تغيير الحكومات وتعديلها

مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/30 الساعة 23:57
كتاب «قوانين الوزارة» الذي وضعه الماوردي كان في أصله رسالة وجهها إلى صديقه الوزير «ابن ماكولا»، وزير جلال الدولة ويقول الماوردي في بداية رسالته. «وأنت أيها الوزير-أمدك الله بتوفيقه- في منصب مختلف الأطراف، تدبر غيرك من الرعايا، وتتدبر بغيرك من الملوك. فأنت سائس مسوس، تقوم بسياسة رعيتك، وتنقاد لطاعة سلطانك». وقد وضع الماوردي شروطاً لمن يصبح وزيراً، فأولها يجب أن يكون مسلماً لأنه سيحكم بكتاب الله. وثانيها الرجولة الراشدة لأن المرأة في رأيه أضعف من أن تسوس. وثالثها عدم الانشغال بالتجارة تطبيقاً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام. «إذا تجرأ الراعي، أهْلكت الرعية». ورابعها الأمانة أي ترتيب الأعمال على قواعدها السليمة، وأن توضع الأمور في نصابها. وقد قسم الفقهاء المسلمون الوزارة إلى نوعين: احداهما وزارة التفويض: «ويطلق عليها أيضاً الوزارة المطلقة يكون فيها اختصاص الوزير شاملاً لكل أمور الدولة فوَضهُ رئيس الدولة بالتصرف فيها وفق ما يراه من مصلحة». وأما الثانية فهي وزارة التنفيذ ويطلق عليها وزارة المقيد بها، وينفذ الوزير فيها ما يؤمر به، ويرجع لرئيس الدولة في كل صغيرة وكبيرة». وإذا تذكرنا أن هذه الأفكار قد نشرت في نهاية القرن العاشر الميلادي، أي قبل أكثر من ألف سنة. لذلك فلا نعجب من استثناء الوزراء من غير المسلمين وغير الذكور. وحتى عهد قريب في العالم كان الوزراء قليلي العدد، وفي الدولة الاسلامية كان رأس الدولة يستخدم وزيراً واحداً. أما الآن، وقد تعدد الوزراء واكتسبت المرأة حقوقاً سياسية كثيرة، فلا عجب أن يصبح من بين هؤلاء وزراء مؤهلون. والغريب أنه خلال الفترة التي كتب فيها الماوردي، كان الوضع في الأندلس، خاصة في مدينة غرناطة، مختلفاً. فقد بدأ ملوك الطوائف. وفي عهد باديس بن حَبّوس المظفر عُيِّن صموئيل بن نغريلة اليهودي وزيراً. وتركه ابن حبوس يحكم بشكل مطلق. ولما استغل ابن نغريلة فرصة انشغال ابن حبوس بالحرب عين جباة من اليهود ما أثار حفيظة الرعية عليه. وجاء من بعده يوسف بن باديس والذي أصبح وزيراً. وحسب الرواية التاريخية، فإن يوسف بن نغريلة استمر على نهج أبيه. وحصلت مكائد دبرها يوسف، حين أدرك أن باديس بن حبوس قد تغير عليه فاتصل بأعداء بن حبوس. واشتعلت الثورة ضد يوسف عام 459هجرية، وقتل فيها ومعه عدد كبير من الجالية اليهودية. وفي العصر العثماني تولى عدد كبير منصب الباب العالي، أو الوزير الأول من غير المسلمين. ولعل أشهر هؤلاء أسرة كوبرولو اليونانية الأصل والتي حكمت بقوة منصبَ الصدر الأعظم (رئيس الوزراء بلغة اليوم) من الفترة 1656-1703. ومن الطريف أن منصب الصدر الأعظم وضع في الفترة الأولى من قانون الدولة «قانون نامه» الذي وضعه السلطان محمد الثاني الفاتح والذي يقول نصها: 'ليعلم أولاً أن الصدر الأعظم هو رئيس الوزراء والأمراء. إنه أعظمهم جميعاً، وصاحب الصلاحيات المطلقة في إدارة شؤون الدولة. أما القَيِّمُ على املاكي فهو الدفتردار. غير أن الصدر الأعظم هو رئيسه. وللصدر الأعظم وهو في حركاته وسكناته، وفي قيامه وقعوده حق التقدم على جميع موظفي الدولة». وكان الصدر الأعظم يحمل خاتم الدولة وحده، وهذا ما ميزه عن باقي الوزراء. وفي بداية عهد الدولة الأردنية، كان رئيس مجلس النظار يتمتع بصلاحيات عالية، ولكن تعيينه وعزله أو قبول استقالته بقيت في يد الأمير. ولكن الأمير لم يكن يتدخل في التفاصيل. وحتى عند وضع «قانون الأساس» عام 1928، فقد أُنيطت ادارة الدولة بمجلس النظار الذي كان أيضاً جزءاً من البرلمان أو مجلس