من البوتاس إلى النحاس
مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/29 الساعة 03:45
من وحي المئوية ( 29) من البوتاس إلى النحاس
لم تقم أي صناعة كبرى في الأردن دون أن يصاحبها جدل ونقاش، على قلة المساحة الإعلامية المفتوحة للناس في خمسينيات القرن الماضي.
وقد أثيرت حول كل صناعة، خاصة شركات الامتياز، جدليات كثيره تتعلق بجدوى المشروع تحت الاعتبار، أو بتاريخه، أو القدرة على تشغيله، أو بالشركاء الذين سيقومون به. وبعدما أنشئت هذه المصانع أثيرت تساؤلات كبيرة حول تقلب أدائها، وحول سياساتها التوظيفية سواء كان التركيز على تشغيل أبناء المنطقة التي يقع فيها المشروع أو أن يكون التشغيل مفتوحاً على سائر أنحاء المملكة، وحول آثارها البيئية، ومن المسؤول عنها، وغيرها من الامور.
وقد عدت إلى موقع شركة البوتاس، وإلى ما كتب عن تاريخ الشركة في الويكيبيديا، ووجدت أن الاتفاق على تأسيسها قد اتخذ عام 1956. ولم تستكمل إجراءات تسجيل الشركة ومنحها امتيازاً لمئة عام إلا في نهاية عام 1957، ولم تبدأ في الإنتاج إلا عام 1958 بكميات قليلة وبوسائل محددة، حيث يباع معظم ذلك الإنتاج إلى دولة أو أو دولتين احداهما مصر.
ولكن التاريخ الحقيقي يقول إن التفكير في المشروع قد بدء به قبل قيام إسرائيل أي عام 1930، حيث منحت حكومة الانتداب في فلسطين وحكومة الانتداب في شرق الأردن امتياز استخراج الأملاح من البحر الميت لشركة فلسطين للبوتاس. وقد كانت الشركة قد سُجِلت كشركة مساهمة محدودة في إنجلترا عام 1929. وفي عام 1936 بدأت الشركة تحقق أرباحاً. وفي حرب عام «1948» وقعت منشآت الشركة في الجزء الشمالي تحت سيطرة الجيش العربي الأردني ولكن معظم هذه المنشآت تعرضت للدمار بفعل الحرب.
وفي عام 1951 بدأ الأردن يفكر في إقامة مشروع البوتاس في البحر الميت. ولكن أسعاره في ذلك الوقت كانت تنخفض فتحجم بعض الدول العربية عن الاستثمار في المشروع خشية الخسارة. ولما كانت الأسعار ترتفع. يُفْتح ملف المشروع ثانية ولكن ما يكاد المشروع يقنع المستثمرين بجدواه حتى تنخفض الأسعار العالمية ثانية، فيفقد المشروع جدواه. وبقي الأمر على هذا المنوال بين جذب وشد حتى قام المشروع عام 1956 كما ذكر أعلاه.
ولقد أقيم مشروع الأسمدة الأردني في منتصف سبعينيات القرن الماضي في العقبة بمساهمة من شركتي الفوسفات والبوتاس. ولكن تبين أن هذه الصناعة ينتج عنها مخلفات «الجيبس» التي تشكل جبلاً أبيض في العقبة. مثلما تفعل صناعة الأسمنت الأردنية التي ينتج عنها أيضاً مخلفات الجيبس التي تشكل حسب عدد من الدراسات تلوثاً للبيئة وتأثيراً سلبياً على مصادر المياه.
ولذلك كانت صناعة الأسمدة الأردنية موقع شد وجذب، خاصة بسبب مادة الجيبس التي يخشى من آثارها الصحية والبيئية السالبة، ولكن الصناعة قامت وقامت بعدها صناعات أسمدة أخرى لإنتاج حامض الفوسفوريك مع دول هامة مثل الهند واليابان وغيرهما. والسؤال الآن: من سيتغلب في النهاية المنطق الاقتصادي المالي أم المنطق البيئي؟ ولا يوجد حل كامل. فمراعاة البيئة تنطوي على خسائر فرص بديلة لتحسين الاقتصاد الأردني والدفع به إلى الأمام لتحسين فرص الحياة وإيجاد فرص عمل مطلوبة بالحاح وتغذية خزائن المملكة بالعملات الأجنبية. أم أن الأفضلية يجب أن تعطى للبيئة؟ لكل رأي حساباته وأرباحه وكُلَفه، ولا يوجد على الأقل في المدى القصير والمتوسط حل كامل.
