ماذا حدث في عام 536م؟ حين أظلمت الشمس سنة كاملة وتساقطت الثلوج في الصيف
مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/09 الساعة 13:33
مدار الساعة - أحمد متاريك
أيامٌ صعبة نعيشها جميعاً بسبب فيروس كورونا الذي قيّد تجمعاتنا وأبقانا حبيسي البيوت أغلب الوقت.
قد يعتبرها أغلب البشر أيامنا الأسوأ في حياتنا، ولا مبالغة في ذلك فأغلب سكان الأرض -بمن فيهم المعمّرون- بالتأكيد لم يمرّ عليهم حدثٌ كهذا قطُّ.
التهوين الوحيد علينا في مثل هذه المآزق هو محاولة العودة بالتاريخ قليلاً. فوحدها تعرّفنا أن أرضنا الطيّبة مرّت بالكثير وآست كثيراً وكثيراً، ورغم ذلك لا تزال صامدة تمنحنا القُدرة على الأمل والحياة.
نجت الأرض من التفجيرات الذرية والحروب والانفجار السكاني، لكن تبقى أفاعيل الطبيعة هي الأخطر دوماً على حياتنا. أحد أشنع تلك الأفاعيل وأكثرها خطورة على حياة البشر هو ما جرى عام 536م، والذي أجمع المؤرخون على أنه أسوأ عام عاشته الأرض ومَن عليها منذ خلقها الله، فماذا حدث؟
شمس غائبة، ومحاصيل تبور
قال مايكل ماكورميك، مؤرخ العصور الوسطى، إن هذا العام كان بداية لواحدة من أسوأ "فترات الحياة" التي شهدتها الأرض، وهو شتاء لم ينقطع لسنواتٍ متتالية.
أمر قد يفهمه عشّاق مسلسل "لعبة العروش" سمعوا كثيراً في حلقات المسلسل عن الطقس العنيف الذي يسود القارة المتخيّلة ويستروس ذات الشتاء الذي يستمرُّ لسنواتٍ متتالية دون توقف، وسيفهمه أيضاً المغرمون بالأساطير الإسكندنافية العتيقة التي حدّثتنا عن "شتاء فيمبول" الذي خيّم على بلاد السويد والنرويج لـ3 سنواتٍ متتالية "انتهى فيها كل شيءٍ حيٍّ على الأرض"، بحسب التراث الشعبي البلطيقي.
حسناً، هذا الخيال "المبالغ فيه" ليس بعيداً تماماً عمّا جرى على أرض الواقع. فبحسب المرويات التاريخية التي وصلتنا وكشفت لنا عمّا جرى في تلك الفترة الاستثنائية، فلقد أغرق ضباب غامض أوروبا وأجزاء من إفريقيا وآسيا، مُدخلاً هذه المناطق في ظلامٍ دامس لمدة 18 شهراً متتالية.
حكى المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس عن الشمس التي "أظلمت كالقمر طوال العام، وكأنها (يقصد الشمس) تُعاني خسوفاً دائماً"، فيما قال عضو مجلس الشيوخ الروماني كاسيودوروس (Cassiodorus) إن الظلام خيّم على بلاده لدرجة أعجزت الناس عن رؤية ظلالهم، وإن الشمس بات لونها أزرق!
ثم أضاف كاسيودوروس في شهادته المفزعة: "لقد قضينا شتاءً خالياً من العواصف، وربيعاً خالياً من الوداعة، وصيفاً خالياً من الحرارة، الرجال منزعجون من الطقس غير العادي للسماء".
غياب السماء أدّى إلى انخفاض درجات الحرارة إلى درجاتٍ غير مسبوقة بسببها عاشت أوروبا أبرد طقس عرفته خلال آخر 2300 عامٍ.
في الصين تساقطت الثلوج في فصل الصيف ما أفسد المحاصيل، وانتشرت المجاعات بين الناس، كما تحدّثت الوثائق التاريخية عن "غبار أصفر" (المقصود هنا الرماد) اجتاح السماء وسبّب عواصف ترابية شديدة واضطراب مناخي هائل.
من الصين امتدَّ الجفاف إلى أيرلندا، فكتب رهبان الكنيسة أن وجود الخبز قد ندر بين الناس فور وقوع تلك المأساة، وهي الظاهرة القاتلة التي استمرت 3 أعوامٍ متتالية.
كما وردتنا إشارة من تاريخ اليابان تحدثت عن هذه الأعوام العجاف، ففي معرض استعراض إحدى الوثائق لوقائع عام 536م قالت "الغذاء هو أساس الحياة، لا يُمكن للذهب الأصفر علاج الجوع، فما نفع ألف صندوق من اللؤلؤ طالما أن الناس لا يجدون ما يأكلونه؟!".
كذلك عانت إستونيا مما وُصف حينها بأنه "كارثة ديموغرافية" خسرت فيها من الضحايا ملايين الأفراد، احتاجت إستونيا بعدها إلى قرابة الـ400 عامٍ لتعود إلى عدد السكان الذي كانت تمتلكه قبل الكارثة.
