بدأها إبليس ضد آدم وطوّرها الأوروبيون البيض

مدار الساعة ـ نشر في 2021/11/14 الساعة 14:57

 مدار الساعة - التعريفات كثيرة حول ماهية العنصرية، جلها يدور حول التمييز، سواء بالإيجاب أو السلب تجاه سلالة (race)، أو لون (colour)، أو عرق (ethnicity) معين من البشر. السؤال الذي يطرح نفسه هو من أين أتت العنصرية؟ هل نحن نُولد عنصريين، أم هل هي مكتسبة من التربية والبيئة، هل العنصرية طريقة تفكير؟ وهل لو كان جميع البشر ينتمون للون وعرق واحد فهل سيكون للعنصرية وجود؟

 
العنصرية.. ظاهرة كونية
العنصرية، باعتبارها ظاهرة كونية، ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها. فلكل ظاهرة ميلاد وطفولة ونشأة، مروراً بمنعطفات فارقة ساهمت في تشكيلها، فقد مرت على عالمنا هذا العديد من الظواهر انطمس بعضها بينما ظل البعض الآخر حاضراً بيننا.
 
بحسب الرواية القرآنية فإن أول سابقة احتجاج عنصرية كانت بين البشر والملائكة حين احتج أحد الملائكة (إبليس) على تفضيل أول البشر (آدم) عليه. مصدر الاحتجاج كان اختلاف السلالة أو النوع (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، بالإضافة للسببية المعرفية الأخرى بصفات وخصائص هذه السلالة الجديدة (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
 
وبغضّ النظر عن وجود العديد من الروايات المختلفة المنتشرة عبر الديانات والثقافات المتعددة أو حتى الاستنتاجات الأخرى المنسوبة للعلم، فإن ظهور أول بَشريّ على كوكبنا قد نتج عنه تكاثر وتمايز عبر الزمن، نتجت عنه ألوان متعددة من البشر يحمل كل منها خصائص وسمات ظاهرية مختلفة وشديدة التباين.
 
ينبغي أيضاً عدم الخلط بين العنصرية والعبودية (slavery). فالعنصرية هي الربط بين الصفات الظاهرية من جهة، والأفكار والمعتقدات أو الانطباعات من جهة أخرى، كالربط بين الذكاء واللون الأبيض أو الغباء واللون الأسود. أما العبودية فهي تسلسل هرمي يستمد وجوده وشرعيته من هرم السلطة، فالجندي عبد لقائده، والقائد عبد للملك، وعامة الشعب عبيد لبلاط السلطان والآلهة. والعبودية تحتمل وجود جميع الألوان، حيث إنها ناتج الهزيمة، فالمنتصر هو السيد والمهزوم هو العبد، بغض النظر عن اللون، فجميع الألوان متساوية في العبودية عند الهزيمة.
 
بالعودة إلى الوراء نجد أن الحضارات القديمة في الصين والهند ومصر واليونان جميعها تعاطت مع العبودية دونا عن العنصرية. فكان من السائد في العقل اليوناني القديم (باستثناء أرسطو) أن الاختلافات المظهرية هي ناتج عوامل بيئية، كما تتجلى في أطروحات أبوقراط والإمبراطور اليوناني جوليان Julian، الذي نُسبت له هذه المقولة: "أخبرني لماذا يكون السلت والألمان شرسين بينما الهيلينيون والرومان يميلون إلى الحياة السياسية والإنسانية، وعلى الرغم من أنهم في نفس الوقت عنيدون ومتحاربون؟ لماذا المصريون أكثر ذكاء وأكثر منحاً للحرف، والسوريون مخنثون وغير محاربين، ولكنهم في الوقت نفسه أذكياء وسريعو الغضب وعبثيون، ومع ذلك سريعو التعلم؟ هل هناك أي شخص لا يميز هذه الاختلافات بين الأمم؟".
 
