلسلة جبال "تيزوياك" وكأنها تشرق في الضفة الأخرى بألوان قزحية حمراء وزرقاء وبنفسجية مائلة للأصفر، يشعر كل من يتوضأ بالشعاع هناك أنه يتطهر من ماضيه قبل أن ينخرط في راحة أبدية حينما تولد النجوم في قلب الظلمة وهي بعمق هذه الصحراء وبالقرب من السقف العالي تبدو أكثر وميضاً وإشعاعاً وأكثر انتشاراً عن أي مكان آخر، وأحياناً تتحول السماء لمسرح مفرقعات ضوئية صامتة لكثرة الشهب المتساقطة.
نعرف الآن لماذا قال الأب شارل دوفوكو "إذا مت فاتركوني هنا، لا أريد أن أنقل بعيداً عن المكان الذي أشعر فيه أني إلى الله قريب".
عربي بوست
مدار الساعة ـ نشر في 2022/04/27 الساعة 23:51