ورحب أهل الفحيص في خمسينيات القرن الماضي بمصنع الفحيص للاسمنت حينما أنشئت شركة الأسمنت الأردنية. وقد أدت الشركة في بداياتها إلى خلق فرص استثمارية في المدينة. ورفعت أسعار العقار. ولكن لما كبرت الشركة. وزاد عدد أفرانها فقد بدأ الغبار الناجم عن عملياتها الإنتاجية من صهر وطحن وتعبئة يؤرق سكان المدينة.
وازداد هذا الأمر بروزاً عندما شُيِّد قصر الهاشمية وسكنه الراحل جلالة الملك الحسين وصار يستفيق يومياً على الغبار المنبعث منه. وقامت الشركة أيامها بشراء مراوح كبيرة ووسائل أخرى لامتصاص الغبار والتقليل من انبعاثاته وإطلاقها في الجو إلى مسافات تفوق ارتفاعاً تلال الفحيص. ولكن الشركة ورغم إغلاقها لكل أفرانها في الفحيص وانتقالها للعمل في موقعها بالرشادية في منطقة الطفيلة، قامت عليها دعاوي بيئية طالبت بالتعويض عن الضرر الناجم عنها. وقد تكبدت الشركة تعويضات لسكان المدينة تفوق خمسين مليون دينار حتى الآن.
ومع مرور الوقت وانشاء وزارة للبيئة، فإن قضايا البيئة تنال اهتماماً اكثر. ولا نشهد نحن في الأردن عند تناولنا موضوع البيئة والخيار بينها وبين الاستثمارات الصناعية إلا وتثور هذه القضية. ولقد كان مصنع البطاريات في المدينة الصناعية بمحافظة الزرقاء موضوع جدل كبير خاصة للسموم التي كان يسببها الرصاص المستخدم في الصناعة. ولما كنت وكيلاً لوزارة العمل عام 1977. وجدنا أن طلاب مدرسة بالقرب من المصنع كانوا يلعبون عند مدفن نفايات الرصاص. قد تعرضوا للتسمم، وفُرِضَ على المصنع تولي كلفة معالجتهم، وكذلك فُرِضَ عليه أن يقدم الحليب مجاناً للطلبة حتى يخفف من آثار التسمم بالرصاص. وقد اغلق المصنع. وكذلك كانت شركة الدباغة التي تلوث المياه. وقد نتج عن كتلة الصناعات غير المراعية للبيئة آثار كبيرة أهمها بركة البيبسي في مدينة الزرقاء التي نأمل في أن حلاً لها قد اتفق عليه وانه قيد التنفيذ.
إن استخدام السيارات للبنزين والديزل وغيرهما من المشتقات النفطية يشكل سبباً رئيسياً في تلوث البيئة في الأردن. وبناء المساكن في الأردن فوق أحواض المياه يكلف الأردن غالباً في إنقاص الكميات المتاحة ورفع كلفة تنظيفها وإعادة تدويرها. واستخدام المبيدات الحشرية له أيضا الكلفة العالية من حيث التأثير على حياة النباتات والطيور، وتسميم السلع والتربة وقتل النحل وغيرها.
ولكن السؤال الكبير الذي يبقى بعد ذلك هو: لو أننا قمنا بالتحيز للبيئة كلية وأوقفنا النشاط الاقتصادي حتى نجد الحلول البيئية المناسبة، فماذا ستكون النتيجة؟ هنالك أحراش وغابات في لواء الكورة وعجلون وجرش والسلط وغيرها. ونحن حريصون على بقائها، وتنظيم التحطيب فيها، فماذا يفعل من لا يجد فرصة عمل، او من يغريه اعتزازه بمكانته المحلية للاعتداء على هذه الغابات؟ ويجد كل هؤلاء من يتعاون معهم من موظفي الحكومة. وليس أمام هؤلاء خيار سوى أن يستمر في هذا العمل المنافي للبيئة. نحن نسرق ثرواتنا الوطنية من ماء وكهرباء وأشجار وخطوط جهاراً ونهاراً بسبب قلة النمو. فما هو الحل إذن؟
لا شك أن لتجاهل البيئة مشاكل، وقد أصبحت البيئة الآن اكثر اعتباراً في الدول النامية. واذكر إنني دعيت عام 1989 لزيارة فرنسا من قبل شخص مدافع عن البيئة بشراسة وزوجته مدام «بو' لكي أتعاون معهما في دفع البرامج البيئية في الأردن. وقد قبلت الدعوة واكتشفت أن الرجل وزوجته قد تمكنا من منع أكبر شركات التعدين الفرنسية التي أرادت أن تنجم «البوكسايت»، أو المادة الخام للألمنيوم في منطقة «بوريون» قرب باريس، ومنعوها من ذلك. وقد انزلاني في بيت قديم محسوب على أنه تراث فرنسي وطني.
