أبناء العشائر وأنا

مدار الساعة ـ نشر في 2021/09/26 الساعة 00:31
لسمو الأمير الحسن كلمات تبقى عالقة في الذهن، ومنها قوله «هنالك ناس بَدُو، وناس لسه ما بَدُوا» ومؤسسة العشيرة في الأردن لها تاريخ طويل يمتد عبر القُرون.

ولقد قرأت مثلاً في تاريخ آل طولون (868-905م) أن الحاكم الثاني من الأسرة الطولونيه ذات الأصول التركية «خمارويه بن أحمد بن طولون» كان يرسل جُعلاً، أو مبلغاً من المال والهدايا من مصر لعشيرة الحويطات في جنوب الأردن وشمال سيناء وجنوب فلسطين. وذلك من أجل حماية قوافل الحجاج المصريين الذين يتوجهون عبر معان إلى المدينة المنورة إلى مكة المكرمة لأداء الفريضة الخامسة من فروض الإسلام.

وبالمقابل، فإننا نرى في فيلم «لورنس العرب»، الذي صورت مشاهد كثيرة منه في وادي رم، تمثل الشيخ «عوده أبو تايه»، بغير الشكل الذي يمثل أخلاق البادية العربية ومُثُلَها. وقد كان رجال الاستعمار البريطاني في بلاد الشام ومصر وافريقيا من الكتاب البارعين، ولكنهم كانوا يبالغون في تقدير أنفسهم، ويمزجون بين حبهم للحياة في البادية أو الأدغال، ولكنهم لا يحترمون الناس الذين يتعاملون معهم.

وفي الفترة بين (1741-1762)، دوَّن البديري الحلاق من مدينة دمشق مذكراته وأفكاره التي دونها خاصة من احاديثه مع الزبائن، أو مما كان يجري من أحداث في الأسواق. وفي عهد السلطان عثمان الثالث يذكر البديري أنه أفاق على هرج ومرج كبيرين، وإذا بالناس - حسب قوله - تبكي وتصرخ لأن قافلة الحجاج المتوجهة من دمشق عبر الأردن إلى الحجاز قد تعرضت للغزو من قبل فرسان بني صخر احتجاجاً على عدم وفاء والي دمشق آنئذ بارسال جُعْل القافلة إليهم قبل وصول القافلة لمناطقهم آنذاك في مؤاب.

وقد صودرت كل أموال الحجاج وأغراضهم من قبل الفرسان، ما أغضب السلطان العثماني الذي أمر بأن يعاقب بنو صخر، وكل من يشتري البضاعة منهم.

وفي روايات تاريخية أخرى، يقال إن السلطان العثماني الذي لم يحظ الوالي الظاهر عمر حاكم عكا برضاه، قد اشترى عبر وزيره ذي الحنكة التجارية «ابراهيم الصباغ» تلك البضاعة بثمن زهيد، وباعها مقابل ربح وفير ما أظهر على الظاهر عمر علامات الرخاء علماً أن السلطان قد حرمه من المخصصات بسبب طموحاته وبسبب تفاهماته مع الأوروربيين واحتلاله لطبريا.

وسواء في حالة الحويطات أو بني صخر، فإن حماية الحجيج كانت واحدة من أهم مصادر الرزق لديهم. ومنطقة شرق الأردن (أو ما وراء نهر الأردن) لم تكن وسائل العيش فيها سهلة للسكان، وبخاصة عشائر البادية. وفي العصر العباسي الثاني ضَعفت الدولة المركزية.

وبانتقال العاصمة الاسلامية من دمشق إلى الكوفة والأنبار وبغداد، تراجعت الأهمية المركزية للأردن والذي أصبح جزء من أهميته أنه الرابط لقوافل الحجاج والتجارة المارة بها والقادمة من مصر أو سوريا أو العراق أو فلسطين. ولذلك، تولت القبائل البدوية مهامها الأمنية حتى تتأكد أن الأردن يبقى طريقاً آمناً للقوافل، وتبقى مصادر الرزق مستمرة في التدفق دون توقف.

ومع أن الأردن كان موضع اهتمام الخلفاء الأمويين، ومقصدهم للصيد والراحة فبنوا فيه العديد من القصور، إلا أن الحُمَيْمة على سبيل المثال كانت مدينة يقطنها العباسيون، وفيها خططوا للاستيلاء على الحكم وإنهاء الحكم الأموي. وفي الحُمَيْمة ولد أول ثلاثة خلفاء عباسيين هم أبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، ومحمد بن عبدالله المهدي. ولكن الأردن فقد أهميته بابتعاد مركز الحكم إلى بغداد بعد الكوفة والأنبار. وظل الأردن يناضل من أجل العيش.

