ملوك غير متوجين.. دليلك لمعرفة تاريخ البنوك المركزية وكيف تعمل؟

مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/03 الساعة 13:52

مدار الساعة - البنك المركزي مؤسسةٌ موجودة في كلّ بلد تقريبًا، تؤثّر في خياراتنا اليومية وفي مستقبلنا الاقتصادي، وتؤثّر على الخريجين الجدد مثلما تؤثّر على المتقاعدين، وعلى المواطنين أهل البلد، وعلى المستثمرين الأجانب، ونحو البنك المركزي تنصبّ الأنظار مع كل أزمة اقتصادية أو بوادر انهيار، ويؤمّل الجميع منه أن يكون صمام الأمان للاقتصاد، وأن يطمئن الجميع بأنّ المستقبل الاقتصادي على الأقل لن يتجه إلى الأسوأ.

 
ولكن هل تساءلت يومًا عن سبب وجود البنك المركزي أصلًا؟ ماذا يفعل البنك؟ وكيف ينظّم الاقتصاد؟ وما هي أدواته؟ ومنذ متى ظهرت فكرة البنوك المركزية؟ وكيف تختلف البنوك المركزية من دولةٍ لأخرى؟
 
تاريخ البنوك المركزية.. الدين الحكومي وتمويل الحروب
في القرن السابع عشر ظهرت النواة الأولى للبنوك المركزية، وتأسس أول بنك مركزي في السويد عام 1668، ليتبعه بعدها بعقود قليلة تأسيس أشهر البنوك المركزية في تلك المرحلة، بنك إنجلترا، أُسست هذه البنوك لتمويل الحكومة وشراء دينها، وتنظيم القطاع التجاري أحيانًا.
 
وتعاملت البنوك المركزية أحيانًا مع الأزمات المالية والاقتصادية، وخصوصًا أزمات العملة، فضلًا عن انخراطها في العمليات المصرفية، فبحكم حيازتها لودائع ضخمة من البنوك الأخرى، أصبحت قادرةً على إقراض أي بنك وقت الضرورة، لتعمل لاحقًا «ملجئًا أخيرًا للبنوك عند الأزمات Lender of Last Resort»، ولتُنظم التعاملات المالية بين البنوك، بحكم علاقاتها الواسعة بها.
 
ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن البنوك المركزية احتكرت إصدار العملات الورقية في الاقتصاد، لتصبح بذلك الجهة الوحيدة التي تملك حقّ عرض النقد في كل بلد.
 
ومثلما ارتبطت نشأة البنوك المركزية بحلّ مشكلة الدَيْن الحكومي، تطوَّرت البنوك المركزية بفعل الأزمات الاقتصادية التي طبعت تاريخ الرأسمالية الحديثة، ومن أهم خصائص هذه الأزمات فقدان الثقة الائتمانية بالبنوك؛ ما يعني عدم قدرة التُجّار ومختلف القطاعات الاقتصادية على الوصول لمصادر التمويل اللازمة لتشغيل أعمالهم.
 
 
 
ففي بداية القرن التاسع عشر، ضربت أزمةٌ اقتصادية عنيفة الاقتصاد البريطاني، وُصف خلالها الوضع حينها بأن البلاد على حافة العودة إلى نظام المقايضة بسبب انعدام الثقة بالنظام المالي، فتقرّر حينها جعل بنك إنجلترا (البنك المركزي حاليًا) مصدرًا أخيرًا للدَيْن وقت الأزمات، ليُقرض البنوك الواقعة في الأزمة دون مقابل، لتتمكن البنوك من الاستمرار.
 
وتبنّت عدة دول أوروبية جوانب مختلفة من النموذج البريطاني، وحين أقرت بريطانيا نظام قاعدة الذهب، اتبعت الكثير من الدول نفس النظام، لتُثبت سعر عملتها إلى الذهب؛ الأمر الذي لعب دورًا مهمًا في تسهيل التجارة العالمية.
 
إلا أن إحدى الدول الكبرى تأخرت عمليًا في تأسيس بنكها المركزي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ استقلالها عن البريطانيين طغى على الرأي العام في الولايات شعور بأهمية الاستقلالية المالية لكل ولاية، ومعارضة تركّز القوة في يد حكومة فيدرالية؛ ما أخَّر تأسيس البنك المركزي الأمريكي، وبالرغم من محاولة تأسيس أول بنك مركزي عام 1791 ليحل محل بنوك الولايات، فإنّ البنك الأول فشل في إنشاء قاعدة مصرفية وائتمانية مركزية، لتعود بنوك الولايات إلى الواجهة.
 
