قصّة الجزيرة التي تطالب بالانفصال، وحكمها المسلمون أكثر من قرن

مدار الساعة ـ نشر في 2022/03/24 الساعة 17:55

مدار الساعة -تثير جزيرة كورسيكا أزمة سياسية في فرنسا؛ إذ انقسمت آراء مرشحي الرئاسة حول منحها حكماً ذاتياً بعد تصريحات مفاجئة أدلى بها وزير الداخلية جيرالد دارمانان، حول استعداد فرنسا لمنح الجزيرة الواقعة جنوب البلاد نظام حكم ذاتي في خضم تظاهرات وأعمال عنف تشهدها منذ الاعتداء داخل السجن على الناشط القومي المعتقل إيفان كولونا المطالب باستقلالها في 2 مارس/آذار 2022.

وحسب وكالة الصحافة الفرنسية، فقد انقسمت آراء مرشحي الرئاسة حول الجزيرة التي ولد فيها نابليون بونابرت، وتنوعت بين من يراها "جزيرة فرنسية" خصوصاً من مرشحي اليمين، وبين من أيد "الحكم المستقل" وشرعية ثورة سكانها خصوصاً من قبل مرشحي اليسار، فيما رأى بعض المرشحين أن "ماكرون فشل ورضخ للعنف" في الجزيرة؛ حيث تشهد الجزيرة تظاهرات واشتباكات بين المتظاهرين المطالبين باستقلالها عن فرنسا والشرطة.

نقاشات انفصال جزيرة كورسيكا بلا نتيجة

وزير الداخلية الفرنسي زار جزيرة "كورسيكا" رسمياً، لكنه غادرها دون أن يتوصل إلى اتفاق رسمي مع القوميين والنشطاء السياسيين للإقليم، حول طبيعة الحكم الذاتي الذي أبدت الحكومة استعدادها لمنحه للجزيرة في إطار مساعيها لتخفيف الاضطرابات الأمنية التي زادت حدتها مع وفاة الناشط يوم 21 مارس/آذار 2022 بمستشفى مارسيليا، بعد 3 أسابيع من دخوله في غيبوبة على إثر طعنه داخل السجن المعتقل فيه.

قام الوزير دارمانان بزيارة للجزيرة الواقعة بالبحر الأبيض المتوسط، استمرت لمدة ثلاث أيام، من الأربعاء 16 إلى الجمعة 18 مارس/آذار 2022، بعدما كانت مقررة في يومين فقط، وقد التقى خلالها برئيس المجلس التنفيذي لكورسيكا جيل سيميوني، ورؤساء المجموعات السياسية لجمعية كورسيكا.

وقد مدد دارمانان زيارته يوماً آخر على أمل التوصل لصياغة بروتوكول مع الكورسيكيين المنتخبين، ولكن اجتماعاتهم الطويلة أفرزت فقط صياغة تقرير حول ما دار بين المجتمعين، في انتظار لقاء آخر مُبرمج في أبريل/نيسان القادم بالعاصمة الفرنسية باريس.

المطالبات بانفصال جزيرة كورسيكا عن فرنسا والعمل المسلح!

تعرف كورسيكا، إذن، منذ مطلع مارس/آذار، مظاهرات يومية يُطالب من خلالها المحتجون بوضع إداري واجتماعي خاص بإقليمهم يتماشى مع "هوية الجزيرة"، كما رفع البعض منهم لافتات يتهمون من خلالها الدولة الفرنسية بالضلوع في حادثة طعن إيفان كولونا، الذي كان مسجوناً مدى الحياة بتهمة قتل المسؤول الإقليمي للجزيرة كلود إيرينياك في سنة 1998.

ويُطالب القوميون الكورسيكيون باستقلال جزيرتهم عن فرنسا، منذ ستينيات القرن الماضي، وتحديداً من بعد الحرب العالمية الثانية في 1945، وقد لجأ الكثير منهم للعمل المسلح، من خلال تأسيس منظمة سرية تُسمى "جبهة التحرير الوطني لكورسيكا"، في العام 1976، والتي نفذت تفجيرات لمراكز وهيئات حكومية فرنسية بمدن الجزيرة على غرار "باستيا" و"أجاكسيو" وحتى بالبر الفرنسي كباريس وليون.

لكن في العام 2016، أعلنت "جبهة التحرير الوطني لكوريسيكا" إنهاء العمل المسلح والانخراط في النضال السياسي ضمن "المجموعة القومية والمسماة باللغة الكورسيكية (A cuncolta naziunalista)، وذلك قبل أن تقوم مجموعة من "الثوار" بإعادة إحياء الجبهة المسلحة عبر شريط فيديو تم بثه يوم 3 سبتمبر/أيلول 2021، يظهر فيه 30 عنصراً مسلحاً ملثماً، يُطالبون باستقلال كورسيكا ويهددون فرنسا ويحذرونها من ازدراء "حقوق شعبهم"، وذلك بحسب ما ذكره موقع إذاعة فرنسا الدولية (RFI) في نفس اليوم.

