هذا الرجل يراهن على التالي: حرب تمتد سنوات وتنتهي بهزيمة بوتين
مدار الساعة ـــــلا خطوات جدية من جانب إدارة الرئيس جو بايدن للتفاوض مع روسيا بشأن حل دبلوماسي يوقف الهجوم الروسي على أوكرانيا. ولا نية مطلقاً للدخول في حرب مباشرة. والهدف هزيمة بوتين في نهاية المطاف.
بات واضحاً أن تلك هي استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يراه كثير من المحللين "مقامرة مرعبة لإدارة بايدن"، بحسب تحليل نشره موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وأصبح واضحاً أن الحرب في أوكرانيا ستكون أطول مما توقع الكرملين، على الرغم من أن القوات الروسية باتت تحاصر العاصمة كييف وباقي المدن الأوكرانية، خصوصاً خاركيف وماريوبول، بينما لم يتمكن الجيش الروسي إلا من السيطرة على مدينة خيرسون.
وتعرضت روسيا لأكبر حملة عقوبات فرضها الغرب منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، وطالت العقوبات الثروات الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين ودائرته المقربة من رجال الأعمال. وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا، هذه المرة، منذ أن أعلن فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحِدتها وشمولها مع بدء الهجوم، الخميس 24 فبراير/شباط.
ومع تواصُل الهجوم الروسي على أوكرانيا تزايدت بشكل متسارع عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، ولا تزال القوات الروسية لم تحقق انتصاراً حاسماً وسريعاً كما كان يأمل الرئيس الروسي.
بايدن: أمريكا لن تحارب روسيا في أوكرانيا
أعلن جو بايدن يوم الجمعة 11 مارس/آذار بصراحةٍ عن خطٍّ أحمر مرعب للأزمة الأوكرانية، قائلاً إن "الولايات المتحدة لن تحارب روسيا في أوكرانيا، فأيُّ مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا تعني اندلاع حربٍ عالمية ثالثة، وهو أمر يجب أن نسعى جاهدين لمنعه".
هذه التصريحات مريحة، من جهةٍ، لأنها خلصت كثيرين من بعض خوفهم من اندلاع حرب نووية، لكن إقدامه على التصريح بذلك مربكٌ من جهة أخرى، فهو يبرز المخاطرة التي تمضي إليها إدارة بايدن، ومفادها أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا قد يستمر إلى أجل غير مسمى ما دام لن يجر الولايات المتحدة أو الناتو إلى حرب أوسع نطاقاً مع روسيا، بحسب تحليل الموقع الأمريكي
وشهدت الأسابيع الأخيرة اشتداد الضغوط على واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لتصعيد الأمور إلى مشاركة مباشرة لهما في الحرب، فقد دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الولايات المتحدة إلى إقرار منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا.
كما عرضت بولندا إرسال طائرات ميغ حربية من قواعد الناتو إلى أوكرانيا تعزيزاً لقدراتها في مواجهة روسيا، بل ووجدت دعماً من الكونغرس للضغط على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) من أجل الموافقة على هذه الخطوة.
لكن مثل هذه التدابير تعني الدفع بالولايات المتحدة أو حلفائها في الناتو إلى حربٍ مباشرة مع الجيش الروسي. وقد يرى بعض الناس أن الصورة المفزعة التي أخذت تنتشر انتشاراً واسع النطاق على وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت للحرب الأوكرانية إنما هي مجرد بداية الضغوط من أجل مزيد من التدخل العسكري الأمريكي المباشر.
من جهة أخرى، قد يستحسن بعض الناس إحجام إدارة بايدن صراحةً عن هذا التدخل، كما يوضح بيانها الصادر الجمعة، علاوة على ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي من رفض لإقرار منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا.
كان أنتوني بلينكن قد قال: "نحن نحاول إنهاء هذه الحرب الجارية في أوكرانيا، وليس إشعال حرب أكبر"، كما عارض البنتاغون بحزم الاقتراح البولندي بتزويد أوكرانيا بطائرات "ميغ 29" المقاتلة وإقلاعها من مطارات ألمانية، معلناً أن الاقتراح "غير مستند إلى منطقٍ يمكن الدفاع عنه"، لأنه يشمل نقل طائرات عسكرية من مطارات الناتو إلى المجال الجوي لميدان المعركة.
وقد أنشأت الإدارة الأمريكية قناة تواصل لمنع التضارب مع الجيش الروسي، وتجنب أي اشتباكات قد تقع عرضاً. ويرى خبراء غربيون أن قرار بايدن بإبقاء الولايات المتحدة وحلف الناتو بعيداً عن أي قتال مباشر مع الجيش الروسي قرارٌ صائب، بل وجدير بالثناء.
