تعليقاً على ما قاله الوزير
..... احد الوزراء قال: (ان المجتمع لا يتقدم في ظل وجود هويات فرعية، لأن التطور والتقدم يكمن بوجدود الهوية الموحدة).. هذا الكلام قدمه الوزيرفي ندوة نظمت حول الأحزاب مؤخرا, وهو منشور في الصحف والمواقع الإخبارية...
السؤال: هل هذا الكلام يستند على نظرية أم أنه رأي شخصي لوزير التنمية السياسية؟ أنا لا أعرف ولكني قرأت (أمين معلوف) مؤلف كتاب الهويات الجامعة, ولم يتحدث بهذا الكلام... ماكس فيبر أيضا مؤسس علم الاجتماع لم يتطرق لهذا الكلام، محمد عابد الجابري في نقاشاته لأزمة الموروث وفي ردود جورج طرابيشي عليه, لم يتطرقا أيضا لهذه النظرية..
أريد أن أقدم للوزير أمراً مهماً، وسأحصره في نقاط...
أولا: لا يوجد هوية موحدة, وأنا اتحدث هنا في إطار النظرة الأكاديمية لمسألة الهوية.. الهوية هي: منفرة قاتلة دموية.. هذا هو تاريخها وهذا هو مسارها, وهذا ما أنتجته الأحداث والحروب في العالم.
ثانيا: الهوية الفرعية كانت معززة ومشكلة للهوية الأم أو الهوية الرئيسية... ولم تكن يوما من عوامل التأخر أو التخلف, مثلا: حابس المجالي من الكرك, تربى على شيمها وحمل موروثات العشيرة, وتحلى بسجايا الخلق والكرم والاقتدار، ولكنه حين قاتل في باب الواد.. قاتل باسم الأردن، وسجل انتصاراته باسم الوطن الأردني... لم يكتب في التاريخ أن حابس (كركي) بل كتب التاريخ أنه أحد جنرالات الجيش العربي الأردني... إذن هذا يدلل على أن الهوية الفرعية هي معززة ورافعة للهوية الأم.
ثالثا: الهويات في التاريخ تنشأ على اربع قواعد وهي: الجغرافيا، الدين, اللغة, العرق... وقد تجتمع كلها في تشكيل هوية واحدة.. خذ مثلا: الهوية الكردية مبعثرة جغرافيا بين العديد من الدول, لكنها تشكلت على قاعدة اللغة, والعرق... الهوية الأمازيغية نفس الشيء بعكس مثلا الهوية الصحراوية في جنوب المغرب والتي تشكلت على قاعدة الجغرافيا... خذ مثالا آخر: الهوية في ايرلندا الشمالية تشكلت على قاعدة الدين.. فهم (كاثوليك) بالمقابل بريطانيا (أنجلو ساكسونية).. والهويات الفرعية لا تتصادم مع الهوية الأم, لكنها تمتلك بعض الخصوصيات الثقافية أو العرقية.. بالمقابل قواعد تشكلها هي ذات قواعد تشكل الهوية الأم، وهي ليست من عوامل التأخر أو التخلف على العكس.. هي الباعث والمعزز للهوية الأم.
رابعا: لم اشاهد في التاريخ أن هوية فرعية تصادمت مع الهوية الأم, إقليم كاتالونيا في اسبانيا لا ينظر له على أنه هوية فرعية, بل هو هوية مستقلة... عن الأمة الإسبانية, مستقلة ثقافيا واجتماعيا وعرقيا.. بالمقابل الكردي المولود في ديار بكر, يحمل ذات اللغة وذات الحلم للكردي المولود في أربيل..
خامسا: علينا أن نقرأ التاريخ جيداً، حتى نفهم معنى الهويات الفرعية.. علينا أن نقرأ تاريخ نجد والحجاز والطائف وجدة, هذه الهويات الفرعية الجميلة في المملكة العربية السعودية التي امتلكت ثقافات ولهجات محلية, ولكنها شكلت الهوية الأم للدولة السعودية... تداخلت مع بعضها في انسجام، وحافظت على خصوصياتها.. تحت مظلة الهوية الأم للدولة السعودية القائمة على البداوة، والإيثار والتضحية... والواضحة المعالم، والمحددة السمات...
الأردن كذلك،هو امتزاج البدو مع الفلاحين, تصاهرهم.. ثقافتهم، أحلامهم.. هذا الامتزاج في بدايات القرن التاسع عشر, هو من أنتج الهوية الأردنية.. تحت مظلة الدولة, والعرش الهاشمي... وهذا الامتزاج هو من أعطى للأردن خصوصية في بلاد الشام, واعطى لهذه الدولة هويتها الواضحة والتي تمتلك تعريفا مكانيا وثقافيا وعرقيا ودينيا.. فحين قاتل عودة أبو تايه (البدوي) في فلسطين, حمل ذات الأحلام والامال في العروبة والتحرير.. التي حملها كايد المفلح العبيدات.. وانت تعرف أن كايد من هوية فرعية فلاحية حورانية, وعودة من هوية فرعية بدوية.. ولكن الهوية الفلاحية والبدوية, أو الهويات الفرعية.. امتزجت معاً تحت مظلة الهوية الأردنية الرئيسية.. لقد كانت هوياتهم الفرعية, معززة وباعثة للهوية الأم وهي الأردنية.. إذا كيف نقول ان الهويات الفرعية من عوامل التأخر والتخلف.
أخيراً أنا انصح الوزراء جميعهم, قبل الغوص بمسألة الهويات.. أن يقرأوا أمين معلوف جيداً.. حتى يدركوا أن استعمال المصطلحات, دون قراءة.. ودون بحث, ودون تدقيق بها قد يوقعنا في مأزق خطير وهو مأزق غياب الوعي..
والله من وراء القصد..