الفقر أستاذ كبير
من وحي المئوية (32) الفقر أستاذ كبير
لما تخرج والدي المرحوم أحمد العناني من دار المعلمين بالكلية العربية في القدس عام 1941، عمل أستاذاً في كلية الحسين بن علي في مدينة الخليل ليدرس اللغة الانجليزية. وكان راتبه حينئذ حوالي (30) جنيهاً فلسطينياً.
أتذكر أن أهل قرية حلحول (كانت قرية والآن مدينة) كانوا يتساءلون «ماذا يصنع أبو جواد بكل هذه الجنيهات؟» وروى لي بعضهم أن السمار في السْاحة أمضوا ساعات يحللون هذا السؤال ويتناقشون فيه.
ولما قرر والدي أن ينتقل إلى عمّان عام 1952. بعد تعيينه أستاذاً للغة الانجليزية في القسم الثانوي بالكلية العلمية الاسلامية، وصل راتبه إلى خمسين ديناراً، كنا ندفع منها أجرة (12) ديناراً شهرياً، و(15) ديناراً أدوية لوالدي بعدما أجرى عملية في معدته في مستشفى السلط، وعشرة دنانير سداد ديون، ولم يبق من الراتب آنذاك سوى مبلغ ثلاثة عشر ديناراً ليطعم أسرة من ثمانية (الوالدين وخمسة أبناء وابنة رضيعة).
وأتذكر أن والدي كان يعطيني نصف قرش مصروفاً يومياً، وأمي كانت تملأ جيبي بالزبيب والقطين الذي يأتينا من أرضنا في حلحول. والفقر ليس مطلقاً وحسب، ولكنه نسبي أيضاً، فحينما كنت في حلحول بدت التعريفة (أو الخمسة فلسات) ثروة، أما في عمّان وبصحبة أبناء الأُسر الثرية فقد كان أي مصروف برونزي اللون غير محترم. والأطفال لا يرحمون بعضهم البعض، فقد تباهوا وهم يمدون أصابعهم داخل جيوب صغيرة في بناطيلهم يخرجون منها العملة الفضية ذات القرشين أو أكثر.
وشكوت لوالدي أنني أتحايل وأدعي أن هذا الجيب في بنطالي مليء بالفلوس، وأتظاهر أنني على وشك إخراج النقود، ولكنني أغير رأيي في اللحظة الأخيرة قائلاً «الله يسامح الوالدة، لم تدعنا نغادر إلا بعد تناول فطور كبير». فنظر إلي والدي قائلاً «الله أعطاك ميزات عنهم، فأنت ذكي، أبوك أستاذ وكاتب، أمك مدبرة ورائعة، وإخوتك كلهم شاطرون»، وجدك وجد جدك خطاطان محترمان، وأنت تحفظ أجزاء من القرآن، وتعرف بحور الشعر، فلماذا تعتقد أن نقودهم أفضل منك؟"
الفقر يُعطى ألقاباً كثيرة، ولكن اسمه في قرية حلحول كان «عيسى سيف»، نسبة إلى رجل ابتلاه الله بفقر شديد. وكان من المألوف أن تسمع أناساً من أخوال والدي الذين يأتون لزيارتنا شاكين سوء أحوالهم بالقول «عيسى سيف بارخ على صدورنا».
ومن شرفة بيتنا في عمّان، كنا نرى ما سمي آنذاك «خربة الحاج حسن»، والتي روى الجيران لنا أنها منطقة خطيرة، فيها ضباع تسحر ضحاياها فيتبعونها حيث تهاجمهم وتأكلهم. أما الجانب المخيف الآخر هو أن المارين الغرباء هنالك يُقتلون من أجل «شلن»، وتترك جثثهم تتعفن في العراء، أو تنهشها الحيوانات الضالة أو المفترسة.
هذه القصص إلى جانب قصص «الغولة» التي كانت ترويها جدتي لي قبل النوم، خلقت في خيالي أفكاراً مروعة، وخواطر مخيفة حرمتني النوم أحياناً.
