هذه الحلوى عمرها يصل لألف سنة
مدار الساعة -عندما تزور بيتاً عربياً استقبل مولوداً جديداً ستجد رائحة مميزة تستقبلك، حتى وأنت عند الباب، وتبتسم لأنك تعرف أن بانتظارك حلوى استقبال المولود الخاصة، المُعدّة خصيصاً لهذه المناسبة السعيدة، وربما تتساءل وأنت تتناول لقمتك اللذيذة: ما التاريخ الذي يخفيه هذا الطبق؟ ولماذا يُقدّم في هذه المناسبة تحديداً؟
لا يشيع في الغرب ربط الحلوى بالطعام الصحي، لكن الوضع يختلف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث توجد حلوى آمن الأجداد بأنَّ لها خصائص طبية تساعد على التعافي، ويقدمونها للأم بعد الولادة، وللضيوف المهنئين أيضاً، وقد توارثتها الأجيال، لدرجة أن عمر بعضها قد يصل لألف أو ألفي سنة.
تختلف هذه الأطباق باختلاف البلاد والمناطق، لكن إذا تأملت فيها جيداً فستجد أن هناك روحاً مشتركة بينها جميعاً، وستشعر بذلك في هذه الجولة، التي نأخذك فيها عبر المطابخ العربية التقليدية لاستكشاف طريقتهم الفريدة في الاحتفاء بالأم والمولود الجديد.
يتم تحضير هذا البودينغ تقليدياً للاحتفال بالمولود الجديد في لبنان (كان للاحتفال بالمواليد الذكور فقط في البداية وامتد للإناث)، وعندما تلد الأم يكون هذا الطبق أول ما يتم تحضيره في البيت لتقديمه للأم والأسرة والضيوف، وبما أن احتفالات الكريسماس تتمحور حول ميلاد المسيح فيقدم المغلي باعتباره حلوى احتفالية بالكريسماس في جبال لبنان أيضاً.
المغلي عبارة عن بودينغ الأرز الذي يكتسب اللون البني بسبب البهارات المضافة إليه، والمتمثلة في الكراوية التي يُعتقد أنها مدرة للحليب، والقرفة والزنجبيل والهيل أيضاً في بعض المناطق، ويغطى وجهه بالمكسرات بسخاء.
هناك أسطورة حول المغلي في لبنان، تقول إن لونه البني رمز للتربة الخصبة، وإن المكسرات فوقه تبدو كبذور ستخرج للحياة.
أما سر تسمية هذا الطبق فتعود لأنه يجب غليه لأطول فترة ممكنة، لمدة تتراوح من ساعتين إلى ثلاث مع التقليب المستمر على نار هادئة، وذلك كي يحصل على القوام الثخين، لهذا لا يمكن للأم الجديدة المنهكة أن تفعل ذلك بالطبع، وإنما تتولى المهمة إحدى القريبات.
تقدم نفس هذه الحلوى في سوريا والأردن وفلسطين، ولكن تحت اسم "كراوية"، وتختلف عن اللبنانية في كونها توضع على النار لفترة قصيرة، كما لا تقدم باردة مثل المغلي، وإنما تقدم دافئة غالباً.
ألفا سنة من البسيسة (بودينغ الشعير والدقيق)- المغرب العربي
البسيسة طعام تقليدي من شمال إفريقيا، ويُعتقد أن أول وصفة للبسيسة التونسية تعود إلى عصر الرومان، الذين صنعوها من دقيق الشعير المحمص، وقد تناولها التونسيون والليبيون لأكثر من ألفي سنة.
تُحضّر بودرة البسيسة عبر خلط الشعير المحمص المطحون والدقيق المطحون، مع الشمر والينسون، ويضيف البربر إليه البقوليات المطحونة مثل الحمص أو العدس، بالإضافة إلى البذور المطحونة، لزيادة القيمة الغذائية، كما ذكرت شبكة BBC البريطانية.
وعند ترطيب البودرة بزيت الزيتون أو السمن المذاب مع العسل وتزيين الوجه بالمكسرات، يتحول هذا المسحوق الكابي اللون إلى وجبة فائقة، تقدم للأم بعد الولادة كي تستعيد صحتها وتساعد في إدرار الحليب، وتقدم للضيوف المهنئين، وفي الاحتفال بالمولد النبوي.
تعتبر الطمينة أحد تنويعات البسيسة في شرق الجزائر، وتعتمد في أساسها على السميد المحمص (بودينغ السميد)، ثم يضاف إليها السمن المذاب مع العسل حتى تحصل على القوام المطلوب، وتقدم مزينة بالقرفة والمكسرات، وكانت النسوة يحضرنها قبل الذهاب للأم لـ"الاطمئنان" عليها وعلى المولود الجديد، ويقال إن تسميتها جاءت من هذا المقصد، فكانت "طمينة".