وفي عام 1816 قرر الكونجرس إنشاء بنك مركزي ثانٍ دام حتى 1836، ثم ألغاه الرئيس الأمريكي أندرو جونسون بحجة عدم دستوريته، لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية فترة من حرية القطاع المصرفي، وإن تخللها محاولات تنظيمية عن طريق القوانين الفيدرالية.
 
ولكن في بداية القرن العشرين، وبفعل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي سبَّبها انهيار بعض البنوك، لعدم إبقائها على نقد كافٍ للوفاء باحتياجات الزبائن عند ارتفاع طلبهم للنقد؛ الأمر الذي أخافَ زبائن بنوك أخرى لا تعاني من الأزمة، ودفعهم لزيادة طلبهم على ودائعهم من البنوك، لتقع هي في الأزمة أيضًا.
 
وفي عام 1907 تسبب هذا الذعر في انهيار الكثير من البنوك الأمريكية، ولم تنتهِ الأزمة إلا بقيام أحد أهم المصرفيين الأمريكيين الكبار، جون مورجان، بقيادة عملية إقراض للبنوك لإنهاء الأزمة، ليلعب الرجل دور الملجأ الأخير لإقراض البنوك، وكان لهذه الأزمة أثر كبير في تغيير الرأي العام نحو ضرورة تأسيس بنك مركزي أمريكي، ليلعب دور المقرض الأخير ومنظم القطاع المصرفي، فضلًا عن مهام السياسة النقدية الأخرى.
 
الطبيعة المُختلفة للسياسة الأمريكية فرضت نفسها على عملية تأسيس بنك مركزي، فطورت الولايات المتحدة النظام الفيدرالي لتأسيس بنك فيدرالي أمريكي، ونظرًا لخوف الولايات المختلفة من تركز القوة المالية في الشرق وتحديدًا في نيويورك والعاصمة واشنطن، فإن البنك الفدرالي لا يشبه البنوك المركزية الأخرى بكونها مؤسسة واحدة مركزية، وإنما يتكون من 12 بنكًا مركزيًا موزعين على الولايات، وبمجلس إدارة ينسق عمل هذه البنوك.
 
وبفعل الخوف من تبعية البنك المركزي للحكومة، أصبح تمويله مستقلًا ماليًا عن الحكومة بشكل كامل، ويأتي من القطاع الخاص حصرًا، ولكون ذلك يتناقض مع وظائف البنك المركزي ومهامه تجاه الدولة، فإن البنك المركزي يخضع للمساءلة أمام مجلسي التشريع الأمريكيين في تنفيذه لمهامه، بينما يقوم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بتعيين أعضاء مجلس الفيدرالي بموافقة المجلس التشريعي، ويبقون في الخدمة لمدة 14 عامًا، ويعين منهم رئيس ونائب رئيس للبنك الفيدرالي لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد.
 
بداية عصر السيادة الأمريكية
اتبعت أغلب البنوك المركزية في العالم نظام قاعدة الذهب حتى انهياره عام 1914، وعملت على التنسيق فيما بينها للحفاظ على استقرار سعر العملات وبقائها مثبتة للذهب، ويرتكز هذا النظام على قاعدة إمكان تحويل العملة الورقية إلى ذهب وبالعكس، ضمن سعر عملة محدد من قبل كل دولة، واستقرار مثل هذه الأسعار يعني استقرار التجارة عالميًا، إلا أن قيام الحرب العالمية الأولى أنهى هذا النظام، وذلك بسبب خوف كل دولة من وصول الذهب عن طريق التجارة إلى أعدائها، فمنعت الدول تحويل العملات الورقية إلى ذهب، واستخدمت احتياطيات البنوك المركزية في تمويل حروبها.
 
قبل ذلك كانت الدول عندما تعاني من نقص الذهب لديها ترفع سعر الفائدة؛ ما يعني ارتفاع عائد الاستثمار في البلد، وتدفق الذهب من قبل المستثمرين الأجانب عليها لمعالجة نقص الذهب، مبقين بذلك النظام قائمًا والعُملات مستقرة.
 
