كومودوس.. إمبراطور روما المجنون الذي أنهى عصرها الذهبي

مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/05 الساعة 18:00
مدار الساعة - «عززت الإمبراطورية مكانة أولئك الذين حكموا قبلي، والتي حصلوا عليها بوصفها شرفًا إضافيًّا، لكنني وحدي ولدت من أجلكم في القصر الإمبراطوري.. استقبلني اللون الأرجواني عندما خرجت إلى العالم، وأشرقت الشمس عليَّ، رجل وإمبراطور، في اللحظة نفسها»*الإمبراطور كومودوس، بعد توليه حكم الإمبراطورية الرومانية وفقًا للمؤرخ هيروديان. كان والده أحد أشهر أباطرة روما، وقد عرف عنه أنه آخر «الأباطرة الخمسة الجيدين»، وهو الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس، فحين خاف أوريليوس على عرش الإمبراطورية من الضياع في غياهب الحرب الأهلية، التي كانت تحدث في كل مرة يموت فيها الإمبراطور دون تعيين وريث، بل حتى إذا عيَّن وريثًا دون أن يتمكن من الحصول على تأييد القادة أو مجلس الشيوخ، لذلك ومنذ مولده، أعد أوريليوس ابنه كومودوس ليكون الإمبراطور، وحرص كل الحرص على أن يظهر بجانبه ويتعامل مع القادة ومجلس الشيوخ بصفته الإمبراطور القادم، لكن على الرغم مما بذله أوريليوس من مجهود، فإن ابنه كومودوس كان له رأي آخر، هو ما سنعرف حيثياته في هذا التقرير. كومودوس.. الطفل الذي ولد إمبراطورًا في أواخر صيف عام 161 وضعت فاوستينا ابنة الإمبراطور الروماني أنطونيوس بيوس الصغرى، وزوجة الإمبراطور ماركوس أوريليوس، توأمًا هما تيتوس وكومودوس، لكن القدر اختار تيتوس فمات مبكرًا في عام 165 تاركًا كومودوس ابنًا وحيدًا للإمبراطور ووريثًا. مثل والده، تمتع كومودوس بفوائد التعليم الأرستقراطي الروماني النموذجي، مع التركيز على تربيته بشكل لائق لحكم الإمبراطورية، وفي البلاط الإمبراطوري في روما كان يجالس طبيب البلاط جالينوس، الذي يعد من أكثر الأطباء والممارسين الطبيين تأثيرًا في العصور القديمة. وحاولت بعض المصادر التاريخية إرجاع شخصية كومودوس العنيفة إلى سنوات طفولته، فيحكي أحدها كيف أن كومودوس عندما كان صبيًّا يبلغ من العمر 12 عامًا، غضب بشدة من ماء الحمام الفاتر لدرجة أنه أمر بإلقاء صاحب الحمام الذي كان يديره في الفرن، ولم ينج المسكين من مصيره الدموي إلا من خلال التفكير السريع لأحد العبيد الحاضرين، والذي ألقى بجلد الغنم بدلًا منه في النيران، فأقنعت الرائحة النتنة للدخان الإمبراطور المستقبلي بأن جريمة فتور المياه المعدة لاستحمام ولي العهد قد جرى تنفيذ عقوبتها بشكل مناسب. ولأن والده ماركوس أوريليوس كان حريصًا على التأكد من أن مسار خلافة الإمبراطورية واضحًا، فقد اتخذ عددًا من الخطوات للتأكد من أن روما، وكذلك الجيوش في المقاطعات الرومانية المختلفة والبعيدة، تعرف بأمر وريثه الإمبراطور القادم، لذا ففي عام 172، وعندما كان عمره 11 عامًا فقط، انضم كومودوس إلى والده في قاعدة «كارنونتوم» (شرق النمسا الحديثة)، والتي اتخذها الإمبراطور مقرًّا للانطلاق في هجماته على القبائل الجرمانية. فقد كانت تعد «كارنونتوم» المقر الرئيسي للإمبراطور خلال الحرب الماركومانية، حيث واجه الإمبراطور الغارات التي شنتها القبائل الجرمانية، وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 172، مُنح كومودوس لقب «جيرمانيكوس» (وهو اسم قائد روماني اشتهر بحملات ضد جرمانيا)، وصدرت