وبموجب هذا التصنيف لم يستطيعوا خلع قطعة خشبية قُطرية تعلو بقدم واحد عن «البانيو» الذي كنت استحم به، مما سبب لي صعوبة في الاستحمام بسبب صعوبة الدخول للبانيو، وقد تورمت جبهتي ورأسي بعدة كدمات بسبب اصطدامي المستمر في قطعة الخشب الأثرية.
ولقد بدأ الاهتمام بالبيئة يتزايد بعد عقد مؤتمر الأرض في مدينة «ريو دي جانيرو» في البرازيل عام 1992. وقد احتد النقاش بين الدول النامية التي رأت في شروط البيئة المطلوب تطبيقها قيداً كبيراً على فرص نموها، والدول الغنية، وفي عام 1994 عُقد مؤتمر في السويد، أُقترح فيه اعادة توزيع الصناعات الثقيلة الملوثة في العالم من الدول الصناعية ذات الكتلة السكانية المنخفضة إلى الدول النامية التي يكثر الشباب فيها. وفي مؤتمر باريس اجمعت الدول الحاضرة عام 2016 على ما سُمي باتفاقات باريس للبيئة. ولكن الرئيس «ترامب » الذي استلم الرئاسة في الولايات المتحدة في 20/1/2017 اتخذ في بداية فترته قراراً بالانسحاب من ذلك الاتفاق الباريسي. ولكن الرئيس جو بايدن الحالي عاد إلى ذلك الاتفاق بعد استلامه الرئاسة في 20/1/2021.
ستبقى قضايا البيئة بين كر وفر، وبين شد ورخي. وهذا يقودنا إلى قضية النحاس في محمية ضانا في مدينة الطفيلة والذي أحيل إلى إدارة الجمعية الملكية لحماية الطبيعة التي كان المسؤول عنها وعن إنشائها بالدرجة الأولى الراحل أنيس المعشر والذي كان يهتم ببعض المحميات مثل الازرق ومحميات صغيرة في عجلون والسلط وغيرهما. وقد كان واضحاً أن هذه المحميات تستحق الحماية بدون جدل كبير، وذلك لأن الحفاظ عليها لا يتعارض مع المصالح المعيشية للسكان المقيمين بالقرب منها. أما محمية ضانا فقد كانت موضوع نقاش خفي وصراع تحت الأضواء منذ اكتشاف النحاس على مساحات واسعة منها، علماً أن العمل على تحويل وادي ظانا إلى محمية قد بدأ عام 1989، وترسخ بقرار حكومي عام1994، وانتهى العمل على تجهيزها عام2001، والمحمية صار لها سمعة دولية. وتجذب الكثير من الناس إليها.
إذا صدقت الأرقام التي تتداولها بعض المواقع نقلاً عن مصادر رسمية أن حجم المواد الخام من النحاس يبلغ (45) مليون طن، وأن سعر الطن الخام -حسب هذه المصادر- يصل إلى (9000) دولار، على افتراض أن هذا السعر ثابت، فإنه قيمة الأرصدة الموجودة هنالك تساوي بحسبة بسيطة وقبل احتساب تكاليف التعدين حوالي (400) مليار دولار أو ما يساوي بالحساب البسيط عشرة أمثال الناتج المحلي الإجمالي، او عشرة أمثال كامل ديون الحكومة الأردنية، سواء الدين العام الخارجي أم الداخلي بما في ذلك دين شركة الكهرباء(نيبكو Nepco). ولو افترضنا أننا قررنا أن يكون عمر المشروع 25سنة فهذا يعني أن الأردن سيحصل على رقم إجمالي سنوي تقارب قيمته حوالي (16) مليار دولار أو زيادة نسبتها حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي الحالي.