أما في المغرب، فتعتبر حلوى السلو (بودينغ السمسم والدقيق) مشابهة لفكرة البسيسة أيضاً، وتقدم أيضاً كحلوى لاستعادة صحة المرأة بعد الولادة، وتتم عبر طحن اللوز المحمص، وكذلك السمسم المحمص، وخلطهما مع الدقيق المحمص والينسون والقرفة والمستكة، ثم يتم ترطيب الخليط بالسمن والعسل.
يعتبر الزرير (بودينغ السمسم والبندق) أيضاً أحد تنويعات البسيسة في شرق الجزائر وتونس، ويعتمد في أساسه على مطحون السمسم والمكسرات بعد تحميصهما، ثم يضاف للخليط السمن المذاب بالعسل، ويزين بالمكسرات، ويقدم أيضاً للوالدة الجديدة وزائراتها في كؤوس صغيرة للغاية، لأنه مشبع وثقيل.
ألف عام من المُغات (مشروب عشبي)- مصر
المُغات مشروب مشهور للغاية في مصر، ويُعتقد أن له خواص طبية، لدرجة أنه كان يسمى قديماً "الدواء الأثمن"، وتشربه النساء المصريات بعد الولادة، ويقدم للنساء القادمات للتهنئة، ويُعتقد على نطاق واسع أنه مدرّ للحليب، ويساعد على تعافي الجسم وزيادة الوزن وتخفيف الالتهابات والآلام.
تاريخ المغات قديم للغاية، فقد تم وصفه وذكر استخداماته الطبية في كتاب "فردوس الحكمة في الطب" لعلي بن سهل الطبري، العائد للقرن الـ9 الميلادي، (أقدم موسوعة في الطب الإسلامي)، بالإضافة إلى كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار، العائد للقرن الـ11 الميلادي.
يتم إعداد المغات عبر سحق جذور النبات البري "جلوسوستيمون بروجويري" إلى بودرة، وتحميصها مع سمن، ثم صب الماء عليها وتحليتها بالسكر، وتقليبها حتى يصبح قوامها سميكاً، ثم تقدم ساخنة وعلى وجهها المكسرات.
ألف عام من العصيدة (بودينغ الدقيق المغلي)- الخليج واليمن والسودان
يمتد عمر العصيدة المعروف إلى أكثر من ألف عام، فقد ذُكرت في كتاب "الطبيخ" لابن سيار الوراق، والعائد لمنتصف القرن العاشر الميلادي (أقدم كتاب طبخ عربي)، كما ذكرت في كتاب طبخ مسلم إسباني مجهول من القرن الـ13.
يطلق اسم العصيدة على مجموعة متنوعة من الأطباق المتشابهة في الفكرة، ويقول الباحث الفرنسي "ماكسيم رودنسون" إنها كانت طعاماً نموذجياً لدى البدو قبل الإسلام، وظلت مستمرة في المغرب العربي واليمن ودول الخليج والسودان والبدو القادمين من أصول عربية في مصر.
اكتسبت العصيدة اسمها من الفعل "عصد"، ويعني الالتواء، وذلك لأنها تعدّ بإضافة الدقيق إلى الماء المغلي وتقليبه على نار هادئة حتى يغلظ قوامه، فيصب عليه السمن والعسل أو دبس التمر عند التقديم، وهناك أيضاً عصيدة التمر التي يضاف إليها السمن، وتقدم في الاحتفال بالمولد النبوي والعقيقة والعيد، وكذلك تقدم للأم الجديدة، حيث يعتبر أن للعسل خواص طبية استشفائية.
وإذا تأملت في حلوى العالم العربي التاريخية للاحتفال بالأم والمولود فسوف تجد أن بينها روحاً مشتركة على اختلاف مكوناتها، وأنها ابنة أصيلة لبيئتها.
كما تشترك الأطباق أيضاً في كونها تنويعات لفكرة البودينغ، فهي سريعة التناول للأم المنشغلة بواجباتها الجديدة، ولينة القوام ومكونة من الكربوهيدرات بالأساس، ما يجعلها سهلة الهضم والامتصاص، وتقدم في أكواب أو أطباق صغيرة، لأنها مشبعة بسرعة.
هناك عامل مشترك مهم أيضاً بين حلوى الاحتفاء بالمولود الجديد، وهي أنها تقدم في الاحتفالات بمولد الرسول أو مولد عيسى عليهما السلام (عدا المغات)، فنجد أن المغلي مثلاً يقدم في احتفالات الكريسماس، فيما تقدم العصيدة وتنويعات البسيسة في المولد النبوي، وهو أمر مفهوم، لأنها في نهاية المطاف تتمحور حول الاحتفال بمولود ايضاً.