أبو لهاية

عبدالهادي راجي المجالي
مدار الساعة ـ نشر في 2022/03/06 الساعة 02:11
في العام 2012، شنت إسرائيل حربا على غزة... ما زلت اتذكر مشهداً أرعبني لم يغادر ذهني للآن, ظل يتربع فيها... وهو طفل في غزة لم يتجاوز عامه الأول أخرجوه من تحت الركام, بعد القصف الإسرائيلي.. والغريب أنه استشهد (واللهاية) في فمه... نعم ظلت في فمه اطبق عليها ربما, حين سمع دوي الانفجار وحين انهارت الأسقف عليه..

حاول المسعف إزالة التراب عن وجهه وعن (لهايته) لكن مسعفاً آخر قال له: (متوفي.. متوفي).. ثم قاموا بتغطيته ببطانية، كل ما أخذه من هذا الزمن الظالم: (فوطة) صغيرة, وقميص أصغر منها (ولهايته)...

(أبو لهاية) الآن تحت التراب, دفنوه يومها على عجل, لأن القصف لم يترك لهم مجالاً.. وربما دفنوه من دون جنازة مهيبة يستحقها... وربما تركوا (اللهاية) في فمه... فقد كانت أمه تحاول فطامه, أو أنها كانت تضعها في فمه طرداً للبكاء.. أو أنها غمستها بالسكر كي تنسيه مرارة العمر المتعب هذا.

بقيت يومها أسأل نفسي كيف دفنوه؟.. ومن أنزله التراب, وهل وضعوا اسمه على شاهد القبر، وسألت نفسي أيضاً هل نشروا له نعياً؟ ماذا سيقولون في النعي؟ توفي بعد عام واحد من الولادة.. ماذا يقولون أيضاً..؟ هل سيقولون إنه أمضى العام في شرب الحليب والنوم في حضن أمه، وإشاعة الفرح في العائلة, والعبث بأواني الطعام.. وسحب أسلاك التلفاز.. هل سيقولون أنه كان سيكبر وسيذهب للصيد من بحر غزة.. وسيطوف بقدم حافية كل شوارع المخيم.. وربما سيتعلم كتابة الشعر, ويتعلم مراقبة النوارس والجدائل..

نحن نصيبنا من هذا العالم البكاء فقط, ذاك أن الدم العربي في ميزان أوروبا وأميركا.. بلا ثمن, ورخيص جداً ومباح... بالمقابل كل قطرة دم في أوكرانيا يدفعون ثمنها, كل مهجر من أوكرانيا يفتحون له بيتاً, وكل جائع يمدونه بالخبز.. وكل دمعة يمسحونها... وكل طلقة تطلق يقومون بتعويضها.. وكل منزل هدم سيرفعون بدلاً منه مئة منزل.. إلا نحن فكل منزل يهدم بفعل القصف, تقام بعده مئة مقبرة..

سيستقيم ميزان هذا العالم يا (أبو لهاية), صدقني أنه سيستقيم... ذاك أن (الفوطة) التي كنت ترتديها يوم الشهادة العظيمة, كانت أنظف من ضمائرهم جميعاً.. على العكس (فوطتك) كانت قادرة على تنظيف بعض عنصريتهم وكرههم ونازيتهم... و(اللهاية) التي كنت تضعها في فمك كانت أقوى من صواريخ حلف (الناتو) كلها... على الأقل طعم اللهاية في فمك كان من سكر غزة, وهم كل صواريخهم أنتجوها من خيرات بلدان العالم الثالث.. سرقوا الحديد من (موريتانيا) واليورانيوم من صحرائنا... والعقل الذي صمم الصاروخ ربما أخذوه من الهند..

هل ستغضب لأنهم بكوا على طفل من أوكرانيا ولم يبكوا عليك؟.. دموعهم كاذبة لا تهتم لها.. لأنك حين صعدت لربك شهيداً, طافت حولك الملائكة وباركت خصلات شعرك.. والله سيضعك في منزلة عليا.. لأنك ابن الصفيح والفقر والكرامة, وابن الناس التي ولدت واستشهدت وهي تحلم بوطن سلب منها...

لا عليك يا (أبو لهاية), أوروبا كثيراً ما كانت تتحدث عن احترام أمن الكيان الصهيوني.. ليفهموا الآن ماذا يعني أمن الشعب الفلسطيني, ليفهموا ماذا يعني انهمار الصواريخ والقذائف على سطوح منازلنا.. ليفهموا الآن ماذا يعني أن تنام ليلة من دون انتظار الموت.. (50) عاماً وهم يتحدثون عن أمن هذا الكيان, ولم يتحدثوا عن دمنا مرة واحدة..

عزيزي (أبو لهاية).. هذه ليست بالحرب الجامحة أبداً, ولكنها إرادة الله التي ستنتقم لكل قطرة دم استبيحت ولكل الأنفاس التي صودرت والأحلام التي سحقت... وتمنيت لو أن (الفوطة) التي استشهدت بها معي الآن.. على الأقل سأرفعها في الأمم المتحدة, كي تمسح من هذا العالم قذارة الموقف.. وقذارة الانحياز, وقذارة اللحظة..

رحم الله (أبو لهاية)..

Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2022/03/06 الساعة 02:11