مسجد “الغيرة” بالمغرب.. عندما نافست مريم شقيقتها فاطمة الفهرية في بناء ثاني أكبر مسجد بفاس
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/31 الساعة 14:24
مدار الساعة - غيرة محمودة دفعت مريم الفهرية، شقيقة فاطمة الفهرية، مؤسِّسة القرويين، أقدم جامعة في العالم، إلى السير على نهج أختها وبناء مسجد في فاس، هو جامع الأندلس، وسمّاه البعض "مسجد الغيرة".
ويعد مسجد الأندلس أو الأندلسيين ثاني أقدم وأكبر مساجد فاس بعد جامع القرويين، بدأ بناؤه سنة 245 هـ/860م عاماً بعد انطلاق أعمال البناء في جامع القرويين، وهو من المباني التاريخية القليلة الباقية في مدينة فاس منذ فترة الأدارسة، أول دولة إسلامية تحكم المغرب الأقصى ومستقلة عن الشرق.
مسجد الغيرة.. الإرث الحي
ورثت الشقيقتان فاطمة الفهرية، الملقبة بأم البنين، وشقيقتها مريم ثروةً عن والدهما التاجر الثري محمد بن عبد الله الفهري، الذي قدم إلى فاس واستقر مع وفد من أهل بلده في عدوة القرويين، أيام الأمير يحيى بن محمد بن إدريس بن إدريس، خامس حكام الدولة الإدريسية.
فكرت فاطمة ومريم في استثمار هذا الإرث في أحد وجوه البر، فقررت فاطمة أم البنين بناء مسجد سمي جامع القرويين، وهو المسجد المعروف إلى اليوم، وصنفته اليونيسكو بوصفه أقدم جامعة في العالم.
وبعد انطلاق أشغال بناء جامع القرويين بعام، قررت مريم المضي في طريق شقيقتها ووضع حجر أساس مسجد آخر في عدوة الأندلس حمل نفس الاسم.
وكانت فاس على عهد الأدارسة منقسمة إلى منطقتين مستقلتين يفصل بينهما واد، عدوة القرويين، حيث استقر القادمون إلى المدينة الحديثة النشأة من القيروان، وعدوة الأندلس، حيث استقر الأندلسيون القادمون من مدن الأندلس.
وبعد أن كثر الواردون على فاس واتسعت المدينة، ضاق المسجدان الصغيران اللذان بُنيا فيها، وهما مسجدا الشرفاء والأشياخ، لذلك لقي قرار فاطمة ومريم بصرف ثروتهما في بناء مسجدين جديدين الترحيب والمساندة.
مكانة روحية وعلمية
تحتاج للوصول إلى الباب الكبير والمزخرف لجامع الأندلس عبور أزقة ضيقة في المدينة القديمة لفاس، وصعود عدة أدراج، ويتميز الباب الأثري الكبير بزخارف دقيقة عبارة عن أفاريز من الخشب المنقوش.
وتحيط بالمسجد الذي يحظى بمكانة روحية ومتميزة لدى ساكنة فاس، عدد من المنازل القديمة والمعالم التاريخية، مثل مدرسة الصهريج، ومدرسة السباعيين، وقد بُنيتا في القرن الرابع عشر.
وإذا كانت شهرة جامع القرويين وصلت العالمية، فإن أهمية ورمزية مسجد الأندلس كبيرة، والأدوار التي لعبها في تاريخ فاس لا تقل شأناً، فهو كان كلية مختصة بدراسة الفقه المالكي وتحليل كتبه في العهد المريني، واستمر التدريس فيه خلال العهد السعدي ثم العلوي، وجعله السلطان محمد الخامس، جد العاهل المغربي محمد السادس فرعاً تابعاً لجامعة القرويين، إلى أن توقفت الدراسة بالمساجد وانتقلت للمدارس والجامعات العصرية.
