المرض في شنغهاي والألم عند العرب..
مدار الساعة -يمر ملايين الناس في الصين بتجربة الإغلاقات الاقتصادية مرة أخرى؛ على خلفية عودة انتشار فيروس كورونا في بعض المدن الصينية، ومحاولة الصين السيطرة على هذا الانتشار، وبين المدن الصينية المغلقة شانغهاي؛ إحدى أهم مدن الصين اقتصادياً.
يمكن لهذه الإغلاقات في الصين؛ خصوصاً إذا ما استمرت لفترة طويلة، أن تتسبب باختلالات اقتصادية هائلة في العالم، وقد يعني اضطرار المواطنين الصينيين في شنغهاي للبقاء في منازلهم اليوم، تدهوراً في مستوى معيشة سكان دول في الطرف الآخر من العالم، وذلك نتيجة للترابط الكبير في الاقتصاد العالمي، والدور المحوري للصين فيه، مما يتسبب في بعض الأزمات الاقتصادية في منطقتنا العربية.
فقد تغير العالم بشدة في المئة عام الأخيرة؛ حتى أصبح العالم متشابكاً بشكل كبير، وأصبح الاقتصاد العالمي أشبه بوحدة واحدة، تعمل بشكل عابر للقارات؛ حتى إن ما يحصل في أقصى شرق العالم قد يكون له أثر ضخم على أقصى غربه، والعكس صحيح.
لذلك فعلينا دائماً مراقبة ما يحصل في العالم بحذر، ومعرفة الطريقة التي سيؤثر بها على حياتنا بمختلف الأشكال؛ سياسية كانت أو اقتصادية، أو ضمن أي مجال آخر.
في الأعوام الماضية حصلت ثلاثة أحداث كبرى أظهرت هذا الترابط العالمي، بداية من الأزمة المالية العالمية 2007-2009، والتي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية، وانتقلت إلى باقي دول العالم، لتخلق أزمة اقتصادية كبرى، تسببت بانكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 1.3% في عام 2009.
بعد الأزمة عاد العالم لمسار التعافي؛ ولو بشكل متفاوت بين دول العالم المختلفة، لكن الأزمة بدت بعيدة شيئاً ما عشية عام 2020، والذي شهد أزمة عالمية أخرى، تسببت بها جائحة كورونا، التي ما كانت لتصبح جائحة عالمية لولا شبكات النقل والمواصلات التي تربط دول العالم ببعضها البعض، بشكل يمنع عزل أي دولة عن الأخرى.
تسببت جائحة كورونا بآثار اقتصادية مدمرة على العالم، بسبب إغلاق القطاعات الاقتصادية، ومنع التجول والحركة في معظم دول العالم، والتأثير الكبير على طرق النقل والتجارة بين الدول، فعاد العالم للانكماش عام 2020 وبنسبة 3.3% هذه المرة.
وأخيراً؛ ووسط محاولة العالم التعافي من آثار الجائحة، والعودة للوضع الاقتصادي الطبيعي الذي كان قبل الجائحة، أو على الأقل إزالة الآثار السلبية المدمرة للجائحة، مع بقاء تغييرات لا بد منها على الحياة في العالم، بعد كل الخطوات التي قام بها العالم لفعل ذلك؛ بدأ الهجوم الروسي العسكري على أوكرانيا، وبدأت معه العقوبات الغربية، والتي ضاعفت من أزمات شلل طرق التجارة، وارتفاع أسعار الطاقة.
سياسة صفر حالات في الصين
لأن العالم مرتبط بشكل كبير بطرق التجارة، ومع الاعتماد الكبير على الطاقة لإنتاج واستهلاك كل شيء في العالم، ولاستمرار جميع أنشطة الحياة كما نعرفها اليوم، يؤدي الهجوم إلى تصعيب مهمة تعافي الاقتصاد العالمي، وسط ارتفاع حاد في معدلات التضخم، وبالتالي في تكلفة معيشة الناس في مختلف دول العالم، عدا عن أهمية روسيا وأوكرانيا للصناعات الغذائية في العالم، وتحديداً في إنتاج القمح، وغيرها من الصناعات المختلفة لا الغذائية فحسب.
وكان من الضروري للعالم بعد معدل انكماش كبير في عام 2020، أن يحقق معدلات نمو ونشاط اقتصادي كبير في الأعوام اللاحقة، وبسبب الترابط الاقتصادي بين دول العالم المختلفة فإن تأثر إمكانات النمو في منطقة من العالم قد تؤثر على باقي المناطق.
يحصل ذلك خصوصاً عندما تتأثر معدلات النمو في أحد أكثر بلدان العالم تحقيقاً لمعدلات النمو في التاريخ، وثاني أضخم اقتصاد في العالم، وصاحب أضخم عدد من السكان أيضاً، وهي الصين التي تعاني الآن من إجراءات ضرورية لإعادة إغلاق إحدى أضخم المدن الصينية وأهمها اقتصادياً وماليا،ً بعد أن ارتفعت إصابات كورونا في شنغهاي وغيرها من المدن الصينية.