طبعا هذا هو الحساب البلدي، أما في حقيقة الحال، لو افترضنا ان كلف التّعدين والشركات الأجنبية صاحبة الخبرة تكلف الأردن مليار دولار سنوياً على الأقل، فإن المشروع يجب أن يُدر بين 13-15مليار دولار سنوياً.
هل هذه الأرقام صحيحة؟.. لماذا لا تقوم الجهات الرسمية المعنية بتوضيح الأمور للشعب الأردني؟ حيث أن سموم الشائعات والتخيلات تملأ الفضاء السبراني، وكلها حقائق افتراضية. فهل من يعطينا حقائق واقعية لكي يحكم الناس لصالح البيئة أم لصالح المشروع؟
وبعد انتهائي من كتابة هذا المقال، اطلعت على تصريح لوزيرة الطاقة والثروة المعدنية تقول فيه إن حجم الخامات من النحاس هو 40 مليون طن وليس 45 مليون طن. إذن هذا يعني أن الدخل السنوي على مدى 25 سنة لن يقل عن 12 مليار دولار صافية. فهل هذا صحيح؟ نريد التأكيد بشكل واضح وبأسلوب علمي مقنع. وحتى هذه اللحظة لم نحصل على ذلك. الرأي
لم تقم أي صناعة كبرى في الأردن دون أن يصاحبها جدل ونقاش، على قلة المساحة الإعلامية المفتوحة للناس في خمسينيات القرن الماضي.
وقد أثيرت حول كل صناعة، خاصة شركات الامتياز، جدليات كثيره تتعلق بجدوى المشروع تحت الاعتبار، أو بتاريخه، أو القدرة على تشغيله، أو بالشركاء الذين سيقومون به. وبعدما أنشئت هذه المصانع أثيرت تساؤلات كبيرة حول تقلب أدائها، وحول سياساتها التوظيفية سواء كان التركيز على تشغيل أبناء المنطقة التي يقع فيها المشروع أو أن يكون التشغيل مفتوحاً على سائر أنحاء المملكة، وحول آثارها البيئية، ومن المسؤول عنها، وغيرها من الامور.
وقد عدت إلى موقع شركة البوتاس، وإلى ما كتب عن تاريخ الشركة في الويكيبيديا، ووجدت أن الاتفاق على تأسيسها قد اتخذ عام 1956. ولم تستكمل إجراءات تسجيل الشركة ومنحها امتيازاً لمئة عام إلا في نهاية عام 1957، ولم تبدأ في الإنتاج إلا عام 1958 بكميات قليلة وبوسائل محددة، حيث يباع معظم ذلك الإنتاج إلى دولة أو أو دولتين احداهما مصر.
ولكن التاريخ الحقيقي يقول إن التفكير في المشروع قد بدء به قبل قيام إسرائيل أي عام 1930، حيث منحت حكومة الانتداب في فلسطين وحكومة الانتداب في شرق الأردن امتياز استخراج الأملاح من البحر الميت لشركة فلسطين للبوتاس. وقد كانت الشركة قد سُجِلت كشركة مساهمة محدودة في إنجلترا عام 1929. وفي عام 1936 بدأت الشركة تحقق أرباحاً. وفي حرب عام «1948» وقعت منشآت الشركة في الجزء الشمالي تحت سيطرة الجيش العربي الأردني ولكن معظم هذه المنشآت تعرضت للدمار بفعل الحرب.
وفي عام 1951 بدأ الأردن يفكر في إقامة مشروع البوتاس في البحر الميت. ولكن أسعاره في ذلك الوقت كانت تنخفض فتحجم بعض الدول العربية عن الاستثمار في المشروع خشية الخسارة. ولما كانت الأسعار ترتفع. يُفْتح ملف المشروع ثانية ولكن ما يكاد المشروع يقنع المستثمرين بجدواه حتى تنخفض الأسعار العالمية ثانية، فيفقد المشروع جدواه. وبقي الأمر على هذا المنوال بين جذب وشد حتى قام المشروع عام 1956 كما ذكر أعلاه.
ولقد أقيم مشروع الأسمدة الأردني في منتصف سبعينيات القرن الماضي في العقبة بمساهمة من شركتي الفوسفات والبوتاس. ولكن تبين أن هذه الصناعة ينتج عنها مخلفات «الجيبس» التي تشكل جبلاً أبيض في العقبة. مثلما تفعل صناعة الأسمنت الأردنية التي ينتج عنها أيضاً مخلفات الجيبس التي تشكل حسب عدد من الدراسات تلوثاً للبيئة وتأثيراً سلبياً على مصادر المياه.
