ماكرون يريد فتح حوار أوروبي روسي مباشر بعيداً عن أمريكا

مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/20 الساعة 14:33

 مدار الساعة - بينما كانت الولايات المتحدة تتفاوض مع روسيا لإثنائها على أي عمل متهور تجاه أوكرانيا، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى فتح حوار أوروبي روسي مباشر بعيداً عن الولايات المتحدة، فما مدى واقعية هذه الدعوة وهل تؤدي إلى إيجاد حل للأزمة الأوكرانية، أم إلى شق صف الناتو وإضعاف موقف الغرب في الأزمة.

 
وقال الرئيس الفرنسي، في خطاب ألقاه مؤخراً في بداية تولي بلاده رئاسة الاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر، إنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن يبدأ محادثاته الخاصة مع روسيا بدلاً من الاعتماد على واشنطن؛ حيث حذر من احتمال وقوع "أكثر الأمور مأساوية على الإطلاق- الحرب".
 
أي حوار أوروبي روسي هل سيكون موازياً للمسار الأمريكي أم بديل له؟
ماكرون لم يشر إلى أنه يريد حواراً أوروبياً روسياً بديلاً عن الحوار الأمريكي الروسي الحالي، ولكنه ألمح إلى أنه يريده أن يكون موازياً له، قائلاً إنه لا يكفي أن تتفاوض الولايات المتحدة مع الكرملين بشأن تهديداته للسلام، لكن أوروبا بحاجة إلى إسماع صوتها.
 
وقال ماكرون إنه يأمل في تنشيط المحادثات الرباعية بين روسيا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا، المعروفة باسم صيغة نورماندي، لإيجاد حل للأزمة المتصاعدة.
 
وتجمع نورماندي هو اجتماع عقد بين قادة ألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وروسيا خلال الاحتفالات في 2014  بعملية إنزال قوات الحلفاء في نورماندي بفرنسا في نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبح لاحقًا وسيلة لتنفيذ اتفاقيات مينسك لعام 2015 المصممة لوضع الهدنة التي أوقفت الحرب الانفصالية في منطقة دونباس الأوكرانية التي أعقبت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.
 
وقال الرئيس الفرنسي: "أعتقد أنه من الجيد أن يكون هناك تنسيق بين أوروبا والولايات المتحدة، ولكن من الضروري أن يكون لأوروبا حوارها الخاص مع روسيا ".
 
ويصر المسؤولون في بروكسل على أن روسيا لم تكن قادرة على تقسيم الغرب في الأشهر الأخيرة في ظل أزمة نشبت بعد حشدها لأكثر من 100 ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا.
 
صحيفة The Guardian البريطانية علقت قائلة إنه رغم الحديث عن النهج الموحد للغرب فإنه تم تهميش الاتحاد الأوروبي من المحادثات التي عقدت الأسبوع الماضي بين روسيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. 
 
هل يستطيع الاتحاد الأوروبي التفاوض حول أوكرانيا أفضل من أمريكا؟
نجاح التفاوض مرتبط بشكل أساسي بقدرة الطرف المفاوض على تحمل إيذاء وضغط الخصوم وامتلاكه في المقابل لأدوات فعالة لإيذائهم والضغط عليهم.
 
وفي أي حوار أوروبي روسي بدون مشاركة أمريكا، سيكون الاتحاد الأوروبي أضعف في موقفه كثيراً من أمريكا، قد يكون الاتحاد الأوروبي لديه أدوات ضغط قوية على روسيا مثل العقوبات الاقتصادية في ظل قوة روابطه الاقتصادية مع موسكو.
 
ولكن في المقابل، فإن قدرة روسيا على إيذاء الاتحاد الأوروبي أكبر بكثير من قدرتها على إيذاء أمريكا، بل هي في الأغلب لا تستطيع إيذاء أمريكا.
 
فروسيا تستطيع إغلاق صنبور الغاز والنفط الذي يذهب لأوروبا في ذروة الشتاء، وهو ما أشار إليه ماكرون عندما قال إن على الاتحاد الأوروبي وضع نهج منسق في محادثاته المستقبلية مع روسيا ومعالجة نقاط الضعف فيما يتعلق بالكرملين، بما في ذلك إمدادات الطاقة.
 