في أيام الكساد في الأردن (نهاية عقد العشرينات وطوال عقد الثلاثينات)، لم يعرف الناس النقود أو الكاش. ولذلك عقدت معظم الصفقات عن طريق المقايضة. والغني أيامها هو الذي يملك النقود. ولذلك برزت في الأردن ظاهرة الاقتراض من أصحاب الفضول المالية. وإذا عجز المستقرض عن السداد استملك المُقرض الأرض. وقد تملكت بعض الأُسر الأردنية مساحات واسعة من الأراضي ابان تلك الحقبة، إما لأن أصحاب الأرض لم يقدروا قيمتها حق قدرها، أو لأن الأرض لم تعتبر آنذاك مدرة للدخل. وقد وقع الجفاف في سنوات كثيرة في الثلاثينات والأربعينات. فجاع الناس، وفَنِيت على قطعان الماشية، وتراجع انتاج الحبوب، مما بَخّس من قيمة الأرض ودفع أصحابها إلى بيعها بدراهم معدودة.
ثم جاءت حرب عام 1948، وتدافع الناس من فلسطين إلى الضفة الغربية وإلى المملكة الأردنية الهاشمية. وقد أدت النكبة إلى زعزعة اقتصاديات أسر كثيرة في فلسطين وإلى زيادة الأعباء على الأردن، والذي لم يكن اقتصاده منتعشاً في تلك السنوات. فالأردن الذي دخل الحرب، ودافع عن القدس دفاع الأبطال، وقدم من الشهداء على ثرى فلسطين قد تحمل أعباء الانفاق العسكري. وفي عام 1948، بدأ الأردن سعيه مع شخصيات فلسطينية من أجل خلق الوحدة بين الضفتين، والتي أدت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) إلى اعلان تتويج المغفور له الملك عبدالله المؤسس ملكاً على فلسطين، وقامت الخزانة الأردنية بدفع جزء من رواتب موظفي الحكومة الفلسطينية والتي انقطعت بعد الحرب وبعد انتهاء الانتداب البريطاني.
وبسبب هذه العوامل وغيرها، واجه الاقتصاد الأردني في ذلك العام والعامين التاليين (1949، 1950)، تحديات اقتصادية كبيرة، وَسَّعت قاعدة الفقر.
وبالمقابل، اتخذ قرار في الأمم المتحدة بخلق الأونروا (وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم)، والتي بدأت توفر المواد الغذائية لأسر اللاجئين الفلسطينيين وتقدم لهم الحليب وعلب البوليبيف وسمك البكلاي المجفف وأحياناً الشوكولاته. وكان ابن المخيم الدي ابتلي بالاحتلال وبحرمانه من وطنه يحصل على هذه «البقج» والتي احتوت ملابس، بينما جاره الأردني ينظر إليه متحسراً على وضعه. ولقد فطن سمو الأمير الحسن لهذا الأمر حين بدأت منظمة «الفاو» النزويجية باجراء دراسات عن أوضاع النازحين واللاجئين القادمين من الضفة الغربية والقاطنين في مخيمي البقعة والحصن (عزمي المفتي)، فأصر الأمير على ضرورة أن تشمل الدراسات أهل المنطقة المجاورين للمخيم، وقال إن بناء التسهيلات والبنى التحتية ضرورة للجانبين، فالذباب والبعوض لا تعرف حدود المخيم من حدود جيرانه الساكنين بقربه.
ولكن اللجوء عام 1948، وحتى عام 1967، خلقا حالة من التأزم الاقتصادي في الأردن. وقد عانى الأردن خلال الفترة 1967-1972 من تراجع اقتصادي، حيث وصل معدل النمو السنوي خلالها إلى أدنى من الصفر، وتراجع معدل دخل الفرد إلى أقل من (سالب 5% سنوياً).
ومثل هذه الأرقام بعد كلتا الحربين مباشرة تسببت في زيادة مساحة الفقر بشكل واضح.
