يسألونك ماذا أُحلَّ لهم
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/06 الساعة 17:04
مدار الساعة - من آيات الأحكام المتعلقة بما أباحه الله لعباده من الأطعمة ما جاء في قوله سبحانه: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} (المائدة:4) نقف في هذه السطور مع أهم الأحكام المستفادة من هذه الآية الكريمة، وذلك من خلال الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: {الطيبات} ضد الخبيثات، والطيب يطلق على معنيين: أحدهما: ما يلائم النفس ويلذها. والثاني: ما أحلَّ الله. والمراد هنا كل ما يُستلذ أكله، ويستطيبه أصحاب الطبائع السليمة، مما أحله الله لعباده، أو لم يرد نص بتحريمه.
الوقفة الثانية: أحل الله الكريم لنا في هذه الآية صيد البر بإمساك الجوارح المـُكَلَّبة. واتفق العلماء على أن التعليم المذكور في الآية للاشتراط والتقييد، فيحل صيد الجوارح المـُعَلَّمة، ويحرم صيد غير المـُعلَّم، إلا أن يدرك ذكاته.
الوقفة الثالثة: قوله سبحانه {من الجوارح مكلبين} {الجوارح} معناه الكواسب، أي: الكلاب، وأيضاً جوارح الحيوان والطير، يقال: جرح إذا كسب، ومنه قوله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام:60) فكل كاسب جارح، إذا كسب كيفما كان، وممن كان. ومعنى (مُكَلِّبِينَ) مُعَلِّم الكلاب كيفية الاصطياد، وخُص مُعَلِّم الكلاب، وإن كان مُعَلِّم سائر الجوارح مثله؛ لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. و(التكليب) هو التعليم. قال القرطبي: "الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علَّمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب، والجوارح، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل".
الوقفة الرابعة: اختلف أهل العلم في اختصاص الجوارح بالكلاب؛ فمذهب جمهور أهل العلم أن كلاً من جوارح الحيوان والطير المـُعَلَّم يجوز الاصطياد به، وقصر فريق من العلماء جواز الاصطياد بالجوارح من الكلاب فحسب. قال القرطبي: "إن كان الذي يصاد به غير كلب، كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما في الطير، فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب".
الوقفة الخامسة: عامة أهل العلم يرون جواز صيد كل كلب مُعَلَّم، وذهب بعضهم إلى منع صيد الكلب الأسود، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) أخرجه مسلم، قال القِنَّوجي: "والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود من الكلاب وغيره، وبين الطير وغيره".
الوقفة السادسة: أجمع المسلمون على مشروعية التسمية عند الإرسال على الصيد، واختلفوا هل ذلك على الوجوب، أو على الندب؟ فقال أهل الظاهر بوجوبها مطلقاً، وهو الصحيح عند أحمد في صيد الجوارح دون السهم، وذهب الشافعي ومالك في إحدى الروايات باستحبابها مطلقاً، وقال مالك في روايته الثانية، وأبو حنيفة: إن تركها سهواً، حلَّت الذبيحة والصيد، وإن تركها عمداً، فلا تحلُّ.
الوقفة السابعة: لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة، وهذا بالاتفاق؛ لقوله عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه، فَكُلْ) رواه البخاري ومسلم، وهذا يقتضي النية والتسمية، فلو قصد مع ذلك اللهو، فكرهه مالك. فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام؛ لأنه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة.
الوقفة الثامنة: قوله سبحانه: {تعلمونهن مما علمكم الله} لا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم، وهما: أن يأتمر إذا أُمر، وينزجر إذا زُجِر، لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب، وما في معناها من سباع الوحوش والطير. وشرط جمهور العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي: المـُعَلَّم هو الذي إذا أغراه صاحبه بالصيد اندفع إليه، وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه.
الوقفة التاسعة: قوله سبحانه: {فكلوا مما أمسكن عليكم} اشترط جمهور أهل العلم لصحة أكل صيد الجارح من الحيوان أن لا يأكل منه، فإن أكل منه، لم يؤكل ما بقي؛ لأنه أمسك على نفسه، ولم يمسك على صاحبه، ولم يشترطوا ذلك في الطيور، بل يؤكل ما أكلت منه. وقال المالكية: إذا أكل الجارح، أُكل ما بقي من الصيد، وإن لم يبق إلا بضعة من لحمه.
الوقفة العاشرة: قال القرطبي: "أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود، وعلَّمه مسلم، ولم يأكل من صيده الذي صاده، أو أثَّر فيه بجرح، أو تنييب، وصاد به مسلم، وذكر الله عند إرساله صيده صحيح، يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم، شرط من هذه الشروط دخل الخلاف".
الوقفة الحادية عشرة: إن وجد الصائد مع كلبه كلباً آخر، فهو محمول على أنه غير مُرْسَل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه. فأما لو أرسله صائد آخر، فاشترك الكلبان في الصيد، فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه.
الوقفة الثانية عشرة: لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير جرح لم يؤكل؛ لأنه مات خنقاً فأشبه أن يُذبح بسكين كالَّة، فيموت في الذبح قبل أن يُفْرَى حلقه. ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه، فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصراً في الذكاة؛ لأنه قد صار مقدوراً على ذبحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه. ولو أخذه ثم مات قبل أن يُخْرِج السكين، أو تناولها وهي معه جاز أكله، ولو لم تكن السكين معه، فتشاغل بطلبها لم تؤكل.
الوقفة الثالثة عشرة: اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال: الأول: يؤكل، سواء قتله السهم أو الكلب. الثاني: لا يؤكل شي من ذلك إذا غاب؛ وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام. الثالث: الفرق بين السهم فيؤكل، وبين الكلب فلا يؤكل، ووجه الفرق أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يُشكل، والجارح على جهات متعددة.
الوقفة الرابعة عشرة: دلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة، وزادت الحرث والماشية، وقد كان أول الإسلام أَمْرٌ بقتل الكلاب؛ روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان).
مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/06 الساعة 17:04