كما أشار ماكرون إلى ورقة الهجرة الجديدة في يد روسيا؛ حيث يُعتقد أن أزمة المهاجرين التي أطلقتهم روسيا البيضاء على حدود بولندا قد تكون بإيعاز من موسكو، قائلاً: "لقد رأينا كيف يتم التلاعب بحركات الهجرة. لقد رأينا هجمات إلكترونية. لقد شهدنا ارتفاعاً في أسعار الغاز. وعلى هذه الجبهة، نحتاج إلى بناء مرونة جماعية معاً.
 
ولكن معالجة هذه الملفات مسألة تحتاج إلى وقت وتقليل روسيا اعتمادها الغاز الروسي الذي يوفر ثلث استهلاك الاتحاد الأوروبي قد يحتاج لسنوات.
 
وسبق أن هدد الاتحاد الأوروبي بعواقب اقتصادية ودبلوماسية وخيمة في حالة حدوث توغل عسكري آخر. لكن الدول الأعضاء البالغ عددها 27 منقسمة بشأن ما يجب أن يؤدي إلى فرض عقوبات؛ حيث يجادل البعض بأنه يجب التعامل مع الهجمات الإلكترونية بنفس الطريقة التي يتم التعامل بها مع الاحتلال الكامل.
 
 ولكن تشديد العقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي على روسيا قد لا يقابل فحسب بعقوبات مماثلة من موسكو، أو اللعب بورقة الغاز أو المهاجرين.
 
 فقد ترد روسيا بأن توسع تحرشاتها العسكرية لتشمل دول الاتحاد الأوروبي خاصة دول البلطيق، وهنا يعود دور الولايات المتحدة والناتو اللذين ينتقدهما ماكرون، فبدونها لا تستطيع أوروبا تحقيق أي توازن مع روسيا.
 
ما مدى واقعية صياغة استراتيجية دفاعية أوروبية؟
 يركز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كثيراً على فكرة الاستقلال الأوروبي  الاستراتيجي والعسكرية عن الولايات المتحدة الأمريكية وما يسميه السيادة الأوروبية، والاستراتيجية الدفاعية الأوروبية.
 
ويلاحظ أن أغلب دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لا تأخذ هذا الحديث بجدية كبيرة، وعلى العكس حريصة على دفع الولايات المتحدة لتعزيز التزاماتها تجاه أوروبا.
 
فعلياً، الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية المقترحة تعني شكلاً من أشكال القيادة الفرنسية لأوروبا عسكرياً، بالتعاون مع ألمانيا.
 
ولكن هل تجدي هذه الاستراتيجية تحديداً تجاه روسيا؟
 
فرنسا وألمانيا أكبر عائقين أمام استراتيجية عسكرية أوروبية تردع روسيا
الواقع أن فرنسا وألمانيا على الأرجح هما اللذان تحفظتا دوماً على انضمام أوكرانيا وجورجيا للناتو منذ عام 2008 وهو القرار الذي أوصل أوكرانيا للمأزق الحالي.
 
كما أن الدولتين لديهما أسباب كثيرة لكي لا تكونا حاسمتين مع روسيا.
 
باريس من ناحيتها لا تشعر بخطر كبير من روسيا لأسباب جغرافية وسياسية، ففرنسا دولة من غرب أوروبا تفصلها آلاف الأميال وعشرات الدول عن روسيا ومجمل منطقة شرق أوروبا، ولم تعرف وطأة غزوات الدب الروسي إلا عندما قادت موسكو تحالفاً في بداية القرن التاسع عشر لهزيمة نابليون بونابرت بعد أن دخل الإمبراطور الفرنسي قبل ذلك بسنوات موسكو ليجدها خاوية على عروشها بعدما أحرقها سكانها.
 
تاريخياً مجال فرنسا الحيوي هو غرب أوروبا والبحر المتوسط وإفريقيا والعالم العربي، وليس أوروبا الشرقية، وباريس اليوم نسجت أهم تحالفاتها في الشرق الأوسط حيث تتحالف بشكل وثيق مع الإمارات ومصر والسعودية، وحاولت تنصيب تركيا خصماً للاتحاد الأوروبي بدلاً من روسيا التي تعاونت معها في دعم أمير الحرب الليبي خليفة حفتر، في عملية أدت فعلياً إلى إنشاء أول قاعدة روسية في جنوب المتوسط، تهدد بها موسكو أوروبا.
 
