نيكولاس فلاميل.. هل نجح في تحويل الرصاص إلى ذهب؟
مدار الساعة ـ نشر في 2021/12/01 الساعة 14:12
مدار الساعة -حجر الفلاسفة من أكثر الاختراعات الكيميائية غموضًا منذ العصور الوسطى حتى وقتنا الحالي، وارتبط هذا الاسم بالسحر والخيال العلمي، واستغلت سلسلة أفلام هاري بوتر هذا الحجر في سرد الكثير من المغامرات الغامضة عن السحر.
تلك الشهرة التي حصل عليها الحجر لم تأت من فراغ، فمنذ العصور الوسطى وحتى أواخر القرن السابع عشر، كان هذا الحجر من أكثر الأهداف التي سعى علماء الكيمياء لتحقيقها، ووفقًا للأسطورة التي نُسجت حول هذا الحجر، فهو لديه القدرة على تحويل أي معدن رخيص إلى ذهب، والأهم من ذلك أنه لديه القدرة على منح الشباب الدائم لمن يتناوله، ومعالجة جميع الأمراض، وبعض الآراء جنحت إلى أنه يمنح البشر الخلود.
ولكن حتى الآن، وعلى الرغم من المخطوطات وجهود العلماء للوصول إلى صناعة حجر الفلاسفة، فليس هناك أي دليل مادي على أن أحد العلماء قد توصل بالفعل لصناعته، ولو كان مثل هذا الحجر حقيقة، فإن الفرنسي نيكولاس فلاميل الذي ولد في عام 1330، هو أكثر من اقترب من صناعته في نظر العديد من الناس، وصنعه بالفعل في نظر بعض آخر، فما قصة هذا العالم؟ وما الشائعات الغامضة التي تدور حول «قصة خلوده بعد صناعة الحجر»؟
نيوتن كان منهم.. حلم تحويل المعادن إلى ذهب
في البداية يجب أن نخبركم بأن الخيمياء تختف كليًّا عن الكيمياء، فالخمياء هي مهنة قديمة غامضة، يسعى أصحابها إلى تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب بالأساس، وهي – الخيمياء – تعد أقرب إلى التقليد الفلسفي وأحد العلوم المبتدئة القديمة، وكانت الخيمياء تمارس في أوروبا وأفريقيا وآسيا والحضارة الرومانية، ويعد حجر الفلاسفة من أهم الابتكارات التي كرس الخيميائيون حياتهم في محاولات صناعته.
وكان البحث عن هذا الحجر والذي يعد إكسيرًا للحياة في مخيلتهم، له جوانب روحانية، فلن يستطيع الخيميائي الوصول إلى حجر الفلاسفة إلا من خلال تطهير روحه أولًا، فكما ينقى الرصاص ليتحول إلى ذهب، يجب أن تكون الروح نقية أيضًا؛ هكذا اعتقد الخيميائيون في القرون الوسطى.
وقد تبدو لك هذه الأفكار غريبة أو حالمة، ولكن الخيميائيين ليسوا من سعوا وراء حجر الفلاسفة وحدهم، فهناك العديد من العقول العظيمة التي ما زالت تتردد أسماؤها حتى الآن في حياتنا، وتقوم معظم العلوم على اكتشافاتهم؛ سعوا أيضًا وراء هذا الحلم.
على سبيل المثال وليس الحصر، قضى العالم الشهير إسحاق نيوتن سنوات طويلة في رحلة بحث علمية، غرضها اكتشاف طريقة صناعة حجر الفلاسفة، ويرجح البعض أن الوقت الذي قضاه في تلك المحاولات كان أكثر من الوقت الذي احتاجه لوضع قوانين الجاذبية، وهذا بعد أن اكتُشفت بين مذكراته بعض النصائح والخطوات لمراحل صناعة هذا الحجر.