مبنى إيكلز، المبنى الأساسي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومنه يعمل مجلس إدارته
 
واستمرت الأزمات الاقتصادية تعصف بالدول، نتيجةً للحربين العالميتين وتبعاتهما، وليس بسبب فشل السياسات الاقتصادية، بل إن السياسات الاقتصادية كانت تابعة عمليًا للسياسة العامة للدول ولإدارتها للحرب، لتظهر بعد الحرب الثانية الحاجة المُلحة إلى نظام نقدي عالمي يحكم الجميع، فظهر نظام «بريتون – وودز».
 
ووضع النظام الجديد الولايات المتحدة الأمريكية في موضع المركز من الاقتصاد العالمي، إذ ثَبَّت سعر الدولار للذهب، وثبَّت سعر العملات الباقية للدولار، مع قدرة كل دولة على التحويل من الذهب إلى الدولار وبالعكس، إلا أن النظام فشلَ في النهاية نتيجة للحروب الأمريكية المتكررة، بدءًا من كوريا (1950 – 1953) وانتهاءً بفيتنام (1955 – 1975)، لتُنهي الولايات المتحدة الأمريكية النظام النقدي السابق، وليدخل العالم عصر تعويم سعر العملة المستمر حتى اليوم.
 
يمكنك الضغط (هنا) لقراءة تقرير يشرحُ كيف نشأت العملات والمال، ويشرح الأنظمة النقدية الدولية المختلفة: نظام قاعدة الذهب، ونظام «بريتون – وودز»، ونظام «البترو-دولار».
 
تتبنى جميع الدول نوعين من السياسات للتأثير في اقتصادها، أولها سياسة نقدية، والثانية مالية، وتمثل الأولى، توجهات البنوك المركزية في التأثير على كمية النقود المعروضة في الاقتصاد، وما يتعلق بذلك من أسعار الفائدة، ومعدلات التضخم، وغيرها من أدوار ومهمات البنوك المركزية، والتي تتفاوت بين بنك وآخر تبعًا لحال الدولة، بينما تتمثل السياسة المالية في توجهات الدولة وقوانينها في فرض الضرائب والرسوم ومختلف أنواع الإيرادات، وسُبُل صرف هذه الموارد في الموازنة العامة، وعلاقة كل ذلك بالناتج المحلي الإجمالي للبلد.
 
ولتوضيح العلاقة بين السياسة المالية والإنتاج الاقتصادي الحقيقي، وبين السياسة النقدية التي قد تعني في بعض الأحيان «خلق المال – Money Creation» من العدم، من قبل مؤسسات غير منتخبة من قبل الناس، وهي مكونة من النخبة المالية في البلاد، لنلقِ نظرة سريعة على بعض المؤشرات في الولايات المتحدة، فحين كانت إيرادات البلاد تبلغ 3420 مليار دولار في عام 2020، ضخ الفيدرالي الأمريكي، اسم البنك المركزي الأمريكي، قرابةَ 3200 مليار دولار بين نهاية عام 2019 وبداية عام 2020، عن طريق «سياسة التسهيل الكمي».
 
وهي تعني فعليًا طباعة المال من العدم وضخّه في السوق، عن طريق شراء السندات الحكومية التي تملكها المؤسسات المالية في أمريكا، لتصبح هذه الأموال المضخوخة مدورةً في السوق، لتدعم بذلك الاقتصاد وتزيد من قدرته على مواجهة الأزمات المالية، مثل الأزمة الحالية بسبب جائحة كورونا، بزيادة المال في أيدي الناس وداخل الاقتصاد، بعد أن تُعيد المؤسسات المالية تدويره على شكل قروض واستثمارات.
 
وبالإضافة للقدرة العالية على خلق المال من العدم، تلعب البنوك المركزية الدور الرئيسيّ في تحديد أسعار مختلف السلع والمنتجات في الاقتصاد، وتحديد معدلات الفائدة، وهو محدّدٌ رئيس للاستثمار والاستهلاك في الاقتصاد، فضلًا عن دورها المهم في مواجهة الأزمات المالية وتسيير الدورة الاقتصادية.
 
لم تختفِ الأزمات الاقتصادية من تاريخ الرأسمالية في العصر الحديث، بل ربما استكملت مجراها التاريخي حتى اليوم، فلم ينفك العالم يشهد أزمات اقتصادية تضرب بلدانًا بعينها أو منطقة محددة أو العالم بأكمله، وصولًا لأزمة الرهن العقاري في عامي 2007 – 2008، وكذلك الأزمة الحالية الناتجة عن جائحة كورونا.
 
