عبدالهادي راجي يكتب عن الرجولة
مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/03 الساعة 01:23
.. في لجة الحرب على (داعش), وبعد استشهاد البطل معاذ الكساسبة.. كلفت بعمل فيلم عن نظرة شبابنا للجيش, كانت أولى جولاتنا هي قاعدة موفق السلطي الجوية، وقد أمضيت فيها يوما كاملا..
ما زلت أتذكر فتى أردنيا في أول العشرين من العمر, يحمل رتبة ملازم أول.. جاء وسلم علي, وأخبرني بأنني سأذهب معه إلى حظيرة إقلاع الطائرة, بصحبة ضباط من التوجيه المعنوي.. كي اشاهده وهو يخرج في مهمة قصف، كان وسيما مثل الشمس وأكثر.. صغيرا مثل الورد، وشرسا مثل نار استعرت في غابة... ولا تعرف لهيبها أين سيمتد..
ذهبنا وكانت طائرة الإف (16) قد أعدت وحملت بالذخيرة، ثم بدأ يشرح لي عن أطنان المتفجرات التي تحملها، شرح لي أيضا عن الجيل الرابع من هذه الطائرات.. وحجم الضغط الذي يتعرض له، تحدث لي أيضا.. عن مدة الرحلة, ونوعية الذخائر... ثم صعدت إلى جانب القمرة كي أرى كيف يتم تجهيزه, ووصل الأكسجين به.. كيف يتم تثبيته على المقعد.. سألته يومها: ألا تخاف من عدم العودة.. أو أن تلقى مصير الشهادة الذي لقيه زميلك معاذ؟.. قال لي: (هذه الطريق أنا اخترتها... وقد أقسمت على خدمة الملك والوطن والجيش... وأنا احترم قسمي)..
بعد ذلك أقلع بطائرته, كأن قلبي أقلع معه يومها.. كان هديرها وحده يجعل الأنفاس تتصاعد, ويبعث الرعب..
ثم أكملنا جولتنا في القاعدة، وفي بالي مجموعة من الأسئلة: أين هو الان يا ترى.. على أي ارتفاع يحلق؟.. هل ضرب أم أنه يناور حول الهدف؟... وحين انهينا الجولة وبعد (3) ساعات.. عادت طائرته، كان جسده ووجهه مغطيين بالعرق.. ولكن ابتسامته كانت تطغى.. وذهب فورا لقيادة السرب..
يومها كتبت مقالا في (الرأي) أسأل فيه عن معنى الرجولة؟.. يومها قلت هل الرجولة لدى الأردني يعبر عنها, من يتبادل (البوكسات) في المجالس التشريعية؟.. أم هذا الفتى الذي صعد إلى الحياة حاملا الموت على كفه, ما خذل بلده ولا خذل رفيق السلاح معاذ الكساسبة... ولا درى عنه أحد حتى أسرته, ربما كانت وقتها والدته.. تحضر الطعام للعائلة, ولا تدري أن ابنها في مهمة قتالية.. من أصعب ما يكون.
أعيد ذات المقال اليوم وأعيد الاسئلة، هل الرجولة يعبر عنها.. من أوفى بالقسم وقرر أن يهزم الموت.. حاملا أطنانا من الذخيرة في طائرته.. أم من يحمل على الأكتاف لأنه ضرب زميلا له...
الرجولة في الأردن لا تنتجها بوكسات وشلاليت السادة النواب – وليعذروني حماهم الله جميعا – الرجولة تنتج في قاعدة موفق السلطي.. في المدرج الذي منه قدم معاذ الكساسبة روحه لأجل البلد, ويا ليت أن جسده الطاهر عاد إلينا كي نحتفي بالشهيد ونزفه إلى السموات.. لكنهم لشدة حقدهم حرقوا الجسد, والرجولة تصنع في الحد الشمالي... والرجولة تولد من كف سائد المعايطة، والرجولة ترجمها راشد الزيود حين اقتحم الموت وما خاف من خصم ولا من رجل ولا من شارب.. والرجولة يصنعها معاذ الحويطي الذي تلقى الأمر واقتحم واستشهد بالرتبة والسلاح...
لنفهم معنى الرجولة ولنفهم من هم رموزها.. لنفهم أن الرجولة ليست بالشتائم.. والرجولة لا تكون بالكذب.. وتقديم الدين كمبرر، نحن نعرف من هم الذين انتصروا للدين.. ونعرف من هم الذين استقبل أهلهم أجسادهم الطاهرة, وقالوا على شاشات التلفزة: لقد نذرناهم للبلد.. لم يعاتبوا أحدا, ولم يلوموا حكومة.. أو مسؤولا بل زفوهم إلى عليين بالرضا وبرصاص رفاق السلاح..
الأردني يعرف منابع الرجولة وأصولها.. وأين تنبت وكيف، ويعرف أن الفوارق بين أكتاف من يشجعون البوكسات.. وأجنحة (الإف 16) كبيرة جدا... يعرف من هم الذين جابهوا وقاتلوا وتحدوا ونزفوا.. وما عرف بهم الناس, ومن استعرضوا على شاشات التلفاز لأجل أن تقول عنهم الناس بأنهم انتصروا في (هوشة)...
شخصية الأردني الحر الكبير الشهم العظيم.. تترجم في الميادين التي نعرفها.. ولا تترجم أبدا ببدلات فاخرة وربطات عنق، وتحت قبة التدفئة فيها جيدة والكراسي فيها مريحة...
ما زالت مشاهد الفيلم في خاطري، وأتذكر يومها حين كنا ننتج في التوجيه المعنوي.. بعض المشاهد, كيف تمت تغطية وجوه الطيارين.. وقد كان القصف على أشده.. يومها تمنيت أن لا يحجب الوجه، ولكنها الضرورات العسكرية... بقيت أسابيع طويلة, أفكر بالفتى الوسيم بهذا المقاتل الأردني العنيد والشرس.. الذي خرج ويعرف أن زميله في السلاح استشهد، ويعرف أنه قد يواجه ذات المصير... بقيت أفكر فيه, ويومها أدركت... أن القايش لا يقيم ميزانا للجسد.. بل هو ميزان الوطن كله..
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2022/01/03 الساعة 01:23