العملة تحمل على أحد أوجهها صورة أوريليوس وعلى الوجه الآخر صورة كومودوس، وهكذا فإن دوره بوصفه قائدًا رومانيًّا ومسيرته بصفته بطلًا منتصرًا قد بدآ بالفعل. لكن على الرغم مما فعله ماركوس أوريليوس لضمان استقرار الحكم لابنه بعد رحيله، فإن كل ذلك لم يكن كافيًا؛ فحينما مرض أوريليوس عام 175 أعلن كاسيوس – حاكم إقليم سوريا- نفسه إمبراطورًا وتحت إمرته انضم إقليما يهودا الموجود في منطقة فلسطين حاليًا ومصر، وذهبت بعض المصادر إلى أن ما فعله كان نتيجة لسماعه شائعة بأن الإمبراطور قد مات نتيجة لمرضه، وأن ما فعله كاسيوس كان خوفًا على استقرار الإمبراطورية من أن تتجه نحو الحرب الأهلية، وليس على سبيل الخيانة. وبمجرد شفائه توجه أوريليوس إلى سوريا لإيقاف «التمرد» لكنه اكتشف أن قادته قتلوا كاسيوس قبل وصوله، وقد حزن أوريليوس على مقتل قائده، وهو ما يظهر الكثير عن شخصية الأب فيه، وعلى الجانب الآخر كانت هذه المحاولة سببًا أدعى لسعيه نحو تمكين كومودوس أكثر وأكثر، فحصل كومودوس على ألقاب إضافية تعكس التزام ماركوس بضمان خلافة ابنه؛ وبحلول عام 176، جرى الاعتراف بكومودوس إمبراطورًا، وبحلول 177 سمي باسم «أغسطس» لتأكيد أن حكم الإمبراطورية ليس مشتركًا بين الأب والابن، وأن الوريث قد جلس على العرش بالفعل. الإمبراطور الذي يفضل الملذات على الحكم في عام 180 بعد الميلاد، توفي ماركوس أوريليوس أثناء قيامه بحملة خارج نهر الدانوب الذي يمر في وسط أوروبا، وأصبح كومودوس وهو بعمر الثامنة عشر الحاكم الوحيد والمطلق للإمبراطورية الرومانية، وقدم كومودوس على الفور منحًا مالية للجيوش لتجنب أي تمرد أو ثورة غير مرغوب فيهما، ولتمويل المنح، خفَّض قيمة العملة المعدنية لأول مرة منذ عهد نيرون. وكان صعود كومودوس إلى سدة الإمبراطورية بصفته ابنًا بيلولوجيًّا (وليس بالتبني) للإمبراطور هي المرة الأولى منذ عهد تيتوس، ابن فيسباسيان، بل المرة الأولى على الإطلاق التي تنتقل فيها السلطة إلى ابن نشأ على وجه التحديد ليكون إمبراطورًا، وقد قال كومودوس عن ذلك وفقًا للمؤرخ هيروديان «عززت الإمبراطورية مكانة أولئك الذين حكموا قبلي، والتي حصلوا عليها بوصفها شرفًا إضافيًّا، لكنني وحدي ولدت من أجلكم في القصر الإمبراطوري». وبعد أن رسِخت أقدامه في السلطة، واصل «كومودوس» حملته ضد القبائل الجرمانية على نهر الدانوب، لكنه سرعان ما شرع في التفاوض معها، ووقع الإمبراطور معاهدة سلام أنهت الحرب الماركومانية التي استمرت قرابة 18 عامًا، لكن يبدو أن أسباب سعيه للسلام مع القبائل الجرمانية لم تكن لأغراض نبيلة أو حبًّا في السلام أو رغبة في إيقاف نزيف الحرب، بل أجمع المؤرخون على أن الإمبراطور سرعان ما فقد الاهتمام بمواصلة حملة والده، وذلك بتشجيع من حاشيته المتملقين، الذين اجتمعوا حول الإمبراطور الجديد وشجعوه على العودة إلى قصره المريح في روما. وفي هذا السياق يذكر هيروديان: «قالوا مرارًا وتكرارًا: أيها السيد، متى ستتوقف عن شرب هذا الطين السائل الجليدي؟ بينما يستمتع الآخرون بالتيارات الدافئة والجداول الباردة والضباب والهواء الناعم، وكلها فقط تمتلكها إيطاليا»، وبمجرد اقتراح مثل هذه المسرات للشاب، أثاروا شهيته لتذوق الملذات، وعلى الرغم من محاولة بعض المخلصين لوالده لنصحه أن يعدل عن توقيع مثل هذه المعاهدة التي «هي إهانة للإمبراطورية»، فإن الإمبراطور الشاب أصر على موقفه وأنهى الحرب. عاد كومودوس إلى روما وتأكد من ولاء مجلس الشيوخ له، وبدأ مرحلة جديدة من الحكم، أظهر فيها عدم رغبته في تولي إدارة البلاد لدرجة تعيين مسؤول عن تسيير الأمور اليومية للإمبراطورية، بينما انشغل الإمبراطور في الملذات التي قدمتها له الحاشية، والتي أحاط نفسه بها بعدما أبعد كل من كان مخلصًا لوالده، ليتخلص من ذلك الصوت الذي يحاول أن ينصحه دائمًا. ولم يمر استهتار كومودوس مرور الكرام؛ إذ بعد مرور سنتين فقط، وفي وقت مبكر من عام 182، حاولت أخته الكبرى لوسيلا تنظيم ثورة ضد الإمبراطور، والتي شارك فيها بعض كبار أعضاء مجلس الشيوخ، وفي خضم الأحداث خطط الأعضاء البارزون في المجلس لقتل الإمبراطور بينما كان يحضر مسرحية في روما، ومثل أي محاولة اغتيال مشهدية، أفسد القاتل عنصر المفاجأة حين صرخ القاتل على الإمبراطور قائلًا: «انظر! هذا ما يرسله لك مجلس الشيوخ!» بينما يلوح بخنجر. وبالطبع فشلت المحاولة، وتدهورت العلاقة بين الإمبراطور ومجلس الشيوخ، وأصيب كومودوس بالبارانويا فأصبح يعزل كل من يتولى منصبًا مهمًّا سواء كان مخلصًا له أم لا، واستغل الكثيرون خوف كومودوس من المؤامرات للتقرب منه والتخلص من خصومهم والحصول على مكاسب شخصية، فانتشر الفساد بين الطبقة الحاكمة فيما كان المواطن الروماني يعاني من غلاء الأسعار ونقص الغذاء وانتشار المرض. وعلى عكس الحكام السابقين الذين جعلوا الإمبراطورية محكومة برُشد لمدة قرنين من الزمان، كانت فيهما سلطة الإمبراطورية المتعاقبة حذرة ماليًّا وحريصة على التحكم في الإنفاق، بدأ كومودوس في الإنفاق بإسراف، مما أسفر عن أزمة مالية، وتضخم جامح أصبح مشكلة حرجة في السنوات المقبلة للإمبراطورية الرومانية. لم يكن كومودوس مدركًا خطورة أفعاله، وعلى الرغم من ادعاءاته بأنه تجسيد لهرقل على الأرض، فإنه كان يدرك جيدًا أنه بحاجة إلى دعم الجيوش، ولأول مرة منذ عقود، سعى الإمبراطور إلى زيادة عدد الجيش لتعزيز قبضته على السلطة، وكانت تلك سابقة خطيرة، (تبعها خلفاؤه المباشرون أيضًا)، وتكمن خطورتها في أن الجيوش بدأت تزداد قوة؛ مما أدى إلى زعزعة استقرار الإمبراطورية على المدى الطويل. الإمبراطور غريب الأطوار.. يقتل على سبيل الترفيه تحكي المصادر عن غرابة أفعال كومودوس وقسوته، فتوضح أنه كان يهين أو يعذب أو حتى يقتل أفرادًا من أجل المتعة والضحك والترفيه، وكان يسبب العاهات للبعض مثل أن يفقع لهم عينًا أو يبتر لهم يدًا أو قدمًا، البعض كان يقتلهم لأنهم كانوا زائدي الوزن، وكان يرغب في رؤية كيف ستخرج «أمعائهم السمينة» بعد أن يشق بطونهم، بل كان يقتل البعض لأنهم «وسيمون جدًّا». وبالإضافة إلى سفك الدماء داخل البلاط الملكي، كان كومودوس يحب سفك الدماء في حلبة المصارعة، فانخرط بنفسه في معارك المصارعين، واستعمل الأسماء التي تُعطى عادة للمصارعين بكل سرور كما لو كان قد مُنح أوسمة النصر، فكان يشارك بانتظام في المنازلات، وكلما خاض قتالًا أمر بتسجيله في السجلات العامة، ويقال إنه شارك في 735 نزالًا، وبالطبع لم يخسر أي نزال. ووفقًا للصحافي جوليان كاتالون من جريدة «لوس أنجيليس تايمز» المهتم بالتاريخ الروماني فإن كومودوس «حارب ذات مرة مجموعة من العجزة في روما، وبعد أن جعلهم يرتدون ملابس مثل الوحوش، ومسلحين بالإسفنج الذي جرى صنعه ليبدو مثل