العناني يكتب: قـناة البحـريـن
د. جواد العناني
في كتابه «آلت نيولاند»، أو الأرض القديمة الجديدة، المنشور عام 1902 يتحدث ثيودور هيرتزل عن فكرته بإنشاء قناة تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الميت. ويقال إن الفكرة لم تأت من رأس هيرتزل، ولكن سبقه إليها مهندس اسمه «وليام ألين»، والذي اقترح انشاءها عام (1855) كبديل عن فكرة قناة السويس، وقد استمر هيرتزل في دفع هذه الفكرة حتى تبدى له عدم القدرة على تنفيذها بعدما فصل الانتداب البريطاني على فلسطين عن الانتداب البريطاني على الأردن.
وقد عاد الإسرائيليون إلى تلك الفكرة بعد فترة من احتلالهم للضفة الغربية عام (1967)، وقامت شركة ألمانية بوضع مخطط لهذا المشروع في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، وقد تحولت القناة من فكرة رابط مائي بين البحرين إلى فكرة تغذي مياه البحر الميت، وتسمح بتوليد كهرباء مستفيدة من السقوط المائي لمساحة (400) متر بين مستوى البحرين المتوسط والميت، أخفض نقطة على وجه البسيطة، ومن اجل تبريد مياه المفاعلات النووية التي كانت اسرائيل تخطط لإنشائها آنذاك.
وعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو» يتحدث عن الفكرة، وسعى لبيعها على أساس أنها قناة تصل البحر الأحمر بالمتوسط، وتكون رديفاً لقناة السويس أو منافساً لها، ولكن هذه في جوهرها فكرة مكلفة، ولا جدوى لها، وهي تعكس حلماً بدأ بمؤسس الحركة الصهيونية.
ولقد كانت الفكرة الأساسية لقناة البحر الابيض/ البحر الميت تستند إلى خلق منتجات وخدمات تبرر انشاء تلك القناة وكلفها الباهظة، فهنالك مثلاً توليد للكهرباء، وهنالك مشروع تحلية للمياه، والأهم بالطبع هو رفد البحر الميت بالمياه التي تراجع مستواها ومنسوبها بسبب استيعاب مياه نهر الأردن وروافده من قبل الدول المطلة عليه، وبخاصة إسرائيل، ثم سوريا ولبنان والأردن، وقد هبط مستوى البحر الميت أكثر من (17) متراً. ومما يؤزم الوضع هو التبخر المستمر للمياه حيث الحرارة المرتفعة والأرض المنخفضة.
وإذا استمر منسوب المياه في الهبوط، فسيكون لذلك تأثير كبير على المشروعين التعدينيين الكبيرين في الأردن وإسرائيل حيث يستخرج البوتاس والبرومين والمغنيسيوم، وطريقة الاستخراج تقتضي نقل كميات كبيرة من البحر الميت إلى برك خاصة، حيث تتبخر المياه بفعل الشمس والريح، وتبقي الأملاح في هذه البرك الطويلة حيث تحصد المعادن منها.
واما الجانب الآخر، فهو بالطبع تأثير تراجع مستوى المياه في البحر الميت على المشروعات السياحية الكبيرة التي اقامها الفلسطينيون خاصة في أريحا، والاردن وإسرائيل على شواطىء البحر الميت، كل على حده، وإذا استمرت المياه في الانحسار، فإن إمكانية الاستفادة من فرص العلاج الطبيعي، والسياحة في المياه الثقيلة، والاستمتاع بالمناظر الخلابة ستكون كلها معرضة للتراجع بشكل كبير.
إدراكاً لهذه الحقائق، فقد طرح الاردن بديلاً إبان مفاوضات السلام بإنشاء قناة تصل البحرين الأحمر بالميت، وتؤدي نفس الغايات كبديل عن قناة البحر المتوسط / الميت، ووجد أن كلفة المشروع قد تصل إلى أكثر من (10) بلايين دولار، ولذلك، فقد عدل المشروع من قناة تنشأ دفعة واحدة، إلى سلسلة من الأنابيب وتم التوقيع بين الأردن وفلسطين وإسرائيل على المرحلة الأولى من المشروع، والذي لم يحل عطاؤه حتى اللحظة رغم مرور أكثر من سنتين على توقيعه بين الجهات الثلاث، وهنالك مرحلتان أخريان لاحقتان، ولكن مشروع الأنابيب لا يؤدي نفس الدور الذي يؤديه مشروع القناة الواحدة.
ولعل من المفارقات المضحكة أن هذا المشروع قد أثار ردود فعل لدى جهات مختلفة، خاصة في مصر، بأن هذا المشروع هو بديل لقناة السويس، وأعتقد أن هذا الاستنتاج الخاطئ قد نجم عن استخدام كلمة «قناة البحرين»، وعن الأفكار الصهيونية والاسرائيلية ببناء قناة تنافس قناة السويس، ولكن مشروع قناة البحر الأحمر/ الميت ليس له إمكانية نقل البضائع، لأن البحر الميت هو بحيرة مغلقة، والأدهى أن السفن المتوجهة من البحر الأحمر (ميناء العقبة) إلى شط البحر الميت ستضطر إلى صعود رأس النقب (أكثر من الف متر فوق سطح البحر)، ثم إلى الهبوط لمسافة (400) متر تقريباً تحت سطح البحر، فهل لكم أن تتخيلوا هذه الكلفة؟
في نهاية المطاف، البحر الميت بحر حي بكل المقاييس، صحيح أن ملوحته العالية تحول دون عيش الأسماك فيه، ولكن المعادن، والموقع، وإمكانية العلاج الطبيعي، والسياحة التي فيه، تجعله مشروعاً حيوياً يستحق الإنقاذ.
وقد بدأت المشروعات المرتبطة بالبحر الميت تخلق فرصاً للتعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث المطلة عليه، وهي الأردن، وفلسطين واسرائيل. فمشروع البوتاس الأردني بدأ باستيراد الغاز من إسرائيل لكي يقلل من كلف استخدام النفط ومشتقاته في عمليات التعدين والانتاج.
وكذلك، فإن التوقيع الثلاثي على المرحلة الأولى من مشروع حامل المياه بين البحرين الأحمر والميت، أعطى للجانب الفلسطيني دوراً وأمن حقهم في وجودهم على كل من البحر الميت ووادي الأردن ونهر الأردن، وهو أمر تنكره إسرائيل عليهم.
سوف يكتسب هذا المشروع أهمية متزايدة ليس من قبل خبراء البيئة، أو خبراء المعادن، أو المختصين السياحيين، أو منتجي مواد التطبيب والزينة، ولكن أيضاً من قبل مختصي المياه، ومن قبل الجهات المؤمنة بالتراث والتميز الفريد لهذا الموقع الذي عز مثيله في العالم.
الدستور