تبنت الصين إحدى أكثر السياسات تشدداً لمواجهة الجائحة، وعرفت باسم سياسة "صفر حالات"، تمكنت بسببها الصين من تسجيل إحدى أفضل نتائج مجابهة الجائحة، ولكن السياسة المتشددة هذه تثبت اليوم صعوبة استدامتها، رغم أن حالات الإصابة في الصين ما زالت أقل بكثير من نظيراتها في الولايات المتحدة وأوروبا مثلاً.
مع ذلك ما زالت الصين تطبق إجراءات أكثر تشدداً مما هي عليه في هذه البلدان، فالسلطات الصينية لا تتساهل في العودة للإغلاقات بمجرد بدء انتشار الفيروس في مكان ما، كما أنها ما تزال تبقي على الإجراءات التقييدية من وإلى الصين.
وقد أثبتت هذه الإجراءات نجاحها بالفعل؛ فالصين لم تسجل إلا 4600 حالة وفاة نتيجة للجائحة منذ نهاية عام 2019، بينما سجلت الولايات المتحدة الأمريكية رقماً قريباً من المليون حالة وفاة، وسجلت بريطانيا قرابة 165 ألف حالة، رغم الفرق الهائل بين عدد سكان الصين وعدد سكان هذه البلدان.
مخاطر الإغلاقات
الإغلاقات كانت السبب الأساسي في وصول العالم إلى الانكماش الكبير في عام 2020، وبدء فتح الاقتصاد وقطاعاته المختلفة لاحقاً؛ كان السبب الرئيسي في تحقيق العالم لنسبة نمو مرتفعة تقدر بـ5.5%، وهي أعلى من أي نسبة تم تسجيلها على مستوى العالم منذ عام 2000.
لكن لأن هذا النمو حصل بعد انكماش كبير، فهو لم يفعل الكافي لتحقيق التعافي الذي يحتاجه الاقتصادي؛ للمقارنة فإن النمو الذي حققه العالم في نهاية عام 2021، بالمقارنة بما كان عليه في عام 2019، أي خلال فترة عامين كان 2%، وهي أقل من نسبة النمو في عام 2019 وحده، بينما إذا أردنا احتساب نسبة النمو لعامي 2018 و2019 معاً؛ فقد حقق العالم خلال فترة العامين نمواً بنسبة 6%.
والمتوقع أن العالم سيحقق نمواً بنسبة 4.1% في عام 2022، علماً أن هذه التوقعات كانت سابقة على بدء الهجوم العسكري على أوكرانيا، وبدء ارتفاع أسعار النفط والغذاء في العالم، عدا عن إغلاقات الصين الحالية.
يعني ذلك أن التوقعات قد تنخفض، وقد ينتهي العالم بتسجيل نسبة نمو أقل بكثير، وبالتالي الحاجة لأعوام أكثر لتحقيق التعافي الكامل من آثار الجائحة، وجهداً وإنتاجاً أكبر من حكومات العالم، وصبراً أكثر من سكانه الذين تضرروا من آثارها.
لماذا الاهتمام بالصين تحديداً؟
لماذا تنتشر التحليلات الاقتصادية عن توقع تباطؤ النمو بشكل كبير بسبب أحداث الصين تحديداً، ولكنها لا تكون بنفس الانتشار عند الحديث عن دول أخرى رغم كون اقتصاداتها رئيسية في العالم؟
يتوقع أن الاقتصاد الصيني سيمثل خمس النمو المتوقع في الاقتصاد في السنوات الخمسة القادمة؛ وحتى عام 2026، فهي المتصدر في دول العالم بنسبة 20% تقريبا، تتلوها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 15% تقريباً، ثم الهند بنسبة 8.4%، واليابان بنسبة 3.5%، وألمانيا في المرتبة الخامسة بنسبة 3.1%.
يعني ذلك أن نمو الاقتصاد الصيني سيساوي أكثر من نمو الولايات المتحدة الأمريكية واليابان معا، رغم أن حجم الاقتصاد الصيني لا يمثل إلا 70% من حجم الاقتصاد الأمريكي، وحوالي 55% من اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية واليابان مجتمعتين، بناء على بيانات البنك الدولي لعام 2020.
كما أن حصة الصين عالية في التجارة العالمية من السلع أيضاً، وفي نمو مستمر خلال العقدين الأخيرين، فحصة الصين من التجارة العالمية كانت تبلغ بالكاد 2% في عام 2000، ولكنها بلغت في عام 2017 أكثر من 11% من إجمالي التجارة العالمية بالسلع، والمتوقع أن تكون ارتفعت اليوم أكثر.
والصين أيضاً أحد أهم المستوردين من كثير من الدول، بسبب حجم اقتصادها الكبير، وسوقها الضخمة لاحتوائها على أكبر عدد سكان في العالم، وتحسن معيشة السكان في الصين خلال العقود الماضية، مع ارتفاع مداخيلهم بسبب النمو الاقتصادي المرتفع، والذي تسبب بنمو الطبقة الوسطى، وبالتالي القدرة الشرائية الصينية.