ولذلك كانت صناعة الأسمدة الأردنية موقع شد وجذب، خاصة بسبب مادة الجيبس التي يخشى من آثارها الصحية والبيئية السالبة، ولكن الصناعة قامت وقامت بعدها صناعات أسمدة أخرى لإنتاج حامض الفوسفوريك مع دول هامة مثل الهند واليابان وغيرهما. والسؤال الآن: من سيتغلب في النهاية المنطق الاقتصادي المالي أم المنطق البيئي؟ ولا يوجد حل كامل. فمراعاة البيئة تنطوي على خسائر فرص بديلة لتحسين الاقتصاد الأردني والدفع به إلى الأمام لتحسين فرص الحياة وإيجاد فرص عمل مطلوبة بالحاح وتغذية خزائن المملكة بالعملات الأجنبية. أم أن الأفضلية يجب أن تعطى للبيئة؟ لكل رأي حساباته وأرباحه وكُلَفه، ولا يوجد على الأقل في المدى القصير والمتوسط حل كامل.
ورحب أهل الفحيص في خمسينيات القرن الماضي بمصنع الفحيص للاسمنت حينما أنشئت شركة الأسمنت الأردنية. وقد أدت الشركة في بداياتها إلى خلق فرص استثمارية في المدينة. ورفعت أسعار العقار. ولكن لما كبرت الشركة. وزاد عدد أفرانها فقد بدأ الغبار الناجم عن عملياتها الإنتاجية من صهر وطحن وتعبئة يؤرق سكان المدينة.
وازداد هذا الأمر بروزاً عندما شُيِّد قصر الهاشمية وسكنه الراحل جلالة الملك الحسين وصار يستفيق يومياً على الغبار المنبعث منه. وقامت الشركة أيامها بشراء مراوح كبيرة ووسائل أخرى لامتصاص الغبار والتقليل من انبعاثاته وإطلاقها في الجو إلى مسافات تفوق ارتفاعاً تلال الفحيص. ولكن الشركة ورغم إغلاقها لكل أفرانها في الفحيص وانتقالها للعمل في موقعها بالرشادية في منطقة الطفيلة، قامت عليها دعاوي بيئية طالبت بالتعويض عن الضرر الناجم عنها. وقد تكبدت الشركة تعويضات لسكان المدينة تفوق خمسين مليون دينار حتى الآن.
ومع مرور الوقت وانشاء وزارة للبيئة، فإن قضايا البيئة تنال اهتماماً اكثر. ولا نشهد نحن في الأردن عند تناولنا موضوع البيئة والخيار بينها وبين الاستثمارات الصناعية إلا وتثور هذه القضية. ولقد كان مصنع البطاريات في المدينة الصناعية بمحافظة الزرقاء موضوع جدل كبير خاصة للسموم التي كان يسببها الرصاص المستخدم في الصناعة. ولما كنت وكيلاً لوزارة العمل عام 1977. وجدنا أن طلاب مدرسة بالقرب من المصنع كانوا يلعبون عند مدفن نفايات الرصاص. قد تعرضوا للتسمم، وفُرِضَ على المصنع تولي كلفة معالجتهم، وكذلك فُرِضَ عليه أن يقدم الحليب مجاناً للطلبة حتى يخفف من آثار التسمم بالرصاص. وقد اغلق المصنع. وكذلك كانت شركة الدباغة التي تلوث المياه. وقد نتج عن كتلة الصناعات غير المراعية للبيئة آثار كبيرة أهمها بركة البيبسي في مدينة الزرقاء التي نأمل في أن حلاً لها قد اتفق عليه وانه قيد التنفيذ.
إن استخدام السيارات للبنزين والديزل وغيرهما من المشتقات النفطية يشكل سبباً رئيسياً في تلوث البيئة في الأردن. وبناء المساكن في الأردن فوق أحواض المياه يكلف الأردن غالباً في إنقاص الكميات المتاحة ورفع كلفة تنظيفها وإعادة تدويرها. واستخدام المبيدات الحشرية له أيضا الكلفة العالية من حيث التأثير على حياة النباتات والطيور، وتسميم السلع والتربة وقتل النحل وغيرها.