بعد حرب عام 1948، خاصة في مطلع الخمسينات، نهض القطاع الخاص بهمة قعساء من أجل بناء المشروعات في الأردن. فكان أناس أمثال الحاج صبري الطباع، وابراهيم منكو، وعبدالرحمن أبو حسان، ورياض المفلح الفاعوري، ومحمد علي بدير، وصلاح المعلبكي، وتوفيق قطان، وأسرة شاهين للمقاولات، وغيرهم ممن قاموا بمهمة إنشاء المشروعات الكبيرة في الأردن. ولم يقم هؤلاء بتهريب فوائض أموالهم إلى الخارج، ولكنهم استثمروها في الداخل. فأقاموا الصناعات والمؤسسات الكبيرة مثل مشروع الفوسفات، والاسمنت، والمصفاة، والدباغة، والمصانع الغذائية، لتشغيل الناس. وقد دعمهم جميعاً القطاع المصرفي وفي المقدمة البنك العربي، والذي استدعى عملاءه، وبدأ في السماح لهم باقتراض ودائعهم التي لديه قبل 1948، من أجل أن يعيدوا بناء محلاتهم ومشاغلهم ومصانعهم، وقد كان لعبدالحميد شومان دور كبير في فتح فرص الاستثمار لرجال الأعمال الفلسطينيين وشركائهم السوريين والأردنيين داخل الأردن.
ولكن الأهم الذي حصل هو اتساع عدد المدارس الحكومية ومدارس الأنروا، والمدارس الخاصة والتبشيرية في الأردن، والتي وفرت جميعها تعليماً متميزاً. وقد ساعد على التعليم رغبة الناس في تحسين أوضاعهم، واختراق الصفوف الاجتماعية إلى المقدمة بفضل التعليم الجيد.
في تلك الفترة كان راتب الأستاذ حامل الشهادة الثانوية العامة(المترك) يصل إلى (18) ديناراً على الأقل، أو ما يساوي 250% من راتب العامل اليدوي. وخريج الجامعة كان يحصل على راتب يقارب الثلاثين ديناراً، أو أربعة أضعاف أجر العامل.
وقد بدأ الأردن بفعل النمو في الاقتصاد وزيادة عدد السكان، خاصة في المدن، يسمح بزيادة الطلب على خدمات المتعلمين، وبدأت تظهر أحياء جديدة أكثر ازدهاراً في جبل عمان، وحي نزال، وكبرت مساحة السوق في عمان لتشمل شوارع كثيرة. وأُنشئت أسواق متخصصة من أبرزها ما بناه المرحوم الحاج ابراهيم منكو بالمَعْلم العَمّاني الشهير (سوق منكو)، والذي كانت فكرته آنذاك ابتكاراً سمح للتجار بأن يمزجوا بين سكنهم في الطوابق العليا، ومحلاتهم التجارية تحت البيوت. ولكن مع الوقت، خرجت الأسر من هنالك، وصارت المحلات التجارية تحتل كل المساحات المتاحة، وظهرت أسواق أخرى شبيهة مثل سوق البلابسة والسوق الأفغاني.
وقد شهدت الفترة أيضاً ارتفاعاً كبيراً بسبب التعليم في الهجرة من الريف إلى المدن. وكان المعهود آنذاك أن ينتقل من الأسر الزراعية في الريف أو البادية ابن أو اثنان لكي ينالوا تعليمهم في المدن، ومن ثم يسافرون للدراسة في الخارج، أو الالتحاق بدور المعلمين والكليات المتوسطة، وبعدها يلحتقون بالعمل العام أو في حقل التدريس. وقد ارتفع عدد الدارسين في الجامعات في الدول العربية مثل مصر، والعراق، وسوريا ولبنان. وتنوعت دراسات هؤلاء في مجالات الطب، والمحاماة، والهندسة، والعلوم، وبعضهم من ميسوري الحال درسوا في جامعات أوروبا وأميركا.
وبسبب الاقبال على التعليم واعتباره استثماراً أسرياً مجدياً، فقد بدأت اقتصادات الأسر الأردنية تتمحور حول فكرة تعليم الأولاد وبشكل أقل للبنات. فالأسرة تستثمر في العقار، أو في تجارة، أو أرض زراعية بهدف توفير المال لتعليم الأبناء. وقد أدت هذه الظاهرة في رأيي، والتي تكاملت عناصرها ودوافعها على جانبي العرض والطلب، إلى جعل التعليم المحرك الاجتماعي الأكبر. ولقد تأكدت في تلك الفترة نظرية أن التعليم كان استثماراً مجدياً ذا روابط أمامية وخلفية، فالتعليم كان الحافز من أجل تشجيع الادخار، والتعليم كان حافزاً للاستثمار في البنى الاقتصادية، الانتاجية منها والخدمية على حَدّ سواء.