المستشارين. فهو يعمل في سلطتين التنفيذية والتشريعية. ولما جاء دستور عام 1946، تبدلت النصوص وأخذ مبدأ فصل السلطات يتشكل بقدر واضح. ولعل أهم ما في موضوع الفصل هو استقلالية السلطة القضائية واحترامها. ولما جاء دستور عام 1952، اكد على فصل السلطات فصلاً واضحاً، وجعلت الملك رئيساً للدولة يعمل من خلال السلطة التنفيذية ومع السلطة التشريعية وينفذ الأحكام بالسلطة القضائية. وفي عهد الملك عبدالله المؤسس، والحسين الباني حتى عام 1957، كان الملك القائد الأعلى للقوات المسلحة. وهو من يعين رئيس الوزراء، وبناء على توصية الرئيس تصدر ارادة ملكية بالوزراء. ولكن قرار الملك لا يجعل الرئيس ثابتاً في منصبه إلا إذا صوَّت مجلس النواب بالأغلبية بسحب الثقة. ومن هنا، فإن مجلس النواب تمتع بصلاحية عدم إقرار أمر قرره الملك. وأما أحكام السلطة القضائية فلا اعتراض عليها، والأمر الوحيد الذي يتطلب توشيحاً بالارادة الملكية هو حكم الاعدام، أو إلغاؤه إذا أتى بذلك توصية من مجلس الوزراء بتخفيف عقوبة الاعدام إلى الحبس مع الأشغال الشاقة المؤبدة. وهكذا، رأينا في بداية الدولة وحتى عام 1957، احتراماً واضحاً لدور الملك، ورئيس الوزراء، والوزراء، والسلطة التنفيذية وعلاقتها المتوازنة والمستقلة عن السلطتين القضائية والتشريعية. وعندما دخل الأردن في فترة تجميد الحياة البرلمانية بسبب محاولات الانقلاب، والعنف السياسي والانقلابات العسكرية في دول المحيط العربي، وازدياد حدة التنافس بين الدول العظمى للهيمنة على المنطقة، وجد الملك نفسه مضطراً لممارسة صلاحية واسعة تعطيه المرونة الكافية لكي يتخذ المسارات التي تنجو بالأردن من الفوضى السياسية والعسكرية في المنطقة، والتي مرت بحرب السويس، وتعريب الجيش العربي، والخروج من منطقة الاسترليني، واعتداءات اسرائيل المستمرة على الضفة الغربية، وحرب عام 1967، وأحداث عامي 1970 وَ 1971، ومحاولات اغتيال الملك عدا عن اغتيال جده الشهيد في القدس، واغتيال رئيس الوزراء هزاع المجالي. وعدا عن حرب 1973، وهزة النفط، وكامب ديفيد وخروج مصر عن الصف العربي. ومن بعدها الحرب الدامية الأهلية في لبنان، والحرب العراقية الايرانية، وحرب الخليج الأولى، واغتيال أنور السادات، وإنشاء مجلس التعاون الخليجي، والخلافات مع دول الخليج، وأزمة المديونية، ومفاوضات السلام، ووفاة الراحل العظيم الحسين بن طلال طيب الله ذكراه. ولم يكد الملك عبدالله الثاني المعزز يستلم الراية حتى حصل غزو العراق عام 2003، ودخول المنطقة العربية في حالة انقسام حادة، وتغلغل النظام الايراني في عدد من الأقطار العربية، وزيادة قوة تركيا كدولة اقليمية نافذة، وحصول الأزمة الاقتصادية العالمية، ثم أحداث الربيع العربي، فالارهاب، فالحروب والفتن. فهوان العرب وخلخلة نظامهم وضعف مؤسساتهم، ومجيء ترمب، وما نتج عن محاولاته السلمية الاستسلامية التي رفضها الاردن وقاومها، وحالة الشرذمة العربية، وتفرق الدول ذات القدرات المالية. لقد كان نفسي ينقطع وأنا أسرد كل تلك الأحداث التي مررنا بها. ولذلك لم يكن امام القيادة الأردنية من مناص إلا أن تدعم الجيش وقوات الأمن، وأن تحمي نفسها من الأعداء في الداخل والخارج. ومن هنا اكتسبت مؤسسة العرش قوة، وكذلك صار للأجهزة الأمنية سلطات تحكم تنفيذها لمهامها ما جعلها متدخلة في أعمال الحكومة. وبدا وكأن صلاحيات رئيس الوزراء قد انكمشت، وصلاحيات الوزراء قد انحصرت في قطاعاتهم. وخرج الملك بعد ذلك بالأوراق النقاشية السبع، والتي قدمها على مدى الفترة من 23/11/2016 وحتى 16/4/2017، ومهد فيها للعودة إلى الحياة الديمقراطية الدستورية. وقد لقيت الأوراق نقاشاً وجدلاً. وقد اجريت في هذه الفترة