لكن أدوار ووظائف البنوك المركزية اختلفت عن السابق كثيرًا، وتختلف بين دولة وأخرى، وإن اتبعت الدول اتجاهات متشابهة يمكن وضعها ضمن تصنيفات واحدة تكون فيها الدول الغربية في مرتبة متشابهة، بينما تختلف مقاربات الدول الأخرى تبعًا لظروفها المحلية.
 
لم تكن السياسة النقدية بنفس أهمية السياسة المالية في الاقتصاد حتى وقت متأخر، فبعد الحرب العالمية الثانية، اتبع العالم النظريات «الكينزية – Keynesian economics» في الاقتصاد، وفي التعامل مع الأزمات الاقتصادية.
 
تعود هذه النظريات إلى جون مينارد كينز، وهو اقتصادي بريطاني ساهمت نظرياته في خروج العالم من أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929، التي سبّبتها الزيادة الكبيرة للعرض مقابل الطلب؛ ما أدّى إلى كساد عميق، عجزت النظريات الاقتصادية السائدة عن حلّه، فقد نصّت على ضرورة ترك السوق ليصحح نفسه بنفسه.
 
فاقترح كينز أن تزيد الدولة من الإنفاق، ولو اقتراضًا أو في مشاريع ليس لها جدوى استثمارية كبيرة، لرفع الطلب وتصحيح وضع الاقتصاد، وإيقاف عجلة الأزمة الاقتصادية التي تسببت بتوقف الأعمال وفقدان الكثير من الوظائف، متسببةً بتخفيض القدرة الشرائية في الاقتصاد؛ ما عنى انخفاض الطلب أكثر، والوسيلة الوحيدة لوقف هذه العجلة هو رفع الطلب الكلي، والحكومة هي الجهة الوحيدة القادرة على ذلك.
 
وترى النظرية الكينزية أهمية كبرى في الطلب الكلي في الاقتصاد، فزيادة الطلب عن العرض تعني نمو الاقتصاد مع التضخم، ومع أن النمو الاقتصادي مهم جدًا، إلا أن للتضخم الحاصل معه مخاطر توجب كبح ارتفاع الطلب بشكل كبير للسيطرة عليه، بينما يعني انخفاض الطلب عن العرض وجود كساد يجب معه تحفيز الطلب.
 
ويجري كل ذلك عن طريق تعديل سياسات متعلقة بميزانية الدولة، برفع الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب في بعض الأحيان، وكلاهما جانبان من جوانب السياسة المالية، دونَ دور رئيس للبنوك المركزية والسياسة النقدية، بل إن بعض الدول عمدت إلى سحب احتياطات البنوك المركزية لتمويل ميزانيات حكوماتها؛ ما أدخل بعض هذه البنوك في إشكالات تتعلق بعدم قدرتها على تنفيذ مهامها بسبب تمويلها للحكومة.
 
وقد راجت هذه النظرية وسادت في علم الاقتصاد حتى السبعينات من القرن الماضي، إذ شهد العالم أزمة اقتصادية من نوع جديد لم تستطع الكينزية تفسيرها أو التعامل معها، فظهر مفهوم جديد لوصف الظاهرة الاقتصادية الجديدة التي سميت بـ«الركود التضخمي Stagflation»، والكلمة الإنجليزية مزجٌ جديد لكلمتين متناقضتين، هما «الركود – stagnation»، و«التضخم – Inflation».
 
فالذي حدث حينها كان ارتفاع الأسعار دون مرافقة ارتفاع الطلب له، وعلى العكس ارتفعت الأسعار مع ركود الاقتصاد، ما أدى إلى ظهور نظرية جديدة في الاقتصاد أثرت كثيرًا، وما زالت مؤثرة حتى الآن، وإن توقفت البنوك المركزية عن اتباعها لاحقًا، وهي ما تُعرف بـ«النظرية النقدية»، التي وضعها الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، لتحلّ المشكلة الاقتصادية التي لم تستطع الكينزية حلها سابقًا.
 