أول حادثة عنصرية
يسجل التاريخ أن أول حادثة مزجت بين العرق والمعتقد تمت في شبه الجزيرة الآيبيرية (Iberian Peninsula)، أو مايعرف اليوم بإسبانيا والبرتغال، والتي كانت أكبر موقع للاختلاط بين المسلمين والمسيحيين واليهود وقتها. فعندما تمت استعادة الإمارات الإسلامية عقب سقوط الأندلس بواسطة ملوك الكاثوليك إيزابيل وفرديناند، سعى كلاهما إلى إقامة دولة مسيحية خالصة موحدة، فقاما بطرد اليهود أولاً عام 1492، ثم تلاهم المسلمون عام 1502. ومع تواصل المذابح وحملات التفتيش تحول عدد كبير من المسلمين واليهود إلى المسيحية، حفاظاً على حياتهم، ولكن لم يثق الملوك المسيحيون بذلك التحول، ولضمان بقاء المسيحيين المخلصين فقط أعاد المحقق الكبير (Grand Inquisitor) صياغة محاكم التفتيش الإسبانية، بحيث تشمل ليس فقط ممارسة المعتقد والديانة، ولكن النّسب. فقط أولئك الذين استطاعوا إثبات أسلافهم لأولئك المسيحيين الذين قاوموا الغزو المغاربي كانو آمنين في وضعهم في المملكة الإسبانية، وهكذا وُلدت فكرة نقاء الدم (limpieza de Sanger). وهذه أول حادثة رصدها التاريخ في المزج بين المعتقد الديني والنسب البيولوجي (blood heritage as a category of religio-political membership).
 
في عصور أوروبا القديمة والوسطى بدأ تكون فكرّة العرق أو السلالة لدى العقل الغربي، مُستمدة ومتأثرة بالتلمود البابلي المعروف، والذي قسّم البشر لثلاث سلالات، هم نسل أبناء نوح سام، أبو الآسيويين، ويافث أبو الأوروبيين، وحام أبو الأفارقة، حيث تقضي الأسطورة بأن حام كان أسودَ بسبب خطيئته، والتي حتّمت عليه بالإضافة لسواد لونه أن يكون هو ونسله خدماً لأخويه. استمرت هذه النمطية السائدة في العقل الغربي حتى القرن التاسع الميلادي بظهور الفيلسوف الإفريقي المسلم المعروف الجاحظ، الذي تحدث بصورة واضحة عن علاقة اللون والبيئة، وتلاه بن خلدون في القرن الرابع عشر، الذي أنكر تماماً خرافة التلمود البابلي للتصنيف البشري، وربط بين تأثير الحرارة واللون في إفريقيا جنوب الصحراء.
 
وبالعودة مرة أخرى لشبه الجزيرة الآيبيرية، التي احتلت موقعاً بارزاً في تاريخ نشوء وتطور الفكرة العنصرية الأوروبية، حيث أدخلوا تجارة العبيد لأوروبا، متأثرين في ذلك بالتجار العرب الذين سبقوهم في ذلك إبان حكم الأندلس، ولكن الأوروبيين وبإيعاز من الكنيسة الكاثولوكية الإسبانية تخلّوا تدريجياً عن إخضاع المسيحي الأبيض للعبودية مع الإبقاء عليها لغير الأبيض.
 
واجهت الأوروبيين بعد ذلك مُعضلة شعوب العالم الجديد في القارة الأمريكية من السكان الأصليين. انقسمت الكنيسة في التعامل مع الزنوج والهنود الحمر، حيث كان يدور حوار جاد شهد انقساماً حول إذا كانوا حيوانات أم بشراً، وكذلك ما إذا كانت لديهم أرواح أم لا (soulless). 
 
بادرت الكنيسة الكاثوليكية للاعتراف ببشرية السود والهنود الحمر، بينما تأخرت الكنيسة البروتستانتية لفترة طويلة. وباعتناق أعداد كبيرة من هؤلاء السكان للمسيحية وجد الأوروبيون أن المسيحية التي تحمل في جوهرها المساواة بين العبد وسيّده، وأنهما سيّان في نظر الله، أصبحت عائقاً، فظهرت أنماط أخرى للتصنيف السلالي، تم تبنّيها لاحقاً من رواد عصر النهضة والتنوير الأوروبي من الفلاسفة والعلماء.
 