تجارب على قوانين تنبع من الأوراق النقاشية. ومن هذه على سبيل المثال لا الحصر قانون اللامركزية، ولكن التجربة اثبتت أن القانون لم يكن الأفضل. وكذلك ادخلنا تعديلات واسعة فاقت الأربعين على دستور عام 1952 عندما شكلت لجنة لهذه الغاية برئاسة دولة السيد طاهر المصري. وقد تبنى مجلس الأمة كل هذه المقترحات بالتعديلات الدستورية. ولما رأى الملك أن الوقت قد حان من اجل احداث اصلاح شامل يقوم في عناصره الأساسية على المرتكزات التي طورها الملك نفسه في الأوراق النقاشية السبع، كان لا بد بعد السنوات الخمس التي نوقشت فيها الأوراق أن يأخذ النقاش مسيرته نحو التجسيد. وبعد مناقشات بين مختلف الأطراف التي سعت لشرف انجاز هذه المسيرة الاصلاحية، اختار جلالة الملك رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي مع اثنين وتسعين من زملائه مثلوا مختلف الاطياف السياسية والمكونات الرئيسية للشعب الأردني. وبعد مئة يوم من النضال والكفاح، تقدمت اللجنة بنتائج اعمالها، ووضعتها بين يدي الملك. ومن ثَمَّ وصلت للحكومة التي ارسلتها لأغراض التحرير إلى ديوان التشريع فيها، فحسن عليها وجَوَّد لغتها، وأبقى المضمون كما أتى إليها من اللجنة الملكية. وسوف تتقيد الحكومة بنصوص قانوني الانتخابات والأحزاب، وكذلك بالمقترحات المتعلقة بالتعديلات الدستورية المطلوبة والمنسجمة مع القانونين مثل ادخال نص بعدم جواز الجمع بين الوزارة والنيابة أو العينية وغيرها. ولكن رئيس الوزراء د. بشر الخصاونة ألمح إلى أن الحكومة سوف تدخل نصاً اضافياً لتعديل دستوري يجيز انشاء مجلس أمن وطني يرأسه الملك، ويكون له مهام محددة. وهكذا يصبح منصب رئيس الوزراء أكثر وضوحاً. فالملك بصفته القائد الأعلى والمسؤول عن الأمن لن يتدخل في أعمال الحكومة عند حدوث طوارئ أو ظروف قاهرة، بل سيعمل من خلال هذا المجلس لمواجهة الطوارئ. وكذلك سيكون الوزراء متمتعين بمسؤوليتين: الأولى ادارة قطاعاتهم ومسؤولياتهم المباشرة في وزاراتهم. والثانية هي المشاركة في صنع السياسة من خلال مجلس الوزراء ولجانه. وهكذا، ندخل عصراً جديداً من مواطنين فاعلين أقوياء يستشعرون أهمية ما يقومون به وبتأدية ما عليهم من واجبات وبالحصول على ما لهم من حقوق ما يُمكِّن من خلق أحزاب فاعلة تضمن لهم ذلك وتكون صوتَهم الجمعي. واذا صارت الأحزاب فاعلة، حصلنا على مجلس نواب فاعل. وحكومات فاعلة. ويكون الشعب هو الذي اختارهم. وعندما يختار الملك شخص رئيس الوزراء، فسيأخذ بعين الاعتبار حينها رأي الناس الذين عبروا عنه من خلال صناديق الاقتراع، ومن الذي يمثلهم. فيختار الملك بانسجام مع اختيار غالبية الشعب. وهكذا يتولى الناس ادارة شؤونهم. ويحددون خياراتهم. نحن على أبواب عتبة تغيير كبيرة. وهكذا ستنتهي الأيام التي كنا نجلس فيها ساعات نتساءل إن كان سيحصل تغيير حكومي أم تعديل. ونطرح أسماء من نعتقد أنهم سيفوزون برئاسة الوزراء، وينتهي التجوال على النافذين من قبل الراغبين في الاستوزار، وسوف نتذكر هذه الأيام بنوع من الحنين. خاصة أولئك الذين لم يعرفوا طريقاً آخر غير ذلك. سيشعر كثيرون من كبار السن بالغربة. وهم يرون أن نظام التنافس، والكوتا، والمناطقية، والعشائرية ونظام الاستعراض للحصول على منصب قد بدأت تتلاشى، وتغيرت شروط اللعبة كما عرفناها. وسيبرز أناس جدد بلغة وأساليب جديدة، وسوف يحن كبار السن أمثالي للأيام الخوالي. ولكننا يجب أن نعترف أن الأردن بلد ديناميكي ويعلم أهله أن التغيير سنة الحياة، وأن من لا يغير اسلوبه سوف يتغير. وإذا أردنا للأمور أن تبقى على حالها دون مفاجآت فعلى الأشياء أن تتغير. الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/30 الساعة 23:57