تتمسك النظرية النقدية بضرورة التحكم في أدوات السياسة النقدية، للتأثير على عرض النقد في المدى القصير، وذلك لأن زيادة عرض النقد المتداول بين الناس في الاقتصاد يعني زيادة قدرتهم الشرائية، ما يعني زيادة طلبهم على السلع، والعكس صحيح، وعليه يمكن للبنك المركزي، إذا رصدَ ركودًا في الاقتصاد، أن يزيد عرضَ النقد لزيادة الطلب في المدى القصير، وإذا أحس بخطر التضخم سيخفّض عرض النقد لتخفيف التضخم.
 
ويعني ذلك إمكانية حل كثير من المشاكل الاقتصادية دون تدخل الدولة بشكل مباشر، ودون رفع الإنفاق الحكومي أو تعديل السياسات الضريبية، بل عن طريق التأثير على عرض النقد في المدى القصير.
 
وعلى العكس من اقتراحات الكينزيين، الذين يرون ضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد وخصوصا وقتَ الأزمات، يرى أنصار النظرية النقدية أن تدخل الدولة في الاقتصاد بشكل مباشر لم يكن مفيدًا، فعلى سبيل المثال، يؤدي ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج (كالطفرة في أسعار النفط التي حصلت في السبعينات) إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات، دون أن يكون ذلك ناتجًا عن تغير اقتصادي داخلي في البلد.
 
ويدفعُ الركود الاقتصادي إلى تخفيض التشغيل نتيجةً لفصل العمال، وبالتالي انخفاض الطلب أكثر وأكثر، ما يعني أن السياسة المالية المعنية بالضرائب والإنفاق الحكومي لن تكون مجدية في حل الأزمة التي ضربت الاقتصادات في السبعينات والتي عرفت بالركود التضخمي، والتي لم تستطع النظرية الكينزية حلها. ويرى أنصار النظرية النقدية أن استخدام السياسة النقدية بالتعامل مع عرض النقد في المدى القصير، كمكابح للاقتصاد، هي الحل الأمثل، على النقيض من نظريات الكينزيين التي تقترح تدخلًا كبيرًا للدولة عن طريق سياستها المالية.
 
ولم تَسُد النظرية في الاقتصاد إلا لفترة قصيرة في السبعينات، نتيجةً لتراجع الاقتصاد الأمريكي في نهاية ذلك العقد، إلا أنها أثّرت في الفكر الاقتصادي وتبنت الكثير من المدارس الاقتصادية بعض مبادئها معدلةً بذلك نظرياتها الأصلية، مثل مدرسة الكينزية الجديدة.
 
أدوار البنوك المركزية.. طباعة العملة وملجأ أخير
بعد أزمات السبعينات وما تلاها، ابتدأ عصر جديد بالنسبة للبنوك المركزية، وأصبح من اللازم تحديد أدوار البنك المركزي ووظائفه بحيث لا يتضارب مع السياسات الاقتصادية للدولة، وانصب اهتمام البنوك المركزية على معالجة مشكلة التضخم وضبط الأسعار، بالإضافة إلى استقرار معدلات الفائدة ضمن حدود معقولة على المدى البعيد، مع العمل على ضمان التشغيل الكامل للاقتصاد لدفع النمو الاقتصادي، وقد أدى هذا التحول إلى تحديد أدوار ووظائف بشكل رسمي للبنوك المركزية.
 
لذا أصبحت أدوار ووظائف البنوك المركزية تنحصر في عدة نقاط:
 
1- المحتكر الوحيد لعرض النقد وطباعة العملة:
يلعب البنك المركزي وحده هذا الدور، فيحدد عرض النقد في الاقتصاد ويغيره عن طريق أدوات نقدية لتلبية أهداف السياسة النقدية.
 
2- تنظيم القطاع المصرفي وضبطه:
ينظم البنك المركزي ضوابط القطاع المصرفي ويراقب عمل البنوك، كما يضع محددات للمخاطر ويراقب امتثال البنوك لها، وينظم التعاملات البنكية والمالية.
 
3- الملجأ الأخير لإقراض البنوك:
يلعب البنك المركزي دور المقرض الأخير في حال وقوع أي بنك في أزمة، فيُقرض البنك المتعثر بأسعار فائدة منخفضة، وقد يقرض بلا سعر فائدة، ليمنع البنك من الانهيار، فالأثر الاقتصادي الكبير لسقوط بنك واحد قد يؤدي إلى تعميم الذعر في الاقتصاد وسقوط بنوك أخرى، ومن ثم تعميق الأزمة الاقتصادية.
 
