مجدٌ يبدأ بالإخصاء.. ماذا تعرف عن سلطة «الخصيان» في العصور القديمة؟

مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/14 الساعة 16:35
مدار الساعة - في الحضارات القديمة كان الخصيان هم الرجال الوحيدين المسموح لهم بالوجود في القصور إلى جانب أفراد الأسرة الحاكمة؛ إذ عملوا في الخدمة وحراسة بوابات القصور، وسُمح لهم بالوجود في غرف النساء والاشتغال بحمايتهن. لكن الخصي تحولوا عبر مرور الزمان من الخدمة في منازل الأثرياء إلى حيازة النفوذ والوصول إلى أعلى المناصب، وقد كان منهم من خضع للإخصاء في صغره بمحض إرادته للالتحاق بالخدمة الإمبراطورية؛ إذ كان الإخصاء شرطًا مهمًّا للانضمام للبلاط في كثير من إمبراطوريات الشرق، مثل إمبراطورية الصين والإمبراطورية الكورية، في وقت كان فيه العمل في البلاط شرفًا تسعى الأهالي إلى أن يناله أبناؤها؛ فما الذي تعرفه عن «خصيان البلاط» رجال السلاطين الثقات؟ طبقة الخصيان.. عادة انتقلت من الروم إلى البلاد الإسلامية قديمًا كانت تجارة الرقيق رائجة في كل الإمبراطوريات والممالك، وكان يلحق العبيد بالخدمة في القصور الملكية والبلاطات الإمبراطورية، وقد انقسم خلالها العبيد إلى نوعين: «الرقيق الأبيض» و«الرقيق الأسود». كان الرقيق الأبيض أغلى ثمنًا وأكثر ولعًا بالفنون والموسيقى، كما يذكر أحمد أمين في كتابه «ظهر الإسلام -ج1»، وكان الرقيق يباع في أسواقٍ كبيرة يُعرضون فيها قبل بيعهم للملوك والأمراء في قصورهم، وللتجار والأثرياء والمقتدرين، وتنوع الرقيق المُباع بين نساءٍ ورجالٍ وغلمان. وانخرط الرقيق في شتى مناحي الحياة الاجتماعية، وكان منهم جنود تستعين بهم الدولة في حروبها ويقومون بالأعمال الصناعية والتجارية لسادتهم، وقد بلغ بعضهم أرقى المناصب، مثل مؤنس في العراق الذي أصبح قائدًا عسكريًّا وولاه الخليفة العباسي المقتدر بالله ولاية دمشق، وجوهر الصقلي القائد الفاطمي المغربي ومؤسس القاهرة، وداخل طبقات الرقيق، كان بإمكانك أن تجد «طبقة الخصيان» التي انتشرت في تلك العصور انتشارًا كبيرًا. وفي كتابه «الحيوان»، خصص الجاحظ فصلًا كاملًا للحديث عن الإخصاء وتأثيره في الجسم والصوت والشعر والأعصاب، كما عرض لأصناف الخصيان القادمين من بلاد السند والحبشة والنوبة والسودان؛ ويقول الجاحظ في كتابه: «الروم هم أول من ابتدعوا الخصاء» ويروي الجاحظ أن الروم «كرهوا لأبنائهم إحبال نسائهم». فلم يكن إخصاء الرقيق من أجل الخدمة في القصور عادة شرقية، بل انتقلت إلى الشرق من عدة شعوب قديمة مثل اليونانيين والروم؛ وقد كان الخدم من الخصيان فقط؛ خاصة لمن يحرسون النساء بحكم اختلاط الخدم بهن، وقد دخل العبيد إلى الحضارة الإسلامية عن طريق الدولة الأموية؛ إذ نقلوهم عن الروم البيزنطيين الذين كانوا يخصون من يعمل من الرجال في أديرة النساء. وانتشر الإخصاء بين الرقيق الأبيض والأسود على حدٍّ سواء؛ وعلى الرغم من أن المسلمين قلَّما أخصوا الرقيق بأنفسهم؛ فإنهم اشتروا الخصيان واستخدموهم في بيوت الخلافة، وكان وجودهم عادةً ما يقترن بمنازل الأثرياء، الذين استخدموهم، ليس فقط في الخدمة والحراسة، ولكن في الترفيه والغناء أيضًا، لكن بعضهم لم يرتض