ليلة من ثورة 1919

مدار الساعة - علي خيري قصة قصيرة رهيبة تلك الانفجارات التي تهز قريتنا من دقيقة لأخرى، احتضنت وزوجتي أبناءنا الصغار، حاولت أن أهدئ من روعهم وأنا غير مدرك لما يحدث، فجأة اهتز دارنا الصغير اهتزازة رهيبة، فحملت الولد والبنت وحملت زوجتي رضيعنا وسُقتهم أمامي وأنا أركض من الدار، وبمجرد أن خرجت من المنزل هالني منظر النيران الذي أضاء ليل قريتنا البهيم، كل بيوت حارتنا تهدمت والنار تأكل فيها، نظرت إلى السماء فوجدت طائر حديدي لم أر مثله من قبل، سألني ابني برعب ما هذا يا أبي؟ فأجبته باستغراب وأنا أحاول إخفاء رعبي وهلعي أني لا أعلم، في حين أجابت زوجتي أنها تظن أن القيامة قد قامت، وإلا فما معنى أن يرمي علينا طائر حديدي هذه الحمم الهائلة من النار؟ تجمعت القرية بأسرها في ساحة المسجد، والناس في حالة يرثى لها من الخوف والاستغراب، فما معنى أن تمطر عليهم السماء حمما لا تبقي ولا تذر، حمما لا تفرق بين صغير وكبير، رجل وامرأة، حتى الحيوانات لم تسلم من لظاها، صعد إمام المسجد -وهو أكثر أهل قريتنا تعليما- على أعلى درجة من سلم المسجد، وقال لنا إن الإنجليز يضربوننا بالطائرات، فاستغرب الجميع، وسرت الهمهمات بينهم متسائلة عن علاقة الإنجليز بهذا البلاء النازل عليهم من السماء. واصل الشيخ كلامه قائلا وهو يشير إلى السماء وقد اختفى ما أطلق عليه اسم الطائرات، الإنجليز يضربوننا بالطائرات بعدما فشلوا في كسر إرادتنا والحط من عزيمتنا، والذي علينا الآن أن نكمل ما بدأناه، ونحمي قريتنا من دنسهم، وإلا دخلوا علينا وهتكوا أعراضنا، وضربوا بنا الأمثال، فكونوا مضربا للأمثال، ولكن في مقاومتهم، وإذا كنا سنموت في كل الأحول فلنمت ونحن رجال. كانت قريتنا -وهي قرية صغيرة من قرى الصعيد التي قد لا تجدها على الخريطة- قد ثارت على الإنجليز مثلما ثار كل شبر في القطر المصري على هؤلاء الظلمة، قررنا أن نكون جزءا من الثورة، ورأينا أن الفرصة قد واتتنا لننتقم من هؤلاء الذين هزموا عرابي باشا، واحتلوا أراضي المحروسة كما فهّمنا أمام المسجد الذي كان واحدا ممن شاركوا في "هوجة عرابي" أثناء دراسته في الجامع الأزهر في القاهرة، فذهبنا إلى أقرب خط من خطوط السكك الحديد إلى قريتنا وقطعناه، وانتظرنا بشغف القطار الحربي الذي يحمل إمدادات جيش الاحتلال وهو يمر مسرعا مدججا بالجنود والسلاح لا يلقي لنا بالاً ولا للفخ الذي سيقع فيه بعد قليل. بمجرد وصول القطار إلى المكان الذي خربناه من خط السكة الحديد، انقلب وتخبطت عرباته في صوت يصم الآذان، وما إن هدأ تقلب القطار إلا وظهرت صرخات الجنود الذين كانوا على متنه، وهنا تعالى صوت إمام المسجد أن اهجموا عليهم ولا تأخذكم بهم شفقة أو رحمة، فهم لم يأتوا هنا إلا لاستعبادكم أو قتلكم، وبالفعل هجمنا على القطار فلم نترك فيه جنديا واحدا على قيد الحياة، وأخذنا كل ما وقع تحت أيدينا من سلاح، جعلنا نصد هجماتهم التي شنوها علينا واحدة بعد الأخرى، إلى أن شارفت ذخائرنا على الانتهاء، ولجأوا هم الآن إلى ما أسماه الإمام بالطائرات التي هدمت معظم القرية. انقسمت القرية إلى فريقين، فريق يخرج الجرحى والشهداء من تحت أنقاض بيوتهم الطينية، وفريق يرابط على المتاريس التي أغلقنا بها مداخل القرية، التوتر سيد الموقف، تبادلت الوصايا مع أخي وصديقي صالح، واتفقنا على أن من يعيش فينا يرعى أبناء الأخر، وهكذا فعل الجميع كما أوصانا إمام القرية، وانتظرنا الإنجليز. الإنجليز لم يدعونا ننتظر كثيرا، وبدأوا يضربوننا بالمدفعية، وكأن الطائرات لم تكفهم، ثم ظهروا أمامنا، فأمطرناهم بالرصاص فتراجعوا سريعا، فهللنا وكبرنا، فما كانت إلا دقائق حتى عادوا بكثافة أكبر تتقدمهم زخات الرصاص، والتي خطفت منا الكثير من الرجال، إلا أن هذا لم يمنعنا من ضربهم بما لدينا، إلى أن أصابتني رصاصة أدركت أنها في مقتل، من تبقى من الرجال قليل، وكان آخر ما شاهدت هو ثباتهم الأسطوري الذي ظللت أراقبه حتى فارقت الحياة.