رحلت المرأة الأقوى
على غير العادة العربية، تغادر اليوم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منصبها كمستشارة للجمهورية الألمانية طواعية بعد ستة عشر عاما من اعتلائها عرش المانيا ورئاستها للاتحاد الأوروبي وتمثيلها له بأقوى صورة يمكن لرئيس دولة مهما كانت تسميته السياسية أن يواجه فيها زعماء العالم الاقوياء، ولكنها عملت لبلدها وللاتحاد الأوروبي ما لم يتحقق منذ نهاية عهد المستشار الأبرز هيلموت كول الذي قاد المانيا الغربية ثم المانيا الموحدة بالشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وعلى عكس عالمنا الشرقي فقد كانت ميركل تتكئ على حزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ما جعل ألمانيا القوة الاقتصادية الأكبر في أوروبا.
ميركل الحائزة على درجة الدكتوراة في الفيزياء لم تبتعد كثيرا عن الفلك الأميركي، فرغم أنها تمثل حزبها الديمقراطي المسيحي فقد خالفته بانحيازها الى مذهبها البروستانتي، ودعمت التحالف ما بين المانيا والولايات المتحدة، وأيدت غزو العراق واسقاط النظام وعلى رأسه صدام حسين، ودعمت تأسيس شراكة مع الجزء الكردي المتذبذب بعلاقاته المتوجسة لنظام بغداد من جهة ومن تركيا من جهة أخرى، إضافة الى حملتها الشرسة ضد قرار الاتحاد الأوروبي قبول تركيا في الاتحاد وتغليظ الشروط التي ما زالت معيقة لأنقرة رغم السنوات الطويلة.
كشفت ميركل عن العقدة القديمة في الثقافة الأوروبية وذلك في خطبة لها أمام اجتماع للأعضاء الشباب في حزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي في العام 2010 من أن المحاولات لبناء مجتمع متعدد الثقافات في ألمانيا قد فشلت نهائيا، مؤكدة أن مفهوم نحن نعيش جنبا إلى جنب وسعداء بذلك لم يعد صالحا، وأن الشعور بمفهوم المسيحية عن البشرية هو ما يحدد هويتنا، وأي شخص لا يقبل هذا يكون في المكان الخطأ، مشددة أن على المهاجرين الاندماج وتبني الثقافة والقيم الألمانية الأوروبية، وهذا بالطبع زاد شعلة الجدل المتنامي داخل ألمانيا حول مستويات الهجرة وأثرها، وتهديد مستوى اندماج المهاجرين المسلمين في المجتمع الألماني.
المانيا التي خرجت منهزمة من الحرب العالمية الثانية وفقدت ملايين الجنود والمدنيين، بدأت إعادة بنائها على قواعد جديدة في ضوء مشروع مارشال لأوروبا الوسطى، ولكن العنصر الفاعل الذي لعب دورا مميزا في إعادة البناء كان مميزا في المجتمع الألماني، إذ عمدت النساء في برلين وبقية المدن إلى القيام بما أسمينه الواجب الوطني، فقد كانت النساء يشكلن سلسلة بشرية طويلة لتناول المتهدمات من الحجارة والشظايا والرمال والحصى وتنظيف الطرقات، بينما كان الأتراك الذين عاشوا في المانيا أو أحفاد من كان هناك زمن التحالف التركي الألماني، يقومون بأعمال البناء وإعادة تأهيل المدارس التي تولتها النساء على الأغلب.
إن الصورة في كثير من دول العالم عن القيادات النسائية تكاد تكون متوازنة خصوصا في أوروبا التي انتجت من قبل مارغريت تاتشر، ومثلها في دول من شرق آسيا، تختلف تماما عن عالمنا العربي الذي تلعب فيه المرأة دور الضحية على الأغلب، وليس هي فقط بل وكثير من محدثي السياسة الذين تدربوا على تعاليم التغلغل الليبرالي بوجهه البشع، لتغيير هوية المجتمعات وإدخال عناصر التغريب فيها، وليس لهم سوى المجالدة بدعاة الفضيلة، أما أن نجد زعامات تأتي لنا برأس الاقتصاد والتغيير الديمقراطي الحقيقي فذلك حلم لن يتحقق.
اليوم سينتخب الألمان مستشارا جديدا، وستبقى البلاد العربية تغلي فوق النزاعات والتفرقة للهوية الفرعية، فاقدة الاستقرار في ظل عدم حالة اليقين للمستقبل الذي قذفنا مجددا الى أغوار التاريخ المتشظي، وسنبقى نبحث عن القمر الذي سرعان ما يتحول الى محاق ويغيب خلف غايات الظلام الدامس.
ROYAL430@HOTMAIL.COM
الرأي