بوقف نفسه على تسلية الأثرياء بل نبغوا في العلوم العسكرية ووصلوا إلى المراكز المرموقة؛ بل حكموا الدولة أيضًا، مثل كافور الإخشيدي الذي وصل إلى حكم مصر والشام. وفي الأندلس كان بعض المسلمين قد تعلموا الإخصاء وصار بعض الفقهاء يبيحون القيام به؛ وكان الخصيان أغلبهم من عناصر مسيحية من أصل صقلبي، وبعضهم من الترك والفرس والهنود، في حين كان العبيد القادمون من الحبشة والنوبة والسودان أقل قيمة بالنسبة إلى الأمراء. وفي قصور الخلفاء المسلمين انقسم الخصيان إلى أمراء وهي الطبقة العليا منهم، وإلى الخدم، وهم طبقة دنيا تقوم بالأعمال المنزلية الشاقة، وكان عددهم كبيرًا، حتى إنه في القصر العباسي كان بإمكانك أن ترى 11 ألف خصي، وفي قصر الزهراء بقرطبة 3700 خصي من الصقالبة. أما لماذا استعان الأمراء والملوك بالخصيان؟ فذلك نظرًا إلى مهام الحراسة والوجود في أجنحة الحريم، فقد كانوا أقرب لطباع النساء في ذلك العصر بسبب التغيرات التي تطرأ على جسدهم بعد الإخصاء، بحسب المؤرخين، كما كانوا يمتازون بالإخلاص الشديد لسيدهم ويشبهون الحيوانات الأليفة، وفقًا للجاحظ. الخصيان «الصقالبة» في الأندلس وفد الخصي الصقالبة إلى الأندلس عبر التجار اليهود؛ إذ كان التجار الإفرنج يبيعون الأسرى من الصقالبة والجرمان عند ضفاف نهر الألب والدانواب وشواطئ البحر الأسود؛ ومنها ينقلونهم إلى الأندلسِ، واعتاد أمراء المسلمين في ذلك العصر شراء العبيد للخدمة والحرب وشئون النساء وللترفيه. ولما كان عليه الرقيق الصقالبة من جانب عظيم من الجمال، أطلق العرب على كل الرقيق الأبيض صقالبة، وفي هذا السياق عمد تجار الرقيق إلى إخصاء بعض العبيد وبيعهم بأثمانٍ باهظة، حتى إن امتلاك خصي كان يُعد من علامات الثراء؛ إذ لم يكن الجميع بإمكانه تحمل تكلفة شرائهم. وراجت تجارة الخصي، حتى إن تجار العبيد أنشأوا معاملًا خاصة بالخصيان، كانت مختصة بإجراء عملية إخصاء الرقيق وتأهيلهم وهم أطفال؛ وكانت هذه العملية مميتة في كثيرٍ من الأحيان، وتتسبب في وفيات الأطفال من الرقيق المساكين. وشاع في الأندلس أن يتهادى الأمراء والأثرياء بالخصيان، تمامًا مثل الأحصنة والأقمشة وغيرها من الهدايا الثمينة، ولهذا عمد ملوك الإفرنج إلى التقرب من خلفاء المسلمين بأن يرسلوا إليهم الخصيان هدايا؛ كما فعل أمير برشلونة أثناء عقد الصلح مع المستنصر خليفة المسلمين في الأندلس وتاسع أمراء الدولة الأموية؛ فأهداه 20 صبيًّا من الخصيان الصقالبة. وبهذه الطريقة وغيرها، تكاثر الخصيان في بلاط الخلفاء، حتى تكونت منهم فرق الحراسة الخاصة التي انضم إليهم فيها العبيد والمماليك من غيرهم، وتقلدوا فيما بعد الرتب والمناصب وتمكنوا من تكوين ثروات كبيرة؛ مثلما حدث في عهد الدولة العثمانية. حين أصبح الخصيان سادة في قصور «الخلافة العثمانية» إذا أردت أن تعرف أكثر عن حياة طبقة الخصي، بإمكانك أن تلقي نظرة أكثر قربًا على أعمال الخصيان ورتبهم وكيف كانوا منخرطين في شتى الأعمال داخل سراي السلطان بالدولة العثمانية؛ فقد كان الخصي السود يتولون حراسة غرف السلطانات وخدمتهن، وكان أعلاهم شأنًا وأكبرهم سنًّا يتولون المهام الرفيعة المتعلقة بشخص السلطان. وتقلد