4- مالك احتياطات العملات الأجنبية والمعادن الثمينة.
5- تطبيق السياسة النقدية داخل الدولة:
وهي السياسة التي يستعين فيها البنك المركزي بالأدوات النقدية للتأثير على عرض النقد في الاقتصاد، للتأثير على الاقتصاد الكلي في الأجل القصير، وحديثًا أصبحت بعض البنوك الفيدرالية قادرة على التأثير على الاقتصاد في الأجل الطويل بسياسات التسهيل الكمي.
 
أما عن أهداف البنوك المركزية، فقد تختلف سياساتها باختلاف ظرف الدولة المعنية، ففي البلدان المتقدمة يصبح الهدف الرئيس للبنك المركزي هو الحفاظ على استقرار الأسعار في الاقتصاد، بينما من الصعب فعل ذلك في البلدان التي تُثبت عملتها وفقًا لعملة أخرى.
 
وتهدف البنوك المركزية في البلدان المُتبِعة لنظام سعر صرف ثابت إلى المحافظة على سعر الصرف المثبت عند نقطة معينة، أو ضمن حدود تعلنها، بينما لا يمكن للبلدان التي تتبع نظام سعر مُعوَّم فعل ذلك، لكن البنوك المركزية تهدف إجمالًا إلى الحفاظ على استقرار معدلات سعر الفائدة ضمن حدود معقولة، مع محدودية ذلك للبلدان التي تتبع نظام سعر صرف ثابت، وتشترك البنوك المركزية في أهداف عامة هي الوصول للتشغيل الكامل للاقتصاد، والمحافظة على نمو موجب في الناتج المحلي الإجمالي.
 
كيف تختلف البنوك المركزية من بلدٍ إلى آخر؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بتتبع نواحٍ مختلفة من مهام وأدوار البنوك المركزية، بالإضافة إلى خصائص كل بلد من البلدان وقدراته وطبيعة السياسات الاقتصادية المتبعة فيه، وبالرغم من أهمية البنوك المركزية في اقتصاد كلّ بلد، فإنّ بعضها محدودة القدرة جدًا في التأثير عليه.
 
فليست كل البنوك مشابهة للفيدرالي الأمريكي أو البنك المركزي الأوروبي أو الياباني أو بنك بريطانيا، في احتياطاتها الكبيرة وقدرتها على خلق النقود وضخها في الاقتصاد عند الحاجة، بل إن بعض البنوك المركزية غير قادرة على استخدام أدوات السياسة النقدية للتأثير على الاقتصاد، تبعًا للسياسة الاقتصادية المتبعة، أو لعدم توفر الإمكانات لذلك.
 
وهناك ما يُطلق عليه «الثلاثية المستحيلة» في علم الاقتصاد، وهي ثلاثة خيارات اقتصادية مهمّة للاقتصاد، ولكن يستحيل جمعها معًا، ويجب الاكتفاء باثنين منها على الأكثر.
 
خيارات السياسة الاقتصادية
 
الخيار الأول: سعر الصرف الثابت والمستقر، وحرية حركة رؤوس الأموال دون سياسة نقدية مستقلة، ما يؤدي إلى فقدان قدرة البنك المركزي على التحكم في عرض النقد للتأثير على الاقتصاد، وهو خيار معظم الدول التي تثبت سعر صرفها، بينما لا تفرض أي قيود على حركة رؤوس الأموال من وإلى الدولة، وهي في أغلبها دول غير متقدمة.
 
الخيار الثاني: تتبناه الدول المتقدمة، وهو امتلاك سياسة نقدية مستقلة، وحرية حركة رؤوس الأموال دون القدرة على التحكم في سعر الصرف.
 
فيما تذهب بعض الدول إلى الخيار الثالث، والأكثر استثناءً، مثل الصين بتثبيت عملتها، مع الحفاظ على الاستقلالية في السياسة النقدية، مقابل الحفاظ على قيود على حركة رؤوس الأموال، مع ملاحظة أنّ الصين تحديدًا لا تتبع نظام تثبيت عملة بالكامل، بل تترك للعملة حرية الحركة ضمن حدود عليا ودنيا تستمر الدولة في توسيعها.
 