التقسيم الجديد للأرض
مفهوم السلالة بصلاته الوثيقة بأفكار البيولوجيا الحتمية خرج مع ظهور الفلسفة الطبيعية الحديثة، واهتمامها بالتصنيف (Taxonomy). ولعل أول رصد للسلالة كمفهوم ظهر في العام 1684 بمنشور "التقسيم الجديد للأرض" لفرانسوا بيرنيه، وهو رحالة وطبيب فرنسي حكى عن أسفاره لبلاد مصر وفارس والهند، وقسّم العالم لأربع أو خمس سلالات، بناء على ملاحظاته للأنماط الظاهرية في اللون والسّحنة. 
 
وتقدم ديفيد هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي المشهور، بمقالة عام 1754، حيث يقول: "أنا على استعداد بالاشتباه أن جميع الأنواع الأخرى، وبالأخص الزنوج (negroes)، هم بطبيعة الحال أدنى من البيض، ولم تكن هناك أمة متحضرة من أي نوع آخر جديرة بالذكر سوى البيض". 
 
أما فيلسوف الأخلاق الألماني إيمانويل كانط فقد كانت أفكاره عن السلالات صارخة وحادة العنصرية، ففي أطروحاته عام 1775، التي تحدث فيها عن السلالة باعتبارها فئة علمية، وربطها بالقدرة على التفكير المجرد، وطرَح ترتيباً هرمياً للسلالات يذكر فيه: "إن العرق الأبيض يتصدر الهرم، حيث يحتوي على كل المواهب والدوافع، يليه الهندوس الذين يشبهون الفلاسفة ويتمتعون بدرجة عالية من الهدوء، وميلهم للغضب والحب، وقابليتهم للتعليم، للفنون وليس العلوم، أما الزنوج فهم عرق مليء بالعاطفة والحيوية والثرثرة والعبثية، ويمكن تعليمهم وتدريبهم فقط لأجل الخدمة، وأما الهنود الحمر فهم يفتقرون للعاطفة، ونادراً ما يتكلمون، وكسالى وغير قابلين للتعلم".
 
أما الإنجليزي جون لوك، وهو صاحب القيم الليبرالية الحداثية، التي تم تضمينها في إعلان استقلال الولايات المتحدة والعقد الاجتماعي للثورة الفرنسية، فقد كان متورطاً بشكل كبير في تجارة الرقيق، سواء من خلال أسهمه الشخصية في شركات الاتجار بالعبيد (Royal African Company)، أو إشرافه الإداري المباشر على أنشطة بلاده الاستعمارية المزدهرة، وصياغته للقوانين الدستورية المحلية، كما في ولاية كارولينا الأمريكية عام 1682، والذي يقتضي "لكل رجل حر في كارولينا المِلكية التامة والسلطة المطلقة لعبيده السود". وما يمكن فهمه من أطروحات لوك الشبيهة بالمغالطات المنطقية (Fallacy)، التي تدعو للحرية والمساواة وتكريس الممارسات والنفوذ الاستعماري في آنٍ واحد، أنها شكّلت مُعضلة عَصِيّة على الفهم للكثيرين، حيث لم يقم لوك نفسه بتوضيح ذلك.
 
وفي القرن الثامن عشر كان هناك الألماني هيغل، الذي يُعتبر بإجماع النقاد أشهر الفلاسفة عنصرية، بربطه المباشر للتسلسل الهرمي الحضاري بالتسلسل الهرمي للأعراق، في كتابه المعروف "الموسوعة وتاريخ الفلسفة". وهو النواة لفصل كامل من فصول الفلسفة العرقية العلمية (scientific racism)، كتلك التي تبنّاها الفرنسي آرثر دي جوبينو، والاسكتلندي روبرت نوكس. 
 