خصيان السلطان العثماني الكثير من المناصب، فكان بينهم «القابي آغا»، وهو رئيس جميع الأغوات، أي القادة العسكريين منهم، ويعد أعلاهم مكانة ويتمتع بسلطة خاصة لدى السلطان، وتمرر من خلاله أيضًا الرسائل والخطابات والتقارير القادمة من خارج القصر السلطاني إلى داخله، وعلى الرغم من اعتباره رئيس الخدم، فإنه الوحيد الذي كان يرافق السلطان أينما ذهب. اما الرتبة الثانية كانت «للخازندار باشي»، وهو الذي يتولى شئون الخزانة الداخلية للباب العالي، والتي يكون لها عادةً مفتاحان أحدهما برفقة السلطان والآخر مع الخازندار الذي يتولى مهمة الوقوف على المال الذي يدخل إلى الخزانة والذي يخرج منها، وهي مهمة من الصعب أن يتولاها إلا القلة؛ إذ كانت دليلًا على الثقة التي كان يوليها السلاطين لأمراء الخصي. أما الرتبة الثالثة فكانت «الكلرجي باشي» وهو رئيس الخزائن ويتولى مع مساعديه مهمة رعاية الخزائن السلطانية، حيث توضع الهدايا الثمينة من سيوف وجلود وحرير وصوف ومختلف أنواع الأثاث، ويعمل على فرز الهدايا الداخلة والخارجة إلى القصر العثماني وتسجيلها. وأخيرًا «السراي آغا»، وهم الخصيان الذين يتولون رعاية السراي السلطانية، ويلتزمون بتزويد القصر بكل ما يحتاج إليه، وعدم مغادرته أبدًا في غياب السلطان، كما كانت تقتضي مهمتهم أن يكونوا متيقظين على الدوام. وتعد الرتب الأربع الأكثر سلطة وثقة لدى السلاطين؛ وعادةً ما يكوِّن الخصي ثروة كبيرة نظرًا إلى الهدايا التي يحصلون على باستمرار داخل القصور، والتي تؤول في النهاية بعد وفاتهم إلى السلطان نفسه، وعادةً ما كان يقدم الخصي هدايا لدى السلاطين العثمانيين، وقليل منهم هم من يخصون دون إرادتهم؛ إذ إن بعضهم كان يخصى بإرادته طمعًا في أن يصبح ذا مكانة مرموقة. أما الخصيان السود، فكانوا يعملون على الخدمة المنزلية وحراسة السلطانات، وأغلبهم فتية وفتيات أرسلوا من ولاية مصر، ويخصى الفتيان في سنٍّ صغيرة قبل البلوغ؛ وتجري تربيتهم وتأهيلهم على الخدمة في القصور السلطانية؛ وكان يجري إرسالهم إلى النساء ليعملوا بين آخرين على خدمة السلطانة، وكانت أغلب أسمائهم مشتقة من أسماء الزهور لاقترانهم بخدمة النساء؛ وذلك مثل خزامى ونرجس وورد وقرنفل. الخصيان في السياسة.. حين أقاموا دولة في مصر لعب الخصيان على مدار التاريخ أدوارًا سياسية شتى في كثيرٍ من الحضارات؛ إذ انتقلوا من القيام بالأعمال المنزلية الشاقة ومعاونة رئيسة الجواري «القهرمانة» في حراسة الحريم داخل قصور الأثرياء؛ إلى لعب دور مهم في قصور الخلفاء الفاطميين؛ إذ كانت فترة الدولة الفاطمية؛ هي الفترة التي بدأوا فيها في تولي المناصب الرفيعة بمصر ليصبحوا أصحاب نفوذ وفي أعلى طبقات المجتمع. وأكْثَرَ الفاطميون من شراء الخصي، خاصةً من الرقيق الأسود المجلوب من النوبة والحبشة؛ وجرى توزيعهم على الزوجات والجواري في قصور السلاطين الفاطميين، وبمرور الوقت أصبح لهؤلاء رتب يحصلون عليها تبعًا لدرجة إخلاصهم وتفانيهم في العمل. ونشأت حينها رتبة «الخصيان الأستاذين» الذين كانوا يعملون على خدمة نساء القصر، وكذلك رتبة «الوكلاء»، وهي رتبة يصل إليها من يظهر كفاءة عالية وتفانيًا في العمل، وهم