ترميم وإصلاح متواصل
وحسب كتاب "معلمة المغرب"، فقد أقيمت الصلاة لأول مرة بجامع القرويين سنة 321 هـ/933م، عندما أمر الوالي الفاطمي على فاس آنذاك حامد بن حمدان الحمداني بنقلها إليه من مسجد الأشياخ، وهو أول مسجد بُني في فاس، وزوده بأول منبر في تاريخه، على غرار ما قام به بالنسبة لجامع القرويين بالعدوة المقابلة.
ويقول مؤلف "جنى زهرة الآس في تاريخ مدينة فاس" إن صومعة المسجد شرع في بنائها سنة 345هـ/956م بأمر من والي الخليفة الأموي الأندلسي عبد الرحمن الناصر.
ويضيف أن المرابطين الذين زادوا في توسيع جامع القرويين وزينوه بزخارف من أعظم ما أنجزته الزخرفة الإسلامية في المغرب والأندلس، لم يولوا نفس الاهتمام لمسجد العدوة المجاور، إذ بقي على حالته الأولى، إلى أن تدارك الأمر رابع خلفاء الموحدين محمد الناصر، الذي وسع مساحته وأحدث به مقصورة للنساء، وبيتاً للوضوء، كما زوده بمدخل رئيسي مزخرف وجذاب، وقد امتدت الأشغال الموحدية هذه من سنة 1203م إلى سنة 1207م.
غير أنه لم يمر قرن على هذه الإصلاحات حتى تعرض المسجد للضرر، وتُفسر كتب التاريخ ذلك بكون مادة البناء التي استُعملت آنذاك، على عكس ما هو معروف لدى الموحدين من جودة المواد وتحكم في التقنيات، لم تكن من النوع الجيد.
ودفع تدهور وضع مسجد الأندلس ثاني ملوك الدولة المرينية، أبا يعقوب يوسف، إلى التدخل سنة 695 هـ/ 1295م، ومن أهم الزيادات المرينية بيت المؤقت والسقاية التي تزين الصحن، وكذا المكتبة التي أحدثت يسار المحراب، وفي العهد العلوي عرفت بعض مرافقه أعمال ترميم كثيرة، من أهمها ترميم سقاية الصحن في عهد المولى إسماعيل، وزخرفة المحراب التي يعتقد أنها تعود إلى القرن الثامن عشر.
تحفة معمارية وأثرية نادرة
ويقول الباحث في الأركيولوجيا هنري طيراس في دراسته "تأثير إفريقية على المعمار الإسلامي في المغرب قبل الموحدين"، إن صومعة مسجد الأندلس تنحدر مباشرة شكلاً وتصميماً من المنارات الأندلسية للقرن العاشر الميلادي، إلا أن غطاء القبة العليا هو من تأثير قيرواني.
وتبرز في هذين التأثيرين جوانب من تاريخ فاس، التي عرف عنها لمدة غير قصيرة خضوعها بالتناوب للحكم الفاطمي تارة والأندلسي تارة أخرى.
ويحتفظ متحف البطحاء بفاس ببعض القطع الأثرية النادرة التي مصدرها جامع الأندلس، ومن هذه التحف الأسطرلاب المسطح، وكان صنع خصيصاً لهذا المسجد، لضبط مواقيت الصلاة سنة 614 هجرية، ويحمل اسم صانعه (محمد بن الفتوح الخميري).
كما يضم المتحف منبر مسجد الأندلس، وهو ثاني أقدم منبر في المغرب العربي بعد منبر مسجد عقبة في القيروان، في تونس، وكان قد استعمل منبراً للجامع في الفترة ما بين 979م و1934م، وهو مصنوع من خشب الأرز المنحوت والمنقوش.
ويمثل جامع الأندلس (الغيرة) إلى جانب جامع القرويين علامات تميز مدينة فاس العريقة، ولا تكتمل زيارتها إلا بزيارة هذه الصرحين الدينيين اللذين يشهدان على النشأة الأولى للمدينة، وعلى تعاقُب دول عديدة عليها، تركت كل واحدة أثرَها في معمار المسجدين.
عربي بوست
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/31 الساعة 14:24