من هم السكان الأوائل للجزيرة؟

كورسيكا هي رابع أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط من حيث المساحة، والتي تقدر بـ 8680 كلم مربعاً، وتقع على بعد 164 كيلومتراً عن البر الفرنسي و 83 كيلومتراً عن البر الإيطالي وعلى بعد 11 كيلومتراً فقط عن جزيرة "سيدرينيا" الإيطالية، ما يجعلها مرتبطة ثقافياً واجتماعياً بإيطاليا أكثر من فرنسا، خاصة أنّها كنت تابعة لأكثر من 4 قرون لجمهورية "جنوة " الإيطالية.

حسب موقع Cosmovisions الفرنسي، المهتم بالتاريخ والأدب، لا توجد مراجع موثقة تتحدث عن الأقوام الأولى التي استوطنت جزيرة كورسيكا؛ إذ كتب عن تاريخ كورسيكا: "يخفي الكورسيكيون تنوعاً في أصولهم؛ إذ لا نعرف من هم آباؤهم الأوائل، فهل هم الأيبيريون الذين جاءوا من إسبانيا؟، أم الليغوريون الذين قدموا من فرنسا أو إيطاليا؟، أم الإفريقيون الذين قدموا من التل؟"، ويقصد بـ"الإفريقيين القادمين من التل"، سكان شمال إفريقيا.

الموقع الفرنسي يقول إن كورسيكا كانت تسمى من طرف اليونانيين القدامى بـ"كيرنوس" Kyrnos ، قد عرفت استيطان كل من "الفوسيين"، القادمين من آسيا الوسطى، الذين بنوا مدينة "ألاليا"، ثم "الفينيقيين" و"الأتروسكان" و"القرطاجيين"، والذين كانوا يتحاربون للاستيلاء عليها والانفراد بالعيش على أراضيها، وذلك إلى غاية الظفر بها من طرف الرومان في عام 237 قبل الميلاد.

جزيرة كورسيكا - iStock

جزيرة كورسيكا – iStock

وقد أحرق الرومان مدينة " ألاليا" وبنوا في نفس المكان مدينة جديدة تحت اسم "أليريا" والتي لا تزال آثارها قائمة إلى حد الآن.

وانتهى الحكم الروماني لكورسيكا في العام 455 بعد الميلاد بعد غزو الجزيرة من طرف "الوندال"، الذين كانوا قد سيطروا في ذلك الوقت على شمال إفريقيا وعدة مناطق بجنوب أوروبا إضافة لجزر غرب البحر المتوسط، وكانوا قد اتخذوا من مدينة "قرطاجة" (بتونس الحالية) عاصمة لهم.

وفي سنة 534 استولى البيزنطيون على مملكة الوندال بشمال إفريقيا وطردوا سكانها من جزر غرب البحر المتوسط ومن بينها طبعاً كورسيكا التي أصبحت تابعة للإمبراطورية البيزنطية إلى غاية الاستيلاء عليها من طرف "اللومبارديين" في العام 725.

ولم تدم فترة استعمار "اللومبارديين" لكورسيكا أكثر من 30 سنة، بحيث عاد البيزنطيون للاستيلاء على شمال الجزيرة في منتصف القرن الثامن الميلادي، فيما احتل المسلمون الفاتحون جنوب الجزيرة، قبل أن يطردهم منها الإفرنج في عهد الملك "شارلمان" في سنة 771.

124 سنة من الحكم الإسلامي

عاد العرب والأمازيغ المسلمون للتواجد، فيما بعد، بكورسيكا، ولكن لم يكن ذلك على شكل توطن طويل الأمد، بل على شكل غارات وغزوات متقطعة، وقد اجتمع على هذا الرأي المؤرخون العرب والغربيون، على حد سواء، على غرار محمد بن عبد المنعم الحميري، والأمريكي "أرشيبالد لويس"؛ إذ اعتبروا أن تلك الغزوات كانت أيضاً على جزر أخرى كسيردينيا، وقبرص، وصقلية من أجل السيطرة والتحكم على الملاحة في البحر المتوسط.

أما الدكتور المغربي علي بن المنتصر الكتاني، فقد ذكر في كتابه "المسلمون في أوروبا وأمريكا" الذي صدر في العام 1976، أنّ "الأغالبة" المسلمين قد فتحوا جزيرة كورسيكا في سنة 806 ، وأنّ "العُبَيْدِيِّين" ورثوها عنهم، وأنها بقيت في أيديهم إلى أن سيطر عليها النصارى سنة 930 ، أي أن الحكم الإسلامي قد دام بها 124 سنة.

تحت حكم جمهورية "جنوة" الإيطالية

في العام 1284 أصبحت كورسيكا تابعة لجمهورية جنوة الإيطالية، وبدون توترات أمنية داخلية خطيرة ولكن بحروب عديدة مع ملوك فرنسا والدولة العثمانية، وذلك إلى غاية سنة 1730، لما قام سكان البلد بثورة على الحكم المركزي، ثم أعلنوا استقلال الجزيرة على شكل مملكة، واختاروا "تيودور الأول" ملكاً عليها، من أبريل/نيسان 1736 إلى ديسمبر/كانون الأول 1740، ثم تحولت إلى جمهورية مستقلة، قبل أنّ تستولي عليها مملكة فرنسا عسكرياً بعد معركة "بوانت نوفو" يوم 9 مايو/أيار 1769، بحجة أنّ جمهورية جنوة قد تنازلت لها على الجزيرة يوم 15 مايو/أيار 1768.