كيف ينتقل الأثر من الصين إلى العالم؟
يعني النمو في الصين نمواً في باقي دول العالم؛ وبالعكس يعني التباطؤ في الصين تباطؤاً في باقي العالم، لأن الصين هي مصنع العالم حالياً، فكثير من اقتصادات العالم أو قطاعات بعض البلدان على الأقل، تعتمد بشدة على الاقتصاد الصيني، وتوقفه أو تباطؤه في الصين يعني توقف أو تباطؤ نمو قطاعات أخرى في العالم.
يحصل ذلك لأن العالم قام بتقسيم المهام الاقتصادية، وربط الاقتصاد بسلاسل إنتاج وتوريد ضخمة، تعطي توزع المهام الاقتصادية على العالم، وتوقف أحد مفاصل الاقتصاد العالمي يعني وقف عجلة الاقتصاد في العالم، فكيف إذا حصل التوقف أو التباطؤ في مصنع العالم الضخم في الصين؟
أضف إلى ذلك أن هذه الإغلاقات تعني استيراداً صينياً أقل، وتباطؤاً في استهلاك المنتجات الخارجية، وذلك له أثر كبير على الدول المصدرة إلى الصين، خصوصاً لكونها دولة ضخمة، فكيف ستصرف الدول المصدرة إلى الصين صادراتها إلى وجهات أخرى في ظل إغلاقات مدن صينية تشمل عشرات ملايين الناس؟
سيختلف الوضع لو كانت هذه الإغلاقات في أي بلد آخر غير الصين، وحتى لو حصلت في دولة مثل الهند؛ لن يكون الأثر بالغاً جداً كما هو في الصين، لأن الاقتصاد الصيني لا يمثل إلا أقل من خمس اقتصاد الصين، وإن كان فيها عدد مقارب من السكان.
أما دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ما تزال تملك اقتصاداً أكبر من الاقتصاد الصيني بخمسة تريليونات تقريباً؛ فهي تحقق معدلات نمو أقل بشكل ملحوظ من الصين خلال العقدين الماضيين؛ حتى إن الصين حققت في بعض الأعوام أكثر من أربعة أضعاف معدل النمو الأمريكي، وهي بالمجمل تحافظ على معدل نمو يساوي ضعف معدل نمو الولايات المتحدة الأمريكية على الأقل في أغلب الأعوام.
ما الذي يعنيه ذلك للعالم ومنطقتنا؟
بسبب كل ما تقدم؛ فمن الواضح أن علينا أن نراقب كل ما يحصل في الاقتصاد الصيني من إغلاقات، وعلينا الخشية من انخفاض معدل نموها، لأن ذلك يعني أن الأثر سينتقل للعالم كله، وقد يكون هذه الأثر مدمرا إذا ما تفاقمت الأزمة واستمرت في الصين.
في حال حصول ذلك؛ فدولنا التي لا تحقق معدلات نمو بارتفاع معدلات نمو الصين، ولا تمتلك مؤشرات اقتصادية يمكن مقارنتها حتى بالاقتصاد الصيني، ولا أدوات مالية ونقدية ضخمة تحمي من آثار الأزمات الاقتصادية كما في الغرب، بسبب كل ذلك ستكون دولنا الأكثر تأثراً من تباطؤ النمو الصيني، وربما أيضاً من شلل محتمل للتجارة العالمية بسبب ذلك.
يضاف ما يحصل اليوم في الصين إلى مجمل الظرف الاقتصادي العالمي الصعب؛ والذي يتصف بمعدلات تضخم عالية، مع ارتفاع حاد في أسعار الطاقة والغذاء وغيرها من المواد، مع استمرار آثار الجائحة الاقتصادية، ودخول العالم في مرحلة سياسية جديدة بسبب الأزمة الأوكرانية، والهجوم الروسي والعقوبات الغربية.
كما أن العالم شهد إشارات في الأسواق المالية على قرب أزمة ركود اقتصادية محتملة، بعد أن شهدت الأسواق المالية نمواً كبيراً في العامين الماضيين؛ فرغم الانكماش الاقتصادي ارتفعت أسعار أسهم في الأسواق المالية، ووصلت إلى حدود غير مسبوقة، لكن من الممكن أن العالم على موعد مع ركود قد يزيل هذه المكتسبات الاقتصادية السابقة.
في حال تحقق الأسوأ؛ ستكون منطقتنا، والتي تعتبر من الأكثر هشاشة في العالم أول من يتأثر بشدة من مثل هذه الأزمة، مع دخول مصر أصلاً في حالة من عدم اليقين، واضطرار لتخفيض قيمة الجنيه، ورفع أسعار الفائدة، وغيرها من المؤشرات على صعوبة الوضع الاقتصادي في مصر على سبيل المثال، قبل أن يكون هناك أزمة عالمية بعد.