يخدمون نساء القصر عن قرب ويحتكون بهم مباشرةً، وبإمكانهم القيام بأشياء شديدة الخصوصية عكس غيرهم من الخصي؛ وإذا استحوذ «الوكيل» على ثقة سيده يصبح حاكم الشئون اليومية للقصر، والمتصرف فيما يحتويه القصر من مال وجواري ورقيق آخرين؛ تمامًا كما كان الأمر في نظام الدولة العثمانية. لاحقًا تمكَّن الخصيان من الوصول إلى أعلى المناصب السياسية، من بينها الوصول إلى رأس الدولة؛ مثل كافور الإخشيدي، الخصي الأسود المجلوب من الحبشة بـ18 دينارًا، بحسب كتاب «تاريخ ابن الوردي»؛ إذ كان من رقيق الحبشة وأصبح حاكم مصر بعد وفاة محمد بن طغج الإخشيدي الذي اشتراه وأعتقه وقربه منه وجعله من أكبر قادته. وبعد وفاة محمد بن طغج، أصبح كافور واصيًا على ابنيه الاثنين، أنجو وعلي بن الإخشيد، اللذين توفيا في سنٍّ صغيرة، لينفرد كافور بالحكم ويصبح رابع حكام الدولة الإخشيدية بعدما استولى على مصر وسوريا، مكونًا دولة مستقلة حكمها مدة 20 عامًا، وكان يدعى له على المنابر في مكة والحجاز والديار المصرية والشام. الخصيان في الصين.. لن تبلغ المجد حتى تُخصى وصول كافور الإخشيدي للسلطة في مصر يعد مثالًا صغيرًا لما وصل إليه «خصيان البلاط» من نفوذٍ في الدولة الإسلامية، لكن عند النظر إلى دولة قديمة مثل الصين؛ نجد أن عادة الإخصاء قد انتشرت لديهم منذ زمنٍ بعيد، لكنها كانت واضحة تمامًا خلال العصر الإمبراطوري المبكر في الصين وصعود سلالة سونج عام 221 قبل الميلاد، إذ امتد وجود الخصي في البلاط الإمبراطوري الحديث حتى سقوط الإمبراطورية وقيام جمهورية الصين الشعبية عام 1921. كان العصر الإمبراطوري الصيني مليئًا بالصراعات على الحكم، وهو الأمر الذي جعل الأباطرة يستخدمون الخصيان في المناصب الرسمية العليا؛ حتى إن بعض الأباطرة كانوا لا يثقون إلا في «خصيان البلاط»؛ وهي عادة تسربت من عهد الإمبراطور شوان؛ بعدما سمته زوجته الأولى حاكمًا وأصبح نظام حكمه غير مستقر عام 49 قبل الميلاد؛ فاستعان بخصيان البلاط وخلع عليهم المناصب الكبرى لإضعاف قوة خصومه. وكان الموظفون الكونفوشيون في الإمبراطورية الصينية يحقدون على خصيان البلاط ويعدونهم منافسيهم على السلطة؛ وهو أمر يشي بالمكانة العالية التي كانت يتمتع بها الخصيان في الصين، إذ سيطروا على المناصب العليا في الدولة ومن بينها البحرية الإمبراطورية؛ وتشير المصادر التاريخية إلى أن الإمبراطور يونجل قد استعان بأحد الخصيان يدعى جنك خي، وكان يمتاز بنفوذه بين خصيان البلاط، لقيادة ست حملات بحرية إلى المحيط الغربي بين عامي 1404-1421. كانت وظيفة الخصيان في البلاط الإمبراطوري الصيني شرفًا كبيرًا يمكن للإمبراطور أن يجرد حامله من شرف المهنة والحط من قدره إن أساء التصرف؛ ونظرًا إلى تلك المكانة التي نالها خصيان البلاط فقد كان الصينيون يعمدون لإخصاء أبنائهم منذ نعومة أظافرهم، للوصول إلى هذا الشرف، ونيل مكانة الانضمام إلى البلاط الملكي رغبةً في أن يصل أبناؤهم إلى أعلى المناصب، كما وصفهم ابن بطوطة في رحلاته وذكرها محمد محمود زيتون في كتابه «الصين والعرب عبر التاريخ». ساس بوست
مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/14 الساعة 16:35