الأصدقاء الأوغاد
مدار الساعة ـ نشر في 2021/12/27 الساعة 08:12
أصدقائي يسألونني دائماً أسئلة غريبة ومخجلة, أمس طلب مني أحدهم أن أستفسر له عن كيفية دفع (المسقفات) في أمانة عمان, قال لي أيضا: إن الوالدة–أطال الله في عمرها–ورثت من الجد عقاراً في جبل عمان, وغضب صاحبي لأن تقدير العقار كان (مليون دينار), وأراد أن أسال حول كيفية تقسيط (المسقفات)..
لي صديق آخر هاتفني أول أمس، شاكيا من وضع البلد, قال لي: (بتصدق أبو زود والله دونم عبدون صارلي سنة عارضو للبيع.. ومش زابط)...
حتى حسونة تخيلوا - حسونة - حسونة الذي كنت أدفع عنه حساب المقهى، وأظنه أكثر الأصدقاء حاجة وتعبا في العمر, طلب مني قبل فترة أن أرافقه لوزارة العمل, وحين استفسرت قال لي: (مزرعة بابا في الغور بدي أجدد تصاريح العمال فيها)..
ماذا كان يفعل أبي في الكرك؟.. وماذا كان يفعل جدي هناك؟ كنت أتمنى أن أكون مثل أصدقائي, وأعاتب يوسف الشواربه على قيامه بتحرير مخالفة لبناية (ماما) في جبل عمان... كنت أتمنى أن أكون مثل حسونة الذي تبين لي أن الوالد - رحمه الله – لديه في الأغوار مجموعة من المزارع تنتج التمر، وليقولوا عني (هبيلة) أنا لا أهتم... كنت أتمنى ذلك..
الغريب أن أبي أورثني الكلام, هذا الذي أنثره صباحا على ورق الجرائد.. وأمي أورثتني الدعاء, ودمعة سرت على خدها ما زال وميضها يؤلم قلبي... حين رسبت في امتحان اللياقة البدنية.. يوم تقدمت للتجنيد في سلاح الجو, وأورثتني أيضا... صحنا كبيرا يحتوي على (الرشوف) بمصاحبة القليل من الفجل والبصل الأخضر, رفضت أن تتناوله, وقالت لهم: (بس يجي عبدالهادي... بتغدى أنا وياه) ويا ويلي.. تأخرت ربع ساعة فقط عن موعدي.. ووجدتها قد فارقت الحياة, كانت قد جهزت الملاعق وخبز (الطابون).. وظل الصحن على حاله, لم يأكله أحد... كل ما فعلته أني ?كبته على رأسي, وخرجت من غرفة الموت.. كمن يسير على الجراح ولا يدري بأي اتجاه يسير نزفه...
قدري أني من الكرك, وقد ورثت أيضا.. الأحلام, والحب المستحيل, وورثت الشقاء الذي ينبت مثل الدوالي على أطراف حيطان المنازل.. وورثت القصائد النبطية التي خطها بعض الجنود زمن المعركة وما عرفوا أنهم سينجون, كان الموت يحيط بهم من كل جانب.. ورثت أيضا كل المنافي في العمر... لدرجة أن قلبي صار في بعض الأحيان أكثر اغترابا مني, قلبي هو الآخر صار منفى.. وورثت أيضا الشيب والكوليسترول, وشهقة تصدر لاشعوريا من القلب كلما نزفت جديلة من تحت (الإشار).. ولا أدري هل الجدائل تنزف أم تتمرد على (الإشار)...
قلت يزعجني الأصدقاء بما ورثوا, ويزعجني عبدالهادي راجي بما ورث... حاولت أن أكون مثل الناس، أن أركب (لاند كروزر).. أن أرتدي (مسيمو دوتي).. حاولت أن أدخل المطاعم ويشار لي بالبنان: (هيو المليونير عبدالهادي).. حاولت أن يكون لي مجموعة تجارية تحمل اسم (زينة) ابنتي.. حاولت أن يكون لي بناية في الجاردنز ويكتب فوقها: مجمع عبود التجاري... حاولت..
كانت الكرك مستقري في صباي وغادرتها مبكرا, وستكون مستقري في الموت.. سأعود إليها يوما وقد سجيت في إغفاءة أخيرة.. لا صحوة منها أبدا, وسأحمل مثل طفل إلى تراب.. حتما سيكون حنونا علي أكثر من أي تراب آخر، وسيضمني ويمنحني الدفء.. وربما بعد خمسين عاما سيمر طفل من جانب القبر... ربما سيتذكر اسمي... وسيتذكر أن ميراثي كان الجنون والأسئلة.. نعم الأسئلة التي عبرت دون إجابات... على الأقل.. لقد تجرأت على السؤال، في حين أن أصدقائي الأوغاد ظلوا صامتين من دون أسئلة تطرح.. وعاشت الكرك.
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2021/12/27 الساعة 08:12