والخيار الأخير لا تستطيع دول كثيرة احتمال آثاره على اقتصاداتها، ولولا أفضلية الصين في استقبال الاستثمارات لما اختارت كثيرٌ من الاستثمارات الأجنبية التوجه لها بالنظر لقيودها على حركة رؤوس الأموال، وخصوصًا الخارجة من الصين.
 
كيف تحاول البنوك المركزية السيطرة على التضخم؟
اتجهت الاقتصادات المتقدمة في العقود الأخيرة إلى اتباع نظام جديد متناسب مع الهدف الأساسي لبنوكها المركزية، وهو الحفاظ على استقرار الأسعار ومعدلات التضخم، فتبنت نظام «استهداف التضخم» الذي ظهر بدايةً في نيوزيلندا نهاية الثمانينات.
 
ويقوم النظام على إعلان البنك المركزي في مطلع كل عام استهدافه لمعدل تضخم معين، قد يكون نقطة محددة مثل 2%، أو حدود عليا ودنيا، مثل استهداف معدلات تضخم بين 2-3%، وينشرُ البنك المركزي خطته للوصول إلى معدلات استهداف التضخم المرجوة خلال ذلك العام، مُؤثِرًا بذلك على التوقعات الاقتصادية، لتصبح تلك التوقعات عاملًا في تحقيق التضخم المرجو بالإضافة إلى سياسات البنك المتبعة لتحقيقه.
 
ووفقًا لهذا النظام يجب أن يتمتع البنك المركزي بالاستقلالية ليتمكن من تنفيذ سياساته، دون ضغوطات من الحكومة أو غيرها، مع توفر الشفافية والمصداقية للتمكن من التأثير على التوقعات الاقتصادية، وصولًا لتحقيق النتائج المرجوة، ومن المهم استهداف معدلات تضخم موجبة؛ لأن معدلات التضخم السالبة تعني الركود ومعدلات نمو سالبة.
 
ومع أنّ أغلب الدول المتقدمة تتبع هذا النظام، إلا أن بنكين من أكبر البنوك المركزية في العالم لا يتبعانه، وهما البنك المركزي الياباني، والفيدرالي الأمريكي.
 
ولأن اليابان تعاني من معدلات تضخم سالبة منذ عقدين وتحاول الوصول إلى معدلات تضخم موجبة وصحية، يحاجج الكثير من الاقتصاديين بأن الحل للاقتصاد الياباني يكمن في اتباع هذا النظام. أما المثال الآخر فهو الفيدرالي الأمريكي، الذي يرى تعارضًا بين استهداف معدل تضخم محددّ وأحد أهدافه الأخرى، وهو الوصول للتشغيل الكامل في الاقتصاد، فقد يحتاج تحقيق هذا الهدف إلى تجاوز معدلات التضخم المستهدفة، ولو مؤقتًا، مع إبقائها تحت السيطرة.
 
ولهذا النظام كلفة قد لا تكون كبيرة بالنسبة للدول المتقدمة، فيجب على هذه الدول تحرير سعر صرفها وترك تحديد السعر للسوق الحرة، إلا أن الثقة بالمتانة المالية لهذه الاقتصادات، تدعمُ عملاتها بشكل كبير، بالإضافة لكون عملاتها هي عملات أساسية في التداولات العالمية.
 
فمع ارتفاع الدخول في الدول المتقدمة، مقارنة بغيرها، فإن انخفاض سعر عملاتها مقابل غيرها من الدول يعني ارتفاع أسعار السلع المستوردة لن يؤثر كثيرًا على قدرة السكان على شرائها، ومع بقاء هذه العملات قوية تبعًا لقوة اقتصاداتها، من الصعب الوصول إلى نقطة تنهار فيها العملة كثيرًا لمستوى يؤثر على رفاه السكان.
 
تعمل كثير من الدول النامية على تثبيت سعر صرفها مقابل عملة رئيسية أو سلة من العملات، وتلتزم البنوك المركزية التابعة لهذه الدول بتحديد سعر صرف محدد مقابل الدولار؛ ما يعني أن سعر الصرف بين العملة المحلية والدولار سيبقى ثابتًا، رغم ارتفاع سعر الدولار بالنسبة لغيره من العملات أو انخفاضه.
 