الصخور، أطلق السهام عليهم، وبعد الفوز، كان يستمتع دائمًا بدعك دماء ضحاياه على ملابسه وشعره» وكتب أحد المؤرخين: «لم يظهر على الملأ قط دون أن يتلطخ بالدماء». ويذكر المؤرخ كاسيوس ديو، كيف كان يتربح كومودوس من هذه النزالات فيقول: «كان ينزل إلى الحلبة ويقتل جميع الحيوانات التي اقتربت منه أو جلبت أمامه في الشباك.. وبعد أن يقوم بهذه المآثر يستريح ويعود لعرشه بالأعلي، لكن بعد الغداء يقاتل كمصارع.. فكان يحمل الدرع في يده اليمنى والسيف الخشبي في يده اليسرى، وكان فخورًا بحقيقة أن كان أعسر.. وقد يكون خصمه رياضيًّا أو ربما مصارعًا مسلحًا بعصا؛ وفي بعض الأحيان كان كومودس هو الشخص الذي يختاره الناس، لأنه وضع نفسه على قدم المساواة مع المصارعين الآخرين، باستثناء أنهم يدخلون القوائم للحصول على مبلغ صغير، بينما تلقى هو الملايين من صندوق المصارعين، لذلك كان النحاتون يصورونه على أنه هرقل، بل وصل به الأمر أنه وصف نفسه بأنه إله». وحينما حدث حريق دمر العاصمة عام 191 كان الأمر بالنسبة لكومودوس، مجرد فرصة، تمامًا مثل نيرون قبل قرن من الزمان؛ إذ عمل كومودوس على إظهار نفسه على أنه رومولوس (مؤسس روما) جديد، وأعاد تسمية المدينة على اسمه، بل حتى أعاد تسمية أشهر السنة لتتوافق مع أسمائه (كان لديه 12 اسمًا، بما في ذلك كومودوس وهرقل وإنفكتس)، وقد كان لديه أيضًا تمثال ضخم مجاور للكولوسيوم أقامه نيرون في الأصل، لكن أعيد تشكيله ليبدو مثل كومودوس؛ يحمل هراوة ويقف فوق أسد برونزي، ليقدم الإمبراطور مرة أخرى على أنه هرقل. الإمبراطور الذي قُتل خنقًا على يد صديقه «المصارع» لم يعد بإمكان شعب روما – وخاصة أعضاء مجلس الشيوخ – تحمل تصرفات الإمبراطور التي لا تطاق، ومن جهته استمر كومودوس لفترة طويلة في تهديد المجلس والشعب، وبحلول أواخر عام 192 كان ينهي عرضًا آخر في ساحة المصارعة، حين ذبح عشرات الحيوانات البرية وقاتل بعض المصارعين، وفي إهانة أخيرة لهيبة مكتب الإمبراطور، أعلن أنه في الأول من يناير (كانون الثاني) 193، سيفتتح العام بصفته القنصل، والقاضي الرئيسي، والمصارع. لذلك جرى تدبير مؤامرة تضمنت العديد من أعضاء مجلس الشيوخ، وعشيقته، وصديقًا له كان يتدرب معه على المصارعة، للتخلص من كومودوس للأبد، وفي ليلة رأس السنة عام 192 دسَّت عشيقته سمًّا قويًّا في نبيذ الإمبراطور، لكنه تقيأ النبيذ، نتيجة الآثار الجانبية للشرب الكثير، ولأن الجميع كانوا معتادين على هذا النوع من السلوك، فلم ينتبه أحد إلى أن الإمبراطور في خطر. وحين تأكد المتأمرون أن السم لم ينجح في القضاء على كومودس بعد أن تقيأه، أرسلوا صديقه الذي كان يتدرب معه على المصارعة، ويعرف باسم نارسيسيوس، لينهي حياته، وكان نارسيسيوس قوي البنية، فتمكن من خنقه حتى مات، لتنتهي حياة الإمبراطور المصارع، ولكن فصل التدهور والانهيار لم ينته من قصة الإمبراطورية. ويقول هيروديان في مقتل كومودوس: «كان هذا هو المصير الذي عانى منه كومودوس، بعد أن حكم لمدة ثلاثة عشر عامًا من تاريخ وفاة والده، كان أنبل مولود من بين جميع الأباطرة الذين سبقوه، وكان الرجل الأكثر وسامة في عصره، سواء في جمال الملامح أو في التطور البدني.. فقط لو لم يلحق العار بهذه الصفات الممتازة من خلال الممارسات المخزية».
مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/05 الساعة 18:00