الأردن

مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/25 الساعة 23:54
أنا أحب الأردن كثيرا.. تعرفت عليه في الكرك حين كنت طفلا.. وسأخبركم كيف عرفته كيف لمحته وكيف عشقته...

في البدايات, كنت أراه في ذاك الهدب المزروع على أطراف شماغ أبي.. كنت أسمعه في الموسيقى العسكرية التي تندلع، حين يقومون بدفن ضابط من العشيرة توفي.. بعد خدمة طويلة, وأمشي معهم في الجنازة.. صوت الطبل كان صداه في قلبي.. ويهز روحي من الداخل..

الأردن أيضا لمحته، في كف أمي وهي تخرج بقايا شوكة علقت في إصبعي.. وتلثم بفمها وجعي.. لمحته أيضا, في اللكنة.. في اللقمة وهي تطعمني اياها في (المدرقة) السوداء التي ارتدتها.. وفي سجادة الصلاة.

هل يعرف الأردن؟ هذا غباء كأنك تقول لأحدهم عرف لي قلبك؟ الأردن.. كان قلبي الذي زرعته على سفح شيحان ونبت مثل النخل.. كلما هب الهواء وقام بجعل الساق تميل.. عاد مستقيما وعاند الريح، زرعته هناك وقلت للأرض احميه وارويه.. وكوني حنونة عليه..

الأردن عرفته أيضا, في هدير (الكونتنتال) والفلدة العسكرية, في المسدس الذي سكن الخاصرة ولم يغادر, في الملامح البدوية... عرفته أيضا في رمش صبية مرت من أمامي, وجاء الهواء صاخبا.. حين داهم (جديلتها) طارت (الشبرة) التي ترتديها.. مع الريح, والتفتت خلفها تبحث عنها.. وركضت مسرعا أبحث.. هي غادرت وأنا بقيت مستمرا في البحث، وقد وجدتها على ساق شجرة.. يومها شممت رائحتها, في الكرك وحدها الجدائل مثل شجر اللوز. لكنها تختلف أن زهرها ينبت طوال العام...

الأردن.. عرفته أيضا في وشم جدتي، في رائحة القهوة صباحا.. في البنت التي مرت من أمامنا حين كنا صبية, وأخذنا جمالها إلى حيث العصافير تحلق.. وتمنينا لو أننا نكبر بسرعة، وهي تبقى بذات العمر.. عل قلبها يمنحنا القليل من الحب.. والحب وحده كان يكفيني لكي أكون أردنيا..

الأردن ليس بالقانون الذي يفسر, ولا هوية تحلل أو تحرم.. ليس بالمنصب أو الوزارة.. الأردن ليس بالقرار.. هو تلك الرسالة التي كتبتها في أول العمر وخفت أن أرسلها إلى ليلى.. حتى لايفضح حبي.. وخزنتها في وريدي وسرت مع الدم.. ليلى.

الأردن هو التلة التي أمضينا عليها صبانا، هو رشفة البابونج.. وطعم الزعتر في الصباحات الندية, ورائحة الشاي.. والدفتر الجديد الذي اشتريته, وكان أول جملة كتبتها فيه (بسم الله الرحمن الرحيم)... هو الشوق الذي يأتيك وأنت في المنام.. للذين رحلوا وتركوا خلفهم الحب, هو الزمن الممتد بين الأزل والأبد... هو تلك المنارة التي تغازل السفن.. من قال إن المنارات بها تهتدي السفن لا يعرف فن الليل وفن العشق وفن الوطن... المنارات خلقت لغزل السفن.. لغزل الحبيبات العائدات من رحلة طويلة...

الأردن على الأقل بالرغم من كل جنوني وصخبي.. ما زلت اعشقه, هو الذي علمني الحرف والجنون والحب.. وأدار لي الحياة مثلما يدار قرص الموسيقى على الآلة القديمة..

الأردن مشكلتنا ليست في من يعرفونه ويعشقونه.. ويعتبرونه الحياة والدم الذي يسري في العروق, مشكلتنا في من يدعون أنهم يعرفونه ويعشقونه.. ويعتبرونه الدم الذي يسري في العروق..

Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي
  • الأردن
  • الكرك
  • شيحان
  • مال
  • منح
  • قانون
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/25 الساعة 23:54