ماذا تفعل أمريكا لإنهاء الحرب في أوكرانيا؟
لكن في الوقت نفسه، تكشف الخطوات الأمريكية الأخيرة أن إدارة بايدن لا تستعجل إنهاء الحرب على ما يبدو. فقد ذكر مقال نشرته صحيفة The Washington Post الأمريكية عن الأزمة الأوكرانية، أن إدارة بايدن ليست عازمة على إجراء محادثات دبلوماسية جدية مع روسيا، ولا ترى طريقاً واضحاً لإنهاء الأزمة.
كما أن الإدارة عملت مع الكونغرس لزيادة تمويل إمدادات الأسلحة للجيش الأوكراني، وتعزيز برنامج التسليح لأوكرانيا إلى حدٍّ وصفته صحيفة The New York Times الأمريكية بأنه "يسير إلى شفا الصراع المباشر مع روسيا".
علاوة على أنه لا يبدو أن ثمة خارطة طريقٍ ما يمكن من خلالها رفع العقوبات الاقتصادية المدمرة التي فرضتها الإدارة الأمريكية على روسيا تدريجياً مقابل إحراز تقدم نحو السلام.
ومن ثم، فإن الولايات المتحدة تسير في مسار من الواضح أنه ضيق الخيارات ومحفوف بالمخاطر من خلال السماح باستمرار الصراع في أوكرانيا، إذ يرفض بايدن بذلَ الجهد نحو تسوية دبلوماسية، ولا يوفر وسيلة تلويحٍ برفع العقوبات الاقتصادية المشددة على روسيا، وهو ما يجعله يبدو -في أحسن الأحوال- مستسلماً لاستمرار غير محدود لأكبر حرب تشهدها أوروبا على أرضها منذ الحرب العالمية الثانية.
في ضوء تلك المعطيات، يبدو أن كثيرين في الإدارة الأمريكية يرغبون في استمرار الحرب ما داموا يرون ذلك ضرورياً لإلحاق هزيمة غير مشروطة ببوتين أو حتى إسقاط نظامه، بحسب تحليل Responsible Statecraft.
ويشي بذلك ما قالته فيكتوريا نولاند، أبرز مسؤولة عن الشأن الروسي في وزارة الخارجية الأمريكية، أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ هذا الأسبوع، وهو أن "الطريقة التي سينتهي بها هذا الصراع هي إدراك بوتين أن هذه المغامرة قد هدَّدت حكمه لروسيا، وأنه يتعين عليه تغيير مساره أو يأخذ الشعب الروسي زمام الأمور بيده. ومنتهى الأمر هو الهزيمة الاستراتيجية للرئيس بوتين في هذه المغامرة".
بالإضافة إلى ذلك، أوردت تقارير مجهولة المصدر أن مسؤولين في الإدارة الأمريكية يتوقعون استمرار الحرب في أوكرانيا لعقدٍ أو أكثر من أجل ضمان أن تنتهي الحرب بخسارة روسيا.
ماذا تعني تلك المقامرة المرعبة لأوروبا والعالم؟
لكن مقامرة إدارة بايدن المرعبة تكمن هنا؛ هل يمكن السماح باستمرار حربٍ مدمرة إلى أجل غير مسمى من أجل إضعاف روسيا وتجنب أي تنازلات قد تنقذ مكانة بوتين أو تُخمد مخاوفه الأمنية المعلنة، وفي الوقت نفسه، الحيلولة دون احتدام هذه الحرب إلى حريقٍ يطال مداه نطاقاً واسعاً في أوروبا على نحو قد يؤدي إلى حرب نووية؟ إنها مقامرة مرعبة، تضع حياة ملايين من الأشخاص على المحك.
وقد يبدو من المغري في ظل العدوان الروسي أن يطالب الغرب بأمور تنطوي على استسلام غير مشروط من بوتين، وأن نُعرضَ عن أي سعي لبناء طريق إلى سلام عبر التفاوض. لكن هذا لن يؤدي إلا إلى زيادة المخاطر في حرب ممتدة.
ولا يوجد سبب يجعلنا نتوقع أن السعي الأمريكي إلى أكبر انتصار ممكن لأوكرانيا وأشد هزيمة ممكنة لروسيا سيؤديان إلى نهاية سريعة للحرب، حتى وإن كان هذا السعي مصحوباً بعقوبات مدمرة على الاقتصاد الروسي ودعم قوي للجيش الأوكراني.
والخلاصة أننا سبق لنا أن رأينا دولاً مثل إيران وكوبا وكوريا الشمالية تصمد لعقودٍ أمام عقوبات شديدة، هذا وروسيا تزيد مواردها على موارد هذه الدول وقدراتها. ومهما بلغت المقاومة الأوكرانية من بسالة، فلا أحد يتوقع أن الجيش الأوكراني الصغير يستطيع أن يُلحق هزيمة حاسمة بروسيا، حتى وإن استمرت المساعدات غير المباشرة من الولايات المتحدة. وأسوأ من ذلك، أن بوتين إذا شعر أنه لا توجد طريقة لإنهاء الحرب إلا بهزيمة مذلة له، فإنه سيزداد تحفزاً إلى الاستمرار في معركة طويلة، ويشتد وحشيةً في مواجهة الشعب الأوكراني.