وما وصل إليه العلم الآن أنه يمكن تحويل المعادن بالفعل لمعادن أخرى، ولكن هذا يحتاج إلى الكثير من الأموال لتنفيذ تلك التجربة، ما يجعل الهدف من تنفيذها بلا قيمة. على جانب آخر كانت الخيمياء مميزة عن العلوم المعتادة، فقد كانت تجمع بين العلم والروح، وكانت مسعى روحانيًّا أكثر من كونها علمًا مجردًا.
أحدهم فقط هو الذي اقترب
الخيميائي عادة له صورة ذهنية تصدرها السينما والأعمال الدرامية، وهي العالم الذي يبدو عليه الجنون، ويعيش في معمل تملؤه الأدخنة السامة نتيجة لتجاربه الساعية للخلود، ولكن نيكولاس فلاميل كان يقع خارج تلك الصورة المعتادة، عاش فلاميل في القرن الرابع عشر في باريس، واشتهر بين أقرانه بأنه شخص ذكي ولطيف، وتقي أيضًا، وفي واحدة من الأحياء الصغيرة، المزدحمة عمل فلاميل ناسخًا قبل اختراع الطباعة، فكان دوره هو نقل الكتب المُراد نسخها نقلًا يدويًّا، الأمر الذي كوَّن علاقة وطيدة وحميمية بينه وبين الكتب. تلك العلاقة التي ربما كانت السبب في الحلم الذي تردد أنه كان يحكيه لكل من حوله، والذي راوده في شبابه.
كان الحلم عن ملاك زاره وأعطاه كتابًا غامضًا غريب الشكل، وقال له الملاك إن هناك سرًا مخفيًّا في هذا الكتاب، وأنه سيأتي اليوم الذي يكون فيه – فلاميل- قادرًا على فك شفرة هذا السر وتغيير العالم للأفضل. ظل هذا الحلم يداعب خيال فلاميل محاولًا معرفة سببه، ومرت السنوات حتى كاد أن ينسى كل شيء عنه، وفي يوم – وفقًا للحكايات المتداولة عنه- قابل أحد الرحالة، والذي عرض عليه كتابًا قديمًا مكونًا من 21 صفحة ومقسمًا إلى أربعة فصول، لم يستطع فلاميل مقاومة هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب، ووفقًا لما حكاه، كان مثل الكتاب الذي ظهر له في الحلم تمامًا، وتمسك بالكتاب أكثر عندما أدرك أن يحتوي على مقاربة لطريقة تحويل الرصاص إلى ذهب.
ولكن واجهته عقبة وهي اللغة المكتوب بها هذا الكتاب، وهي لغة الكابالا الخاصة بالصوفية اليهودية، والتي لم تكن معروفة للكاثوليك الذين كان ينتمي إليهم فلاميل، حاولت زوجته مساعدته في فك شفرة هذا الكتاب، ولكنهما في النهاية اعترفا بأنهم لن يكونا قادردًنا على فك تلك اللغة دون مساعدة.
في ذاك الوقت – العصور الوسطى- بباريس،كان اليهود عبارة عن مجتمع صغير عادة ما يتعرضون للاضطهاد، ولذلك لم يكونوا حريصين على مشاركة معارفهم وثقافتهم مع المسيحيين الكاثوليك، ولذلك كان فلاميل مدركًا أن إيجاد باحث يهودي على استعداد لمساعدته ليس أمرًا سهلًا، ولذلك قرر السفر إلى إسبانيا، حيث يعيش فيها مجتمع أكبر وأكثر تفتحًا من اليهود هناك؛ بسبب ازدهار قيم التنوع في الحضارة الأندلسية، وانضم بالفعل إلى الحجاج الذاهبين لزيارة قبر أحد القديسين في شمال إسبانيا، وكانت رحلة طويلة ومرهقة وخطيرة أيضًا.
وصل فلاميل إلى إسبانيا واستطاع الوصول إلى باحث، يهودي اعتنق المسيحية وعلى دراية كافية باللغة المكتوب بها الكتاب، ولكن الكتاب نفسه لم يكن مع فلاميل لأنه لم يصحبه معه في تلك الرحلة المرهقة؛ خوفًا عليه من الهلاك نظرًا إلى أنه كتاب عتيق، ولكنه أخذ معه مقتطفات منه وعرضها على على هذا الباحث، والذي شعر بالفضول الشديد تجاه الكتاب، وقرر العودة مع فلاميل إلى فرنسا، ولكن الباحث لم يستطع أن يصمد في رحلة العودة الشاقة وتوفي في منتصف الرحلة.