كما أن طبيعة السياسات الفرنسية الدفاعية تاريخياً هي الأقل تناغماً مع الأمن الجماعي لأوروبا، ففرنسا انسحبت لفترة طويلة من الجناح العسكري للناتو، وفي مشروعات التعاون العسكري تريد دوماً القيادة مع رفضها لتشارك التكنولوجيا مع حلفائها الأوروبيين.
 
هل تستطيع باريس أن تردع روسيا نووياً بدلاً من أمريكا؟
الأهم أن تشكيل سياسة دفاعية أوروبية، كما يريد ماكرون قد يهمش الناتو، وهذا يمثل خطراً على فرنسا نفسها ويضع على كاهلها مسؤوليات أكبر منها.
 
فمنظومة الدفاع الحالية للناتو يقع السلاح النووي الأمريكي في قلبها، ويظل هو أداة الردع الأساسية في مواجهة روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفييتي بجيوشه البرية الهائلة.
 
تحويل التنافس من تنافس أمريكي-روسي، إلى روسي-أوروبي، معناه أن فرنسا يجب أن تقدم منظومتها النووية كأداة ردع أوروبية للقوة النووية الروسية، وهي منظومة أقل قوة بكثير من أمريكا، كما أن قدرة روسيا على استهداف فرنسا أكبر بكثير من قدرة الأخيرة على استهداف روسيا، والأهم أن روسيا وأمريكا دولتان كبيرتان يمكن أن تكونا أكثر تحملاً للحرب من فرنسا.
 
وغير كل ذلك فإن فرنسا ليس لديها استعداد لأن تكون رأس حربة الغرب في المواجهة مع روسيا، وهي المهمة التي ارتضتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة وأهّلت ذاتها عسكرياً واقتصادياً لها والأهم نفسياً، وعلى العكس كانت سياسة فرنسا منذ عهد رئيسها شارل ديغول هو الخروج ولو جزئياً من هذا الاستقطاب.
 
ألمانيا قلقة ولكن ما بيدها حيلة
ألمانيا بطبيعة الحال معنية أكثر من فرنسا بما تمثله روسيا من مخاطر، ولكنها دولة غير مسلحة نووياً، ولا تقليدياً بشكل يسمح لها بأن تمثل قوة توازن مع روسيا.
 
كما أن ألمانيا قريبة جداً من موسكو بشكل يجعل من الخطر أن تصعد ضد روسيا لأن هناك احتمالات لأن يخرج التصعيد عن السيطرة ويتحول إلى شكل من أشكال المواجهة التي هي غير مستعدة لها. 
 
وإضافة لكل ذلك جزء من رخاء ألمانيا الأسطوري الحالي ناتج عن إمدادات الطاقة الروسية، والعلاقات الاقتصادية مع موسكو بما في ذلك المهاجرون الروس الذين يمثلون جزء من القوة العاملة الألمانية الماهرة.
 
فرنسا عرّاب التفاوض وليس الردع
اللافت أن خطاب ماكرون ركز على التفاوض الأوروبي-الروسي، ولم يكد يشر إلى أي مواجهة.
 
إذ قال ماكرون إن أمن قارتنا يتطلب إعادة تفكير استراتيجي وإعادة تسليح استراتيجي لأوروبا كمنطقة توازن وسلام. وعندما يتعلق الأمر بالحوار مع روسيا بشكل خاص.
 
وأضاف الرئيس الفرنسي: "إنه كان يدافع عن فكرة الحوار مع روسيا لسنوات عديدة"، مؤكداً أنه ليس مجرد فكرة غامضة، بل هو حوار تحتاجه أوروبا بشكل جماعي لتحديد متطلباتها الخاصة والتأكد من احترامها من قبل روسيا.
 
فالحقيقة أن خطاب ماكرون الهجومي العام، عادة ما تنخفض وتيرته عندما يأتي الحديث عن روسيا التي تعتبر فرنسا أقرب دولة أوروبية لها حتى إنها كانت قد تعاقدت معها على بيع حاملتي مروحيات في أول صفقة أسلحة غربية مع روسيا بهذا الشكل.
 
