رمضان الأول في الغربة
مدار الساعة -دخلت السوق باحثاً عن رائحة رمضان التي أعرفها، بحثت في رائحة البخور، في وجوه الباعة وأصواتهم وحتى في ما يبيعون، "لا شيء يعجبني" و "لم أشبه هنا شيئاً" على رأي محمود درويش.
الحياة طبيعية هنا، لا يوجد ما يدل على أننا استقبلنا الشهر الكريم، واجهات المحلات كما هي بدون زينة، المقاهي والمطاعم مفتوحة وتستقبل عدداً محترماً من الزبائن في نهار رمضان، تخنقني رائحة السجائر المنبعثة من أفواه الرجال والنساء في الشوارع على مرأى الجميع.
في تونس، كنا نفرح بقدوم الشهر الكريم، نستقبله بما يستحق من الزينة والفرح، لكن غابت مشاعر البهجة هذه السنة، كنت واثقاً أن للغربة أحكامها وأن فقد الأهل والأصحاب سيجعل تجربة رمضان مغايرة هذه السنة.
من أصعب لحظات الغربة هي تلك اللحظات التي تبحث فيها عمن يشاركك الفرح فلا تجد أحداً، تلك اللحظات التي تتذكر فيها من تحبهم وتتمنى أن يكونوا معك فتجد أن مسافات طويلة تفصلك عنهم.
تركت السوق وعدت بخطوات ثقيلة، أحاول طرد كل ما من شأنه أن يحيلني إلى التفكير في هذه التجربة الجديدة.
رن الهاتف، هي زوجتي اتصلت لتهنئتي بقدوم رمضان، ثم مررت لي يحيى وإبراهيم "أبنائي" حتى يهنئوني بدورهم.
تظاهرت وأنا أكلمهم، بالتماسك والفرح باستقبال الشهر الكريم، حتى قالت بصوت يحاول النجاة من الغرق في نهر من الدموع: "لن يجلس أحد مكانك على طاولة رمضان يا أبا يحيى". كانت تحاول أن تهون عليّ وعلى نفسها شدة هذه التجربة، ولكن فتحت دون أن تدري جرحاً عميقاً.
إنه رمضان يا أصدقاء، لم يخطر في بالي قط أن يكون هناك رمضان غير الذي أعرفه وعشته من الطفولة إلى الآن.
أيعقل أن يكون رمضان دون لمة العائلة؟
في زاوية هادئة من البيت جلست، وأخذت أسترجع ذكريات الذاكرة، كل ما في رمضان جميل في بلدي، وأجمل ما فيه جمع العائلة.
من تلابيب ذكريات الطفولة استرجعت صوت أبي وهو يردد ما تيسر من القرآن في أحد أركان البيت، دندنات والدتي في المطبخ وهي تنشد أناشيد تراثية حول استقبال رمضان، صراخ الأطفال وهم يلعبون يقابله صياح أخي مطالباً إياهم بخفض أصواتهم حتى ينام، بنت الجيران تدق الباب لتسلم أمي طبقا من "الملوخية" أعدتها والدتها وأبت إلا أن تذيق منها بقية أهل الحي.
جل البيوت كانت تبتهج بقدوم رمضان، تزين أبوابها بالفوانيس والبالونات، وتنبعث منها روائح البخور الزكية وألحان الأناشيد الدينية الشجية.
مع قدوم رمضان، كان الأطفال يتسابقون على إهداء آبائهم وأمهاتهم سجادات للصلاة وسبحات بالمناسبة وكان الأهالي يحرصون على تسجيل أبنائهم في حلقات تحفيظ القرآن في المساجد والكتاتيب. وأنا أغوص بين ثنايا الذاكرة كانت ألحان "السلامية" والأناشيد الصوفية تملأ رأسي صخباً.
أخذني الحنين في جولة إلى سوق المدينة، حيث كنت أبيع البقدونس والسلق و"البريك" وأنا طفل صغير فاستقبلتني رائحة الحلويات وخبز "الطابونة"، أهازيج الباعة المحتفية بسلعهم، صوت المقرئ التونسي الشيخ علي البراق يخرج من المآذن ويجد صداه في كل المحلات.
رمضان في بلدي له طعمه ورونقه الخاص، ورغم ما شهدته البلاد من تغيرات سياسية واجتماعية على امتداد السنوات ورغم التغيرات التي يعرفها العالم بسبب العولمة، لم تتغير أجواء شهر رمضان فيها، وظل بخصوصياته يقاوم.