فلاميل كان قد استغل الوقت الذي قضاه مع الباحث في تعلم ما استطاع تحصيله من لغة الكابالا، وبعد عودته كرس حياته هو زوجته وتحول إلى خيميائي هدف حياته الأول هو الوصول لحجر الفلاسفة، وفقًا للوصفة الموجودة في الكتاب، وبعد 21 عامًا من التجارب أعلن فلاميل أنه استطاع التوصل إلى الصيغة الصحيحة والناجحة لصناعة هذا الحجر وإكسير الحياة أيضًا، وساعد على تصديق تلك القصة أنه بعد هذا الإعلان الذي أخبر به الجميع، يشاع أن فلاميل ظهر عليه وزوجته الثراء الفاحش.
ويصدق البعض أن فلاميل عاش مئات الأعوام في مختبرات سرية تحت الأرض بعد ذلك، يجري المزيد من التجارب الغريبة، وتلك هي القصة التي ما زالت تروى حتى الآن في أوروبا ويصدقها الملايين منها، فما هي حقيقة تلك القصة بالفعل؟
الحقيقة وراء فلاميل
تلك القصة طعن المؤرخون والعلماء في صحتها على مدار قرون، موضحين أنه ليس هناك دليل مادي أن فلاميل رجل الأدب والكتاب قد تحول إلى الخيمياء، وفسر البعض الثروة الطائلة التي هبطت عليه بأنها إرث من عائلة زوجته التي عُرف عنها الثراء الفاحش.
وأن تلك القصة التي وصفوها بالأسطورية تكونت من الحكايات الشفوية عن فلاميل، واستغل بعض الخيميائيين تلك القصة في القرن السادس عشر والسابع عشر لتعزيز محاولات تجاربهم في صناعة حجر الفلاسفة، كونه مجرد حلم مستحيل الوصول إليه أو تحقيقه في نظر الناس، وعادت تلك القصة مرة أخرى للنور عندما استخدمت الكاتبة رولنج مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر الخيالية؛ شخصية فلاميل في الرواية، وقد أظهرته صانعًا لحجر الفلاسفة بالفعل، ومرة أخرى في السنوات القليلة الماضية عندما ظهرت شخصية في أحداث الجزء الثاني من فيلم «Fantastic Beasts».
المؤكد تاريخيًّا هو حقيقة وجود فلاميل وزوجته، وفي العام 1851 سُمي أحد الشوارع في باريس على اسمه بالقرب من الحي الذي كان يعيش فيه هو زوجته في القرون الوسطى، كما سمي أقدم منزل من منازل باريس، والذي يعود عمره لبدايات القرن الخامس عشر؛ على اسم فلاميل، لم يكن هذا المنزل القديم مسكنًا لفلاميل بل بناه ليكون مخصصًا للفقراء، والذي كان شرطه الوحيد حتى يقيموا في المنزل هو أن يقيموا الصلاة مرتين في اليوم بغرض الدعاء له ولزوجته، الآن تحول المنزل إلى مطعم يحمل اسمه أيضًا.
في النهاية ستظل القصة الشعبية تقف أمام حجج المؤرخين، في انتظار الدليل الحاسم حول قصة هذا الرجل الغامض، إما أن يظهر دليل على أن فلاميل توصل بالفعل لصناعة حجر الفلاسفة، وإما تظل كلمة المؤرخين والعلماء هي الصامدة بأن تلك القصة لم تكن سوى أسطورة أو حكاية تحفيزية، يجترها كل خيميائي يحلم بالوصول إلى حجر الفلاسفة، آخذًا فلاميل قدوة له وأملًا.
مدار الساعة ـ نشر في 2021/12/01 الساعة 14:12