ولكن في الخطاب الأخير، تحديداً، بدا ماكرون ضعيفاً أمام روسيا أكثر مما ينبغي.
 
فرغم الحشود العسكرية من قبل روسيا وقعقة أسلحتها التي تهدد كييف، والردود الأمريكية الملوّحة بعقوبات مدمرة على موسكو، وفي ظل كل هذا التوتر يأتي زعيم أوروبا الافتراضي إيمانويل ماكرون في خطاب توليه مقاليد زعامة الاتحاد ليلوّح لروسيا بغصن زيتون بدون أي بندقية، فخطابه خلا من أي تلويح بأي أوراق ضغط أو عقوبات على روسيا أو دعم لأوكرانيا.
 
مخاوف من ابتعاد أمريكا والدور الأوروبي سيكون سبيلاً لتقديم تنازلات مؤلمة
الحديث عن الاستقلال الدفاعي الأوروبي والحوار الأوروبي الروسي حالياً في هذا التوقيت لا يهدد بخلق كيانات ومسارات داعمة للناتو والدور الأمريكي في أوروبا فقط، بل يهدد بتشجيع أمريكا عن التخلي عن دورها الذي لا غنى عنه في مواجهة روسيا والتركيز كما تريد على مواجهة الصين، علماً بأن الدور الأمريكي في أوروبا يمثل عبئاً على الموارد الأمريكية فيما يمثل مصلحة أوروبية أكيدة.
 
ويمكن القول إن ما يمكن أن يقدمه مسار التفاوض الأوروبي الروسي الذي يقترحه ماكرون ولا تستطيع أن تقدمه أمريكا، هو الوصول لحلول مرحلية عقلانية تتضمن تنازلات جزئية من الغرب.
 
فأمريكا بحجمها ووزنها يبدو محرجاً أن تقدم تنازلات لبوتين حول أوكرانيا مثل التعهد بعدم انضمام الأخيرة للناتو كما يريد بوتين، ولكنّ أي حوار أوروبي روسي، تخوضه فرنسا وألمانيا تحديداً يمكن أن يصل لتفاهمات جزئية مع روسيا على غرار ما جرى بعد ضم موسكو للقرم عام 2014، وهي تفاهمات هدفها تخفيض التوتر وليس صياغة اتفاقات نهائية.
 
لن نكون مثل هذه التفاهمات محرجة إذا أبرمت من قبل برلين وباريس مع موسكو، ففرنسا وألمانيا في النهاية دولتان متوسطان لا ضير في أن يظهر بعض التنازلات للعملاق الروسي.
 
ورغم أن هذا الأسلوب الفرنسي الألماني الذي اتبع مع روسيا في السابق مثلما حدث في أزمة 2014، وقادته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تحديداً متهم بأنه السبب في توسع الأطماع الروسية في أوكرانيا وابتزاز بوتين للغرب حالياً، ولكن الجانب الآخر من القصة، أن هذا الدور الذي قامت به ألمانيا وفرنسا في السابق عبر مجموعة مينسك أسهم في منع توسع الأزمة الأوكرانية ووفر لأوروبا والناتو وأوكرانيا هدنة منذ نحو سبع سنوات، هدنة لم يستغلوها في تقوية أوكرانيا عسكرياً كما ينبغي أو تقليل الاعتماد الروسي من قبل أوروبا.
 
يمكن أن تكون دعوة ماكرون لعقد حوار أوروبي روسي مباشر، إذا تمت بالتنسيق مع الأمريكيين فرصة لخلق مسار مواز للتفاوض يتيح للغرب النزول من عليائه وإيجاد حل جزئي نابع من حقائق القوة في الأزمة الأوكرانية وهي وجود تفوق عسكري روسي ساحق وأن العقوبات القاسية التي يهدد بها بايدن قد تؤدي إلى تحرش روسي بأطراف الاتحاد الأوروبي.
 
ويبدو أنه لا حل أمام الغرب، إلا هذا الخيار الذي قد يكون ماكرون عرابه أي إيجاد هدنة جديدة في أوكرانيا حتى لو ببعض التنازلات المؤلمة مع محاولة جعلها مؤقتة، ولكن عليه الاستفادة منها حتى يبعد شبح الحرب مستقبلاً.
 

مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/20 الساعة 14:33