صوت المسحراتي مازال يملأ الأنهج والأزقة، قبل أذان الفجر، مردداً "قوموا تسحروا" مطالباً الأهالي بالاستعداد للإمساك وصوت "مدفع الإفطار" ما زال يتزامن مع أذان المغرب معلناً لحظة الإفطار في جل مدن تونس، أطباق السحور والإفطار الرمضاني تتوارثها العائلات جيلاً عن جيل مهما كانت مكانتها الاجتماعية وقدراتها المادية.
لا تغيب "الرفيسة" و"البسيسة" عن أطباق السحور كما لا تخلو طاولة الإفطار من حساء "الفريك" وتمور "الدقلة" و"البريك".
أستفيق من حلم اليقظة فأجدني أعيش تجربة صيام رمضان هذه السنة، في الغربة تحت وطأة الشوق والحنين والعزلة والصراع مع الذكريات.
تفاصيل رمضانية كثيرة تختلف بين الوطن والغربة، تجعل مشاعر الشوق والفقد تزداد، حتى تلك التفاصيل التي لم نكن نحبها، ها نحن اليوم نفتقدها.
كم أفتقد ذلك الصخب الذي كنت لا أحبذه وأنهى أبنائي عنه قبل الإفطار، وحتى طبق "السلاطة" الذي كنت لا أحب أكله أفتقده.
أقف وحيداً هنا أعد طاولة الإفطار الصغيرة، وكلي شوق لتلك اللحظات التي كنت فيها أبحث عن مكان يسع جميع أفراد العائلة لوضع الطاولة، واللحظات التي نتنافس فيها حول ترك بصمة فريدة على صحون الطعام وزينة الأطباق، بصمة تجذب الأنظار وتجلب الثناء والدعاء.
نفتقد في الغربة حلقات الذكر وحفظ القرآن في المساجد بين الظهر والعصر، لقاء الأصدقاء ومسابقات كرة القدم قبل الإفطار.
نفتقد الجلسة في مقهى الحي مع الجيران وتجاذب أطراف الحديث حول حلقات "الكاميرا الخفية" ومسلسلات رمضان قبل التوجه إلى التراويح.
التراويح بدورها قصة مغايرة في بلدي، يصير فيها الأئمة القراء مشاهير الشهر ومحور الحديث والتقييم، أجملهم صوتاً وأحسنهم إتقاناً لعلم التجويد وأقدرهم على ختم القرآن خلال الشهر.
هنا صلاة التراويح قصيرة جداً، يتنافس الأئمة من كان الأسرع حيث يقرأ أغلبهم آية وحيدة في الركعة.
نغادر التراويح لنعيش سهرة رمضانية في المدينة العتيقة حيث نجلس مع الأصدقاء في المقهى وتنبعث من أرجاء المدينة روائح طيبة وأصوات يمتزج فيها قهقهات المارة بالموشحات الأندلسية وأغاني أم كلثوم.
هنا تغيب كل هذه المشاهد وتحضر مشاهد أخرى لم أعهدها، يغيب دفء العائلة ويحضر برد الوحدة تغيب نظرات حب الأهل والأصدقاء وتغمرنا نظرات العنصرية ومعاملة الغرباء.
حدثني أحد الأصدقاء المغتربين يوماً حول التأقلم مع الغربة فقال: "كنت أظن أني تأقلمت مع الغربة حتى جاء رمضان"، حسبته يبالغ حتى وقفت على صحة كلامه.
حيث يحاول المغترب، أن يوطن نفسه وقلبه على الشدة والصلابة حتى يواجه مصاعب الحياة وشقاوة الغربة ويبذل في ذلك الجهد العسير، حتى يأتي شهر رمضان بما يحمله من ذكريات وما يتضمنه من خصوصيات، فتذهب الصلابة مع أول جلسة سحور ويمتلئ القلب شجنا مع أول إفطار.
وحتى أتجاوز هذه "المحنة" نصحني صديقي أن أعيش رمضان كما أني في وطني وحثني على التفكير بإيجابية وأن أصنع لنفسي عالما شبيها بما كنت أعيشه مع العائلة هناك، فكرتُ كثيراً كيف أفعل ذلك فلم أجد إلا أن آخذ قلمي وأكتب:
إن الحنين والشوق قاتل… رفقاً بنا يا شهر رمضان
واهلل علينا بصبر وقوة… تهون بها غربة الأوطان