كيف عطَّل الهجوم الروسي مشروع “الصين العظيم”؟
مدار الساعة -كشف الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، عام 2013 عن واحد من أضخم المشاريع الاقتصادية والتجارية في التاريخ، والذي تجاوزت تكلفته 4 تريليونات دولار عام 2020، وما زال العمل مستمراً عليه.. إنه مشروع "الحزام والطريق".
يُتوقع أن يجعل هذا المشروعُ الصينَ مركزاً تجارياً واقتصادياً عالمياً، تنطلق منه وإليه خطوط تجارة برية وبحرية، في أمان من النفوذ الأمريكي على التجارة البحرية في العالم، وبإغراء الدول المشاركة بمئات مليارات الدولارات خلال السنين.
يربط المشروع الصين بكل من آسيا وأوروبا وإفريقيا بشكل أساسي، ويتضمن 6 ممرات برية، وممرين بحريين.
نصف خطوط الحزام والطريق؛ تصل نهاية إلى أوروبا، طريقان منهما بريان والآخران بحريان، وبينما يمر الطريقان البريان من خلال روسيا، يدور طريق بحري واحد من حولها، وهو طريق الحرير القطبي، الذي يمر من القطب الشمالي، وصولاً إلى أوروبا.
لروسيا إذاً أهمية كبرى في المشروع، كممر بري مهم لأوروبا ومنها، وكدولة مهمة أيضاً لأحد الممرات البحرية إلى أوروبا.
بعد الحرب الأخيرة؛ بدأت تتعطل هذه الطرق التي تمر من الصين إلى أوروبا، عن طريق روسيا، بسبب العقوبات الغربية على الأخيرة.
العقوبات على روسيا تعرقل أحلام الصين
ليست المبادرة الصينية حلماً تريد الصين تحقيقه في المستقبل؛ بل هو مشروع حقيقي دفع فيه حتى الآن أكثر من 4 تريليونات دولار، وليس من السهل بالنسبة للصين احتمال أن يصبح جزءاً مهماً من استثماراتها خسارة محققة لا أكثر.
لكن الأزمة الأوكرانية تمثل عقبة حقيقية أمام المشروع بالفعل؛ فالعقوبات الغربية على روسيا تعني صعوبة في أن تلعب الأراضي الروسية الدور الذي أرادته الصين لها سابقاً.
لم تعلن أوروبا حتى الآن فرضها عقوبات على مرور المستوردات عن طريق روسيا، لكن ذلك متوقع في الفترة القادمة؛ كما أن كثيراً من عمليات الشحن بين روسيا وأوروبا متوقفة بالفعل، كما تقول صحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
يتكون الطريق البري من سكك حديدية طويلة، يقع كثير منها في روسيا، ولكن منذ أن بدأت الحرب، بدأ الكثير من ناقلي الصادرات الصينيين والأوروبيين بتغيير آلية شحنهم، سواء بإيجاد طرق برية أخرى، أو باستخدام الطرق البحرية بدلاً من الطرق البرية.
تمر سكك الحديد هذه من روسيا إلى أوروبا عن طريق كل من بولندا وبيلاروسيا، كما أن بعض الشحنات الصينية تصل إلى ميناء مدينة سان بطرسبرغ الروسية في الشمال عن طريق سكك حديد أخرى، قبل أن تشحن بحراً إلى أوروبا.
في العام الماضي؛ وبمساهمة من تطور الاستثمارات الصينية في مبادرة الحزام والطريق؛ وصلت التجارة الصينية إلى 1.83 تريليون دولار، وذلك مع 140 دولة وقعت معها الصين اتفاقيات تصدير سلعها إليها.
وهي زيادة بنسبة 24% عن عام 2020، وهي نسبة ضخمة لتحقيقها في عام واحد، وأرباح كبيرة يحصل عليها المصدِّرون الصينيون، بمساعدة من الحكومة الصينية.
ولكن ماذا سيحصل لكل ذلك عند فرض عقوبات على مرور التجارة عبر روسيا؟ بلا شك ستتضرر هذه التجارة المارة من خلال روسيا، وهي طريق لا يمكن التخلي عنها بالنسبة للصين لوصل سوقها بالأسواق الأوروبية.
وهو يعني تضرر استثمارات صينية ضخمة في روسيا وحولها، خصوصاً أنها لن تستطيع العمل بسبب العقوبات، وربما لسنوات، إلا لو قررت الصين أن تكتفي باستخدام هذه الطرق لشحن السلع من وإلى روسيا، مع أنه سيظل خسارة مقابل المكاسب التي يمكن تحقيقها حال التجارة مع أوروبا.
ستظل الصين قادرة على استخدام طرق أخرى إلى أوروبا بطبيعة الحال، سواء كانت من ضمن مبادرة الحزام والطريق، أو ضمن طرق تجارية معتادة أخرى، لكن لا أحد سيعوض الصين عن خسائرها بسبب توقف مبادرتها في الجزء الذي يتعلق بروسيا، كما أنها قد لا تستطيع إيجاد طرق بنفس قِصر الطريق المار عبر روسيا.