وتفيد هذه السياسة في طمأنة المستثمرين الأجانب على بقاء سعر الصرف ثابتًا، دون حاجتهم للتحوط من التغيرات الكبيرة في سعر الصرف حال رغبتهم في تحويل نقودهم إلى الدولار، وتتجه هذه السياسة إلى «استيراد السياسة النقدية» من البلد المُثبت إليه سعر العملة، فإذا كان البلد النامي يستورد أكثر مما يصدر، وكانت غالبية ما يستورده بالدولار، فإن ارتفاع سعر الدولار لن يرفع معه سعر المنتجات المستوردة بهذا البلد بسبب تثبيت سعر الصرف بالنسبة للدولار.
 
إلا أن هذا يعني فقدانها لسياسة نقدية مستقلة، فتثبيت سعر الصرف يعني ضرورة تملّك الدولة لاحتياطات كبيرة من العملة الأجنبية المثبت إليها، فعند انخفاض قيمة العملة المحلية على البنك المركزي شراء عملة بلده لرفع سعرها حتى يعود للسعر المثبت، وبالعكس في حالة ارتفاع القيمة.
 
ويتأثر سعر الصرف أيضًا بمعدلات الفائدة المهمة للسياسة النقدية، فانخفاض سعر الفائدة يعني قلة العائد على الاستثمار في البلد بعملته المحلية وينتج عن ذلك تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج، فعلى البلد إذن تثبيت سعر الفائدة بحيث يعكس الزيادة والنقصان في معدل الفائدة الذي يقره الفيدرالي الأمريكي، مع بقاء سعر الفائدة مرتفعًا بشكل ثابت عن سعر فائدة الفيدرالي.
 
فعلى سبيل المثال يقرر البنك المركزي السعودي أن يبقي سعر فائدته أعلى بـ1% من سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي، فإذا كان سعر الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية 2% سيكون سعر الفائدة في السعودية 3%، وإن ارتفع سعر الفائدة في أمريكا لـ2.5% سيرتفع سعر الفائدة في السعودية لـ3.5%.
 
وبذلك يبقي البنك المركزي السعودي الودائع بالريال السعودي جاذبة للمستثمرين الأجانب؛ ما يسهل عليه مهمة تثبيت سعر الصرف نتيجة لتدفق العملة الأجنبية لشراء الريال السعودي، في المقابل لا يتمكن البنك المركزي السعودي من استخدام سياسة نقدية مستقلة حال اختلاف الظروف الاقتصادية الداخلية عنها في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ما قد يستدعي ضرورة تغيير معدلات الفائدة.
 
كيف تطبق البنوك المركزية سياستها النقدية؟
في العادة تعمل البنوك المركزية على التحكم في معدلات الفائدة للتأثير على الاقتصاد في المدى القصير، عن طريق تغيير مقدار عرض النقد في الاقتصاد، وتقوم البنوك المركزية بشكل أساسي بذلك عن طريق تطبيق عمليات السوق المفتوحة.
 
إذ يمتلك الناس والشركات مقدارًا معينًا من النقود، ويقابل النقود خيارات للاستثمار مقابل دفع مبلغ من النقود، ومن أهم هذه الخيارات شراء السندات الحكومية، وتحتفظ البنوك المركزية بمقدار من النقود خارج التداول.
 
فإذا احتاجت البنوك إلى زيادة عرض النقد والتأثير على سعر الفائدة، يمكنها أن تشتري السندات المملوكة من قبل المؤسسات المالية في السوق، مقابل أن تعطيها نقدًا يُضخّ في السوق، ونتيجة لزيادة الطلب على هذه السندات فإن سعرها سيرتفع، مسببًا بذلك انخفاض سعر الفائدة، وبالتالي جعل كلفة الاستثمار أقل، لأنك إن أردت إقراض الحكومة ألف دولار، مثلًا، فستقبل عائدًا بـ5% عليها، أما إذا أصبح سعر السند 1100 دولار فلن تقبل إلا بأكثر من الـ5%، وإذا انخفض السعر إلى 900 دولار فستقبل بعائد أقل من 5%.
 
وتستخدم البنوك المركزية أدواتها النقدية الأخرى على المدى القصير للتأثير على عرض النقد وأسعار الفائدة بشكل مشابه، أما على المدى الطويل فتستخدم البنوك المركزية التسهيل الكمي عن طريق خلق النقود وشراء سندات طويلة الأجل لزيادة العرض النقدي بشكل واسع وعلى المدى الطويل.
 

مدار الساعة ـ نشر في 2021/10/03 الساعة 13:52