وعادت كورسيكا لتستقل مرة أخرى، ولكن نسبياً وتحت الحماية البريطانية تحت اسم "المملكة الأنجلو كورسيكية"، من 1774 إلى 1796، وذلك قبل أن تستعيدها فرنسا إلى حتى الآن، مع فترة احتلال قصيرة من طرف القوات الألمانية النازية والإيطالية الفاشية، خلال الحرب العالمية الثانية، من نوفمبر/تشرين الثاني 1942 إلى أكتوبر/تشرين الأول 1943.

نابليون بونابرت "الكورسيكي" الذي أسَّس الإمبراطورية الفرنسية

لعل من أشهر الشخصيات الكورسيكية التاريخية هو الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الذي ولد ببلدة أجاكسيو بجنوب الجزيرة، يوم 15 أغسطس/آب 1769، أي بعد عامٍ واحدٍ من انتقال ملكية الجزيرة من جمهورية جنوة، إلى فرنسا، وبعد 3 أشهر فقط من الاستيلاء عليها بالقوة.

نابليون من أصول إيطالية؛ إذ هاجرت عائلة "بونابرت" إلى كورسيكا في أواخر القرن الخامس عشر ميلادي، بحيث إنّ والده "شارل" هو أيضاً من مواليد أجاكسيو، مثله في ذلك مثل الوالدة "ريتيزا رومانيلو".

وقبل أن يصبح أول إمبراطور لفرنسا يوم 18 مايو/أيار 1804 تقلَّد نابليون عدة مناصب عسكرية عليا بالجيش الفرنسي، أهمها رتبة جنرال التي تحصّل عليها في سنة 1793، خلال عهد الجمهورية الفرنسية الأولى.

وقد وصل إلى الحكم إثر انقلاب عسكري في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1799 ضد الإدارة الحاكمة التي كانت تسير البلاد، منذ 26 أكتوبر/تشرين الأول 1795 بعد الثورة الفرنسية.

صورة تعبيرية لنابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي في مصر - iStock

صورة تعبيرية لنابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي في مصر – iStock

واشتهر نابليون بونابرت بقيادته سنة 1798، حملة عسكرية على مصر بحجة قطع طريق بريطانيا إلى الهند، وامتدت حملته حتى بلغت الشام الجنوبية؛ حيث حاصر مدينة عكَّا لكنه فشل في اقتحامها لصمود واليها أحمد باشا الجزار، ومساندة الأسطول البريطاني لحامية المدينة، ثم بحلول وباء الطاعون وفتكه بالجنود الفرنسيين، اضطرَ بونابرت إلى الانسحاب إلى مصر، ثم عاد إلى أوروبا بسبب اضطرابات أمنية بفرنسا التي كانت لا تزال تسير من طرف إدارة حاكمة.

وبعد الانقلاب العسكري في فرنسا واستيلائه رسمياً على الحكم، سعى نابليون لإكمال حملته العسكرية وجولاته الاستعمارية بمصر، لكنّ جيشه عاد يجر أذيال الخيبة في العام 1801، ليركز بعدها بونابرت على توسيع إمبراطوريته بأوروبا.

وشكّل الغزو الفرنسي لروسيا، في سنة 1812، نقطة تحول في حياة بونابرت وحكمه؛ حيث تكبد الجيش الفرنسي، خلال الحملة، خسائر بشرية ومادية ضخمة، بحيث وفي 16 إلى 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1813، هزمت قوّات "التحالف السادس" الجيش الفرنسي في معركة الأمم بمدينة "لايبزيج" الألمانية، وهي قوّات تابعة لدول النمسا، بروسيا، بريطانيا ، السويد، البرتغال وإسبانيا.

وفي العام 1814 اجتاحت هذه القوّات فرنسا ودخلت العاصمة باريس، وأجبرت نابليون على التنازل عن العرش، وتم نفيه إلى جزيرة "ألبا" الإيطالية.

وهرب بونابرت من منفاه بعد، وعاد ليتربع على عرش فرنسا يوم 1 مارس/آذار 1815، وحاول مقاومة الحلفاء واستعادة مجده الضائع لكنهم هزموه شر هزيمة في معركة "واترلو" ببلجيكا يوم 18 يونيو/حزيران 1815، ما جعله يستسلم للبريطانيين، الذين نفَوه إلى جزيرة "سانت هلينة"، بالمحيط الأطلسي وهناك أمضى بقية حياته إلى غاية وفاته يوم 5 مايو/أيار 1821، نتيجة تسممه بالزرنيخ.

مدار الساعة ـ نشر في 2022/03/24 الساعة 17:55