كيف ستخسر الصين بسبب الأزمة الأوكرانية؟
في عام 2021 نُقل 82 مليار دولار من الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبي، عن طريق سكك الحديد، وهو 10 أضعاف ما تم نقله بنفس هذه السكك في عام 2016، ويمثل 10% من إجمالي قيمة التجارة السنوية بين الصين وأوروبا، بينما تنقل باقي التجارة بحراً.
تأتي هذه الزيادة بسبب أن سكك الحديد أثبتت فاعليتها في نقل الشحنات، فهي تنقل الشحنات بين الصين وأوروبا بشكل أسرع، وبكلفة أقل من كلفة النقل البحري.
ما زالت عشرات القطارات تصل إلى أوروبا أسبوعياً من الصين، محملة بالملابس ومعدات الرياضة، وأدوات كهربائية من مناطق مختلفة من الصين، لتعود إلى الصين محملة ببضائع أوروبية عالية التكلفة، لبيعها في السوق الصينية.
ولا تزال هذه القطارات تصل إلى أوروبا، لأن بعضها غادر قبل بدء الهجوم الروسي، أو خلاله، لكن المتوقع أن ينخفض عدد هذه القطارات خلال الأسبوعين المقبلين.
في أحد المشاريع المتعلقة بالنقل البري من الصين، وهو مشروع يمر إلى أوروبا عبر روسيا وبيلاروسيا، استثمرت الصين ملياري دولار منذ عام 2015، في مجمع صناعي ضخم بالقرب من العاصمة البيلاروسية؛ مينسك.
لكن المستثمرين الأوروبيين بدأوا الآن بالتفكير بالانسحاب من مثل هذه المشاريع؛ سواء كانت داخل روسيا أو حليفتها بيلاروسيا، ما يهدد خسارة الاستثمارات الصينية التي ضختها في تلك البلدان.
كما أن العقوبات تضع الشركات الصينية في موقف محرج؛ فهي لن تجبر فقط على عدم التصدير إلى أوروبا عن طريق روسيا؛ بل إنها ستتعرض للعقوبات الغربية الثانوية، إن لم تلتزم بعدم التعامل مع روسيا، ضمن ما تمنعه العقوبات الغربية.
لكن الصين حتى الآن المشاركة بالعقوبات الغربية، والتي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية؛ تقول إنها تدعم السلام، ولكنها لا ترى أن العقوبات الغربية قانونية، أو أن بإمكانها حل الأزمة القائمة.
مستقبل شبكات سكك الحديد
بعد بدء جائحة كورونا؛ أصبحت شبكات القطارات أكثر جاذبية للاستخدام، كبديل للنقل البحري، لأن الموانئ العالمية أُغلقت لمنع انتشار الجائحة.
وظلت الموانئ العالمية تشهد تراكماً للشحنات فيها، بسبب المشاكل اللوجستية التي خلقتها الجائحة، والتي تسببت باختناقات تجارية في العالم وتأخير في نقل الشحنات، وساهمت في رفع معدلات التضخم في العالم.
لكن شبكة القطارات العالمية وفرت بديلاً عن النقل البحري، لذلك ارتفع استخدامه في التجارة خلال عامي 2020 و2021.
في روسيا نفسها؛ أراد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يعزز موقع روسيا في التجارة العالمية، ولذلك قرر في عام 2018 احتكار سكك الحديد في روسيا، لضمان نمو مستدام في حركة الشحنات عبر روسيا.
والهدف الروسي كان أن تمر 15% من إجمالي الشحنات من آسيا إلى أوروبا عبرها، بحلول عام 2035.
لكن إذا أغلقت طرق روسيا أمام الشحنات الصينية؛ فإن ذلك يعني أن أي طريق بري آخر سيحتاج لقطع مسافات أطول بكثير، وبالتالي سيكون أكثر كلفة وتعقيداً من حيث الترتيبات اللوجستية، ما قد يجعلها غير مجدية للصين.
لكن مثل هذه الكُلف الإضافية ليست عقبة أمام الصين وحدها؛ فالكلف الإضافية في أسعار السلع الصينية تعني كلفاً إضافية على المستهلكين الأوروبيين.
كما أن العقوبات الغربية أضرت، وستضرّ روسيا واقتصادها بلا شك؛ فإنها توقع ضرراً على أطراف أخرى مثل الصين؛ بل على من يفرض هذه العقوبات أيضاً.
فبعض آثار الحرب المشابهة لارتفاع أسعار الطاقة وتذبذبها بشكل كبير، بالإضافة إلى الأضرار على جزء مهم من عمليات النقل البري في العالم، وأيضاً على حركة الطائرات من وإلى روسيا، ستمتد لتصيب الاقتصاد العالمي كله بالضرر.