أما بعد حرب عام 1967، فقد نزح أكثر من ثلاثمائة ألف شخص من الضفة الغربية، وشهد الأردن لأول مرة في تاريخه تراجعاً في مساحته، وتقلصاً في مصادر الناتج المحلي الاجمالي بلغت نسبتها 40%، وهي نسبة مساهمة الضفة الغربية آنذاك في الدخل الوطني لكامل المملكة الأردنية الهاشمية.
وبعد مرور أربع من السنوات العجاف التي أرهقت الحكومة والشعب، تنادى أصحاب الهمة من القطاعين العام والخاص لوضع خطة لانعاش الاقتصاد وخلق آلاف فرص العمل للباحثين عنها.
ولو عدنا إلى أدبيات الخطة الثلاثية (1973 -1975) لرأينا أن كلمة «فقر» لم ترد فيها كثيراً. فقد كان الأردنيون متكافلين، الله عندما يغلق نافذة يفتح أبواباً. ولما قامت حرب أكتوبر عام 1973، وانسحب الاسرائيليون من مناطق في الجولان (القنيطرة) ومن الساحل المصري وصحراء سيناء إلى غزة، ارتفعت أسعار النفط، وانفتحت للأردن أبواب رزق لم تكن في الحسبان.
وبدأ الأردن يخسر آلاف الموظفين والعاملين في القطاعين العام والخاص إلى دول الخليج. وفي عام 1975 وضعت الحكومة باشراف سمو الأمير الحسن خطة السنوات الخمس الأولى التي شملت كثيراً من البنى التحتية والفوقية. ولكن الأردن عانى من معدلات عالية من ارتفاع تكاليف المعيشة، ما دفع بالأجور في القطاعين العام والخاص إلى مستويات لم يشهدها الأردن قبل ذلك، ووفر السوق فرص عمل للمتعلمين بسبب اتساع السوق وكبر الحكومة وهجرة العمالة الكفؤة إلى الخارج ما دفع بالأسر إلى تعليم كل أولادهم سواء من حصل على معدل 50% أو تسعين في المئة في فحص الثانوية العامة. والتحق الطلاب بالآلاف بجامعات أوروبا الشرقية وجنوب آسيا وداخل الأردن في الجامعة الأردنية، وبالانتساب في جامعات عربية.
ورافق تلك الفترة الممتدة من منتصف الستينات إلى منتصف الثمانينات إنشاء مؤسسات هامة جديدة مثل البنك المركزي، وبنك الاسكان، ومدينة الحسين الطبية، ومؤسسة الضمان الاجتماعي، ومدينة الحسين للشباب، ومؤسسات الاقراض المتخصصة، ووزارة التموين، والمؤسسة الاستهلاكية المدنية، وصندوق المعونة الوطنية، وبنك التنمية والتشغيل، ومؤسسة الاستثمار الأردنية التي بدأت باسم (صندوق التقاعد)، وأنشئت وزارات جديدة، وتفرعت مؤسسات الدولة وكبرت فروعها. كل ذلك لخدمة التنمية، وخلق فرص العمل، ومحاربة الفقر.
لقد كان الفقر ظاهرة عامة تأتي إلى الأردن مرة كل عشر سنوات إما بفعل شح المطر، أو النزوح السكاني، أو الحروب، أو المشكلات والقلاقل الداخلية، كلها كانت ظروفاً نسميها نحن الاقتصاديين بالخارجية. أما الآن فقد صار الفقر جزءاً من الدورة الاقتصادية الداخلية. لقد نجحنا في علاج الفقر وهو مسبب بظروف خارجة عن ادارتنا وارادتنا، فهل ننجح الآن في كبحه أو في استثماره لكي يصبح قوة فاعلة عن طريق استثمار أفضل في تعليمنا وتدريبنا وحسن ادارتنا لمواردنا والطبيعية والاقليمية؟
الرأي