في الهوية الدستورية الجامعة (1)

مدار الساعة ـ نشر في 2021/11/02 الساعة 02:07

 يكثر الحديث هذه الأيام في الشارع السياسي عن مفهوم الهوية الوطنية الجامعة الذي جاء في تقرير اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، حيث فسره البعض على أنه يمثل إعادة إحياء فكرة «ثنائية الأردن وفلسطين» ضمن مشروع الحل النهائي للقضية الفلسطينية، والذي يعتقد البعض خاطئا أنه سيقوم على أساس التوطين وتكرار الهواجس القديمة بأن الأردن سيكون وطنا بديلا للأشقاء الفلسطينيين.

 
في المقابل، هناك من نظر لهذا المصطلح بإيجابية، وبأن ما يُقصد به هو أن يجتمع الأردنيون تحت لواء الهوية الوطنية التي ينتمي إليها الجميع وتقبل الكل دون إقصاء، بحيث تعلو راية المصلحة العليا على حساب الهويات الفرعية والمناطقية. فتكون الهوية الأردنية جامعة لثقافات المجتمعات المحلية والمدن والقرى الأردنية، والانطواء تحتها دلالة قوة على تماسك المجتمع، وإثراء حقيقي للنموذج الديمقراطي الذي يعمل على احتواء الاختلافات بين الأردنيين في آرائهم وأفكارهم وانتماءاتهم السياسية.
 
إن فض الاشتباك بين المتحاربين حول المرامي الحقيقية لمفهوم الهوية الوطنية الجامعة، يدعونا إلى تقديم البدائل في المترادفات اللغوية فقط، والتي قد تعطي قدرا من الراحة النفسية لمن يشكك في النوايا الإصلاحية للدولة الأردنية. ويمكن في هذا السياق الاسترشاد بأهم المبادئ المستحدثة التي ينادي فيها فقه القانون الدستوري، وهو مصطلح الهوية الدستورية الجامعة، حيث ينصرف هذا المفهوم إلى خلاصة التراكمات التاريخية لكل دولة، والتي يتم تضمينها في مقتضيات دستورية تتسم بالصلابة والديمومة، بشكل يقدم الاعتبارات التشريعية كما وردت في الدساتير الوطنية على أي تجاذبات سياسية مختلفة.
 
وقد بدأت ملامح الهوية الدستورية الجامعة بالظهور في القارة الأوروبية، وتحديدا كرد فعل على قرارات المحاكم الأوروبية التي رسخت أولوية القانون الأوروبي في التطبيق على القانون الوطني للدول الأعضاء، إذ جرى اعتبار القانون الداخلي في مرتبة أدنى من القانون الأوروبي، وهو ما اعتبره البعض انتقاصا من السيادة الوطنية للدول الأعضاء.
 
وبعد سنوات من النقاش الطويل، جرى التوصل إلى تفاهمات بين الدول الأوروبية يقوم على ضرورة المواءمة بين الهوية الأوروبية من جهة والهوية الدستورية الوطنية للدول الأعضاء من جهة أخرى، فجرى البدء بإضافة نصوص قانونية للاتفاقيات الأوروبية تلزم الاتحاد الأوروبي باحترام الهوية الدستورية لكل دولة عضو، أهمها اتفاقية امستردام لعام 1997 التي أكدت ضرورة احترام الهوية الوطنية والدستورية للدول الأعضاء، واتفاقية لشبونة لعام 2007 التي نصت على ضرورة احترام المساواة بين الدول الأعضاء، وكذا هويتهم الوطنية المتعلقة بالبنية الأساسية والدستورية.
 
وعلى صعيد القضاء الوطني للدول الأوروبية، كانت المحاكم الألمانية السباقة في التأكيد على أن الهوية الدستورية الألمانية لا يجب المساس بها لصالح الاتحاد الأوروبي، فقضت في العديد من أحكامها بأنه وعلى الرغم من أن النصوص الدستورية قد سمحت بنقل الاختصاصات المتعلقة بالسيادة إلى المؤسسات الأوروبية، وبأن القانون الأوروبي له أولوية في التطبيق على القانون الألماني، إلا أنه لا يُقبل أن يجري استغلال هذا النقل في الاختصاص للمس بالحقوق الأساسية المحددة في الدستور الوطني والتي تشكل الهوية الدستورية للدولة. فلا يجوز للاتحاد الأوروبي أن يستغل سلطته في التشريع ضد المصالح الوطنية، وعليه أن يحترم الهوية الدستورية الألمانية، وذلك تحت طائلة مراجعة عضوية ألمانيا في الاتحاد الأوروبي.
 
ولم يختلف الوضع كثيرا في فرنسا، حيث أكد المجلس الدستوري الفرنسي على وجوب احترام الهوية الدستورية الفرنسية، وذلك في معرض رقابته لدستورية القوانين الأوروبية. ففي حكم له يتعلق بالرقابة على قانون خاص بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة في عام 2006، قضى المجلس الدستوري بأنه يملك صلاحية مراقبة دستورية القوانين المتعلقة بنقل التوجيهات الأوروبية، إذا كانت هذه التشريعات تنطوي على مساس بالمبادئ المتعلقة بالهوية الدستورية الفرنسية.
 
laith@lawyer.comEmail
الرأي

مدار الساعة ـ نشر في 2021/11/02 الساعة 02:07