مرارات النازية
ويعتبر بعض النقاد أن النازية الهتلرية ما هي إلا نتاج مباشر لأطروحات هيغل، أما فيلسوف القرن التاسع عشر، فردريك نيتشه، فكان عميق الإيمان بالعبودية. ففي أطروحته ما وراء الخير والشر يقول "كل تعزيز لنوع الإنسان كان حتى الآن عملَ مجتمع أرستقراطي -وسيظل كذلك مراراً وتكراراً- مجتمع يؤمن بمقياس طويل من الرتب والأوامر واختلافات في القيمة بين الإنسان والآخر، وهذا يحتاج إلى العبودية بمعنى أو بآخر"، ويضيف: "إن العبودية هي الشرط المسبق للتربية والانضباط الروحي -وهي واجب أخلاقي للطبيعة موجه إلى الشعوب والأجناس والأعمار والطبقات- ولكن قبل كل شيء للإنسان"، وهو هنا يبدو متأثراً بأفكار أرسطو المماثلة.
 
فبعد مرارات النازية والحروب العالمية، أنشأت الأمم المتحدة فرعيتها للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو)، في عام 1945، التي أصدرت منشورات تجيب عن سؤال السلالة (The Race Question)، والتي أقرت بأن الأطروحات الغربية في مسألة السلالة مجرد خرافة غير مُعضّدة علمياً أو أخلاقياً.
 
وبالرغم من ذلك صدر كتاب (The Bell Curve) المثير للجدل عام 1994، في الولايات المتحدة، والذي يعيد فرضية الاختلافات العرقية في الذكاء والمقدرات، بما يمثل امتداداً للأفكار الغربية المشوهة منذ القرن السابع عشر إلى اليوم.
 
إن ما نتعامل معه في عالمنا المعاصر هو انعكاس مباشر للأفكار الغربية التي نشأت في خضم صراع بقاء ونزاع شرس، ومنافسة حادة على الموارد، وهيمنة كولينيالية وحاجة ماسّة للأيدي العاملة. 
 
فالعقل الغربي لم يعترف بحقوق العمل والمساواة والمرأة والإنسان إلا حديثاً. إن البنية العقلية الغربية بنية مغلقة ومحدودة، وتفترض الدونية في الآخر والصراع معه. ولعل الخطورة الكبرى في العقل الغربي هي خلوه التام من الأخلاق، فكل القيم الليبرالية الغربية هي أُطروحات داخلية تخص الرجل الأبيض، إن العقل الغربي يؤمن بالانتصار والازدهار والتقدم على حساب الآخر، واجتثاثه واستعباده، وتلك قيم داخلية مترسبة وعميقة التكوين في العقل الغربي. 
 
ولعل ظاهرة جون لوك في المزج بين المتناقضات دون تفسير واضح، سوى البراغماتية، التي تُبرر المحافظة على الثروات وموازين القوى لمراكز الهيمنة، تتجلى مظاهرها في السياسة والتعاطي الغربي مع دولنا، فالدعوة إلى الحرية والديمقراطية تتماشى مع الديكتاتورية والاستغلال، والديون المليارية ذات العوائد المتراكمة تتماشى مع المساعدات الإنسانية، ويخوض الغرب حروباً صليبية لإحلال الديمقراطية، بينما يمتنع عن دعم التحول الديمقراطي السلمي الذي تختاره الشعوب. 
 
فهو يقدم الحقوق حصرياً عن طريق الضغط والاحتجاج، وفقط عندما لا يكون هناك خيار آخر. إن العقل الغربي في تاريخه الحضاري المادي لا يفكر بطريقة "ما هو الشيء الصحيح لنفعله؟"، بل بطريقة "ما هو الشيء الضروري لنفعله للفوز بالصراع وتحقيق أكبر مكسب وأقل خسارة".
 
 
عربي بوست

مدار الساعة ـ نشر في 2021/11/14 الساعة 14:57