ولكن مع قدوم الأمير عبدالله بن الحسين ونزوله في مدينة معان، واستقباله استقبالاً حافلاً من العشائر هنالك، فقد وجد فيهم العزوة والسند. ولكن المؤرخين الذين كتبوا عن تلك الفترة وما قبلها، أكدوا أن الغزوات المتبادلة بين عشائر البادية كانت متكررة، ومعكرة لصفو الدولة وأمنها، فأنشأ الضابط الانجليزي (هيربيرت بلومر) قوات الحدود في منتصف العشرينات لضبطها، حيث كان الغازون على عشائر أخرى داخل الأردن يفرون منه إلى الدول المجاورة. وفي عام (1930)، عين جون جلوب (أو كلوب باشا، أو أبو حنيك) مساعداً لبيك باشا (قائد الجيش الانجليزي). والذي صمم على أن تكون قوات الصحراء (Desert Force) مكونة من العشائر البدوية، مميزاً اياها عن العشائر التي عملت في الزراعة.

وقد تميزت هذه القوات بقوة شكيمتها، وحسن تدريبها، وانضباطها. ولذلك برز من هؤلاء قادة عسكريون متميزون. ولكن الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية، بدأ يزداد عدداً ويتوسع ويشمل أبناء العشائر الأخرى، أو العشائر المستقرة. وهكذا، لم يعد مصدر الرزق هو الغزو، أو حماية القوافل، أو حراسة سكك الحديد، أو المنشآت، لأن هذه صارت جزءاً أساسياً من أعمال الدولة المستقرة.

لما جئت مع أسرتي إلى عمّان عام 1952، وجدت أن جاري في (الرحلايه) أو كرسي الدراسة كان المرحوم أحمد ماجد العدوان، حيث درس أربعة من أبناء المرحوم ماجد العدوان في المدرسة وهم محمد (أبو حسين)، والمرحومان أحمد ومصطفى وماجد الذي سُمي على اسم أبيه لأنه ولد بعد وفاته. وقد كان أحمد خجولاً، لا يكاد يقول شيئاً، ومع هذا فقد كان لاعب كرة قدم. وذات مره تحديته في سباق الجري، فقال لي «إن شاء الله أتيت بدك تسبقني، أنا بْدِوي، وسريع». ولا أدري ما الذي حصل ولكنني سبقته. وتوقعت منه أن يغضب، لكنه لم يفعل.

أما أخي علي، وهو الابن الثاني لرحمة والدي والذي كان مهووساً بالكيمياء وأخذ الدكتوراه فيها من بريطانيا قبلي، فقد زامله في الصف مجحم حديثه الخريشة. وكان الرجل أيضاً في غاية التهذيب. ولكن اسمه بالنسبة لنا في البيت كان جديداً، ويدفعنا للتمتع بلفظه. وقد توطدت مع الأيام صداقتي معه لما عمل مديراً لمكتب سمو الأمير الحسن في النصف الثاني من عقد السبعينات الماضي. والذي شدني إليه أكثر هو أنه كان يتذكر والدي أحمد العناني ويذكره بالخير.

أخي مجحم (أبو مالك) عاش في القسم الداخلي للكلية حيث أقام مدير المدرسة الأعزب آنئذ المرحوم أنور الحناوي، والذي لم يعترف لأحد غيره بالسلطة داخل المدرسة. ويقول لي مجحم (أبو مالك) إن والدي الذي درسه اللغة الانجليزية قد كتب له مرة عبارة مشجعة يقول له فيها (هنالك بصيص من الأمل بامكانية التحسن في المستقبل). ورغم ضيق كوة الفرج في نفق العبارة، إلا أن أخي مجحم اعتبر ذلك إطراء. وقال لقد نجح والدك في فتح شهيتي للدراسة والمعرفة، وادين له وللأساتذة الآخرين أمثال المرحومين ممدوح السخن، بشير الصباغ، محمد أبو غربيه، عبدالملك عرفات، لطفي ملحس، سليمان جرار، يوسف العظم، و د. عبدالعزيز الخياط بالفضل.

وأذكر أنني لما دخلت الوزارة لأول مرة في حكومة الراحل الشريف عبدالحميد شرف، أنني تصادقت مع المرحوم د. محمد عضوب الزبن. وصرنا نلتقي في مادبا و(نتل)، ونخرج نصطاد. وعلمني لأول مرة في حياتي استخدام المسدس. ولما صرت رئيساً للديوان الملكي الهاشمي، تولى تدريبي على استخدام المسدس ضابط متمرس من الحرس الملكي من عشيرة العجارمة. وقال لي هل تعلم أن فخذاً من عشيرة العجارمة اسمهم «الحلاحلة». فقلت له متسائلاً ومن أين أتوا بهذا الاسم. فقال ربما يكون أصلهم من عندكم، حلحول.