في تشيلي والأرجنتين عثر الباحثون على بقايا أشجارٍ عملاقة تضرّرت حتى أعماقها بسبب تداعيات مناخ تلك السنوات.
في سوريا، تؤكد الكتابات السيريانية أن البلاد شهدت شتاءً "غير عادي" تساقطت فيه الثلوج الكثيفة ونفقت الطيور وقتلت الثمار في غير وقتها. كتب المؤرخ السيرياني الشهير يوحنا من أفسس (John of Ephesus) شهادته على هذا الحدث المخيف، قائلاً: "كانت إشارة من الشمس لم يسبق لها مثيل، لقد أظلمت لـ18 شهراً متتالية، ولم يظهر الضوء في اليوم الواحد إلا بشكلٍ ضعيف ولـ4 ساعات فقط، اعتقد الجميع أن الشمس لن تظهر مُجدداً".
ووفقاً لشهادات من أساقفة ميلانو، فإن عام 537م شهد مجاعات هائلة شملت الكثير من البلاد بسبب فساد المحاصيل، دفعت تلك المجاعات الأمهات لأكل أطفالهن، حسبما ورد في المصادر الكنسية.
لاحقاً، انتشر الطاعون في الإمبراطورية الرومانية الشرقية كالنار في الهشيم ما أدى إلى القضاء على ثُلث عدد سكانها الذين حاصرهم البرد والجوع معاً، وكان بداية لانهيار الإمبراطورية ووقوع كساد اقتصادي دام 30 عاماً، قدّر المؤرخون عدد الضحايا بنحو 25 إلى 50 مليون ضحية.
كيف وقع كل هذا؟
لسنواتٍ طويلة عجز العلماء عن معرفة أسباب هذا التغيّر الجوي الغامض على أوروبا؛ اقترح باحثون أن انفجارات بركانية في ألاسكا وكاليفورنيا والسلفادور ربما تكون قد ساهمت في وقوع المأساة. آخر التفسيرات لم تبتعد كثيراً عن "فرضية البركان" لكنها غيّرت من اسم الدولة الموضوعة في قائمة الاتهام.
فمؤخراً اكتشف فريق علمي سويسري أن المتهم الأول في هذه المأساة هو انفجار بركان في أيسلندا حدث في بداية عام 536م، وبحسب الفريق فإن ذات البركان تفجر مرتين لاحقاً خلال عامي 540م و547م ما أدّى إلى تفاقم تأثيره الأسود على سماء أوروبا.
وبحسب الفريق فإن الموقع الجغرافي لأيسلندا، القريب من بريطانيا ومن غرب أوروبا عامةً سهّل من مهمّة البركان تعكير سماء أوروبا بغباره الكثيف الحاجب للشمس.
كيف غيّرت تلك الكارثة العالم؟
لم يفق العالم من "صدمة البركان" إلا بدايةً من عام 640م، بعدما خلّفت فيه آثاراً عميقة غيّرت من مسيرته الاقتصادية والاجتماعية؛ جرت موجات عشوائية من الهجرة في أوروبا من مكانٍ إلى آخر في محاولة يائسة للبحث عن الدفء.
بحسب كتاب "الكارثة: بحث في أصول العالم الحديث" لديفيد كيز الصحفي المتخصص في الآثار، فإن هذه التغيرات المناخية الحادة ساهمت في إضعاف الإمبراطورية الفارسية وهو ما سيُسهّل مهمّة الدولة الإسلامية (ظهرت الدعوة في بداية القرن الـ7 الميلادي) في إنهاء الدولة الفارسية تماماً، بالإضافة إلى القضاء على كثيرٍ من نفوذ البيزنطيين (الروم) في مصر والشام بعدما عانى قلب الإمبراطورية البيزنطية (القسطنطينية) كثيراً من تبعات الظلام والوباء.
اقتصادياً، ازدادت قيمة الفضة ولعبت دوراً رئيسياً في قيادة اقتصاد "عالم ما بعد البركان". هذه الخطوة فسّرها كريستوفر لوفلوك عالم الآثار في جامعة نوتنغهام البريطانية، بأنه خلال هذه الفترة أصبح الذهب نادراً ولم يمتلك أحد إمكانية أو طاقة لمحاولة العثور عليه فتحوّل البشر فوراً إلى الفضة كوسيلة بديلة لـ"اكتناز القيمة".
ومن المفارقات، أن الفضل الكبير لظهور الفضة بالكميات التي احتاجها الناس في معاملاتهم اليومية وقام عليها عصب الاقتصاد الجديد إنما ظهرت مع الرصاص الذي زادت كمياته بسبب النشاط البركاني الأيسلندي، فعادةً ما تظهر الفضة على الأرض للمُعدّنين مخلوطة بالرصاص، الذي تجري عليه معالجات لفصلهما عن بعضهما، أي أنّه كلما زاد الرصاص زادت الفضة تلقائياً.
ما يعني أن اليد التي منعت فيها الطبيعة الذهب على الناس منحتهم في المقابل فضةً بلا حدود حتى يُعاودوا النهوض وإقامة عالمهم مُجدداً.
عربي بوست
مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/09 الساعة 13:33