وأما الزميل الآخر، والذي كان في صف أخي الراحل عزام، هو السيد نايف سعود القاضي، والذي انجب والده أكثر من خمسين طفلاً، وكان شيخاً مهاباً، وتعرفت على عدد من إخوته لاحقاً. وحيث أنني صرت في الصف الخامس الثانوي (الصف الحادي عشر الآن) عريفاً للمدرسة، فقد تعرفت إلى طلاب الكلية جميعاً. ولقد كان نايف (أبو خالد) تلميذاً هادئاً، ويسكن في الداخلي ايضاً لأنه من المستحيل عليه أن يستأجر بيتاً لوحده، أو أن يسافر إلى بلدته «حوشه» في كل يوم. ولما صرت في الحكومة، استعدنا التعرف على بعضنا البعض، واختلفت آراؤنا السياسية وقراءتنا للتاريخ. ولكنني احترمت مهنيته في العمل، وأثناء التفاوض مع الجانب الاسرائيلي قبيل توقيع معاهدة السلام، أثبت أنه نِعم المخلص لوطنه.

أما الأخ العزيز سعد هايل سرور، فقد تعرفت عليه في الثمانينات، عندما تقرر إنشاء حزب وسطي في الأردن في نهايات حكومة مضر باشا بدران الثانية (1980-1984). وقد دخلت الحزب، ودخل معنا الشاب ابن (أم الجمال) في الحزب. وتصادقنا، واستمرت علاقتنا قوية رغم تقطعها، ولقد وجدت فيه نعم الرجل الهادئ والمفكر.

وفي ايام الصبا في الكلية العلمية الاسلامية. ولما كنا في الصفوف المتوسطة، وشارفنا على سن البلوغ، وصرنا نهتم بمظهرنا، وكان اثنان يلفتان نظرنا. واحد اسمه قدري شاهين الذي كان رياضياً ولاعب كرة قدم والأهم أنه صاحب سيارة كاديلاك (فليتوود) كبيرة مغرية، والآخر هو مشعل الدحام ابن البادية الشمالية. وصاحب سيارة كشف طويلة.

تعرفت على الكثيرين في حياتي من أبناء البادية ومن جميع العشائر السرحان، والشعلان، والحويطات، وبني عطيه، وبني صخر. وقد عرفت هؤلاء عن قرب لأن الدكتور محمد عفاش العدوان كان طالباً معنا في الكلية العلمية الاسلامية، وزرته في بيته في الغور الأوسط (الشونة)، وفي منزل السفير لما عمل سفيراً في اسبانيا. وتلاقينا في حكومة الدكتور عبدالسلام المجالي الأولى (1993-1995).

ولكن الذين كانوا أصدقائي تماماً وجيراني هم أولاد المرحوم مثقال الفايز، ومنهم الراحل عاكف الفايز (أبو فيصل)، واخواه طايل وطراد وأولادهما. وقد عملت مع دولة الأخ فيصل الفايز في الديوان الملكي، وفي مجلس الأعيان. أما أخوته فكانوا منهم الجيران، ومنهم العزوة. ولا أنسى أيضاً معالي الدكتور نايف الفايز وزير الصحة الاسبق، ومعالي محمد باشا نجادات والذي زرته في القويرة.

عشائر البادية لم تعد كما كانت، بل هم جزء أساسي في كل مناحي الحياة في الأردن. والقول الشائع إن البدوي هو الذي يعيش على تربية الماشية، ويحلم بأن يكون جندياً أو ضابطاً لم يعد صحيحاً كليةً. ولو عدت إلى المهن التي يمارسونها لرأيت أن آباءهم الذين شنّوا الزراعة وسموا الفلاح (أبو أحمد)، واعتبروا أن أكل الملوخية والدجاج معيب خاصة إذا قدمتها للضيوف، صارت جزءاً من طعام أولادهم. وهم دكاتره ومحامون، وجنود، وضباط أمن، وسياسيون، وسفراء، ووزراء، وماليون، وغيرهم. ولكن روح البداوة ما تزال فيهم. وكلما تقدم بهم الزمن، صاروا يسمون أبناءهم (بلال وقيس وزيد وشرف ولم تعد حجر، وصخر، وطافش).

ولكن أحذر من أن تستفز أي بدوي ببدويته، أو تفحص تمسكه بروحها، وعاداتها. إنهم ملح الأرض وصحبتهم رائعة، والخلاف معهم أروع والمداعبة معهم أجمل. وكنت أقول لمجحم الخريشه مره «صحيح أن إحدى الوزيرات من المدن سألتك أنتو بني صخر كم فخذه؟» فنظر إلي عابساً وقال «شو يعني مش مصدق؟».

فليحيى بلدنا (تعمدت الخطأ النحوي) بقبائله وعشائره وأفخاذها وفروعها. وبكل الأهل الذي يكَوِنون هذا البلد الجميل. ولا داعي لمزيد من الشِّعر والعواطف.
الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2021/09/26 الساعة 00:31