ولكن السؤال الكبير الذي يبقى بعد ذلك هو: لو أننا قمنا بالتحيز للبيئة كلية وأوقفنا النشاط الاقتصادي حتى نجد الحلول البيئية المناسبة، فماذا ستكون النتيجة؟ هنالك أحراش وغابات في لواء الكورة وعجلون وجرش والسلط وغيرها. ونحن حريصون على بقائها، وتنظيم التحطيب فيها، فماذا يفعل من لا يجد فرصة عمل، او من يغريه اعتزازه بمكانته المحلية للاعتداء على هذه الغابات؟ ويجد كل هؤلاء من يتعاون معهم من موظفي الحكومة. وليس أمام هؤلاء خيار سوى أن يستمر في هذا العمل المنافي للبيئة. نحن نسرق ثرواتنا الوطنية من ماء وكهرباء وأشجار وخطوط جهاراً ونهاراً بسبب قلة النمو. فما هو الحل إذن؟
لا شك أن لتجاهل البيئة مشاكل، وقد أصبحت البيئة الآن اكثر اعتباراً في الدول النامية. واذكر إنني دعيت عام 1989 لزيارة فرنسا من قبل شخص مدافع عن البيئة بشراسة وزوجته مدام «بو' لكي أتعاون معهما في دفع البرامج البيئية في الأردن. وقد قبلت الدعوة واكتشفت أن الرجل وزوجته قد تمكنا من منع أكبر شركات التعدين الفرنسية التي أرادت أن تنجم «البوكسايت»، أو المادة الخام للألمنيوم في منطقة «بوريون» قرب باريس، ومنعوها من ذلك. وقد انزلاني في بيت قديم محسوب على أنه تراث فرنسي وطني.
وبموجب هذا التصنيف لم يستطيعوا خلع قطعة خشبية قُطرية تعلو بقدم واحد عن «البانيو» الذي كنت استحم به، مما سبب لي صعوبة في الاستحمام بسبب صعوبة الدخول للبانيو، وقد تورمت جبهتي ورأسي بعدة كدمات بسبب اصطدامي المستمر في قطعة الخشب الأثرية.
ولقد بدأ الاهتمام بالبيئة يتزايد بعد عقد مؤتمر الأرض في مدينة «ريو دي جانيرو» في البرازيل عام 1992. وقد احتد النقاش بين الدول النامية التي رأت في شروط البيئة المطلوب تطبيقها قيداً كبيراً على فرص نموها، والدول الغنية، وفي عام 1994 عُقد مؤتمر في السويد، أُقترح فيه اعادة توزيع الصناعات الثقيلة الملوثة في العالم من الدول الصناعية ذات الكتلة السكانية المنخفضة إلى الدول النامية التي يكثر الشباب فيها. وفي مؤتمر باريس اجمعت الدول الحاضرة عام 2016 على ما سُمي باتفاقات باريس للبيئة. ولكن الرئيس «ترامب » الذي استلم الرئاسة في الولايات المتحدة في 20/1/2017 اتخذ في بداية فترته قراراً بالانسحاب من ذلك الاتفاق الباريسي. ولكن الرئيس جو بايدن الحالي عاد إلى ذلك الاتفاق بعد استلامه الرئاسة في 20/1/2021.
ستبقى قضايا البيئة بين كر وفر، وبين شد ورخي. وهذا يقودنا إلى قضية النحاس في محمية ضانا في مدينة الطفيلة والذي أحيل إلى إدارة الجمعية الملكية لحماية الطبيعة التي كان المسؤول عنها وعن إنشائها بالدرجة الأولى الراحل أنيس المعشر والذي كان يهتم ببعض المحميات مثل الازرق ومحميات صغيرة في عجلون والسلط وغيرهما. وقد كان واضحاً أن هذه المحميات تستحق الحماية بدون جدل كبير، وذلك لأن الحفاظ عليها لا يتعارض مع المصالح المعيشية للسكان المقيمين بالقرب منها. أما محمية ضانا فقد كانت موضوع نقاش خفي وصراع تحت الأضواء منذ اكتشاف النحاس على مساحات واسعة منها، علماً أن العمل على تحويل وادي ظانا إلى محمية قد بدأ عام 1989، وترسخ بقرار حكومي عام1994، وانتهى العمل على تجهيزها عام2001، والمحمية صار لها سمعة دولية. وتجذب الكثير من الناس إليها.
إذا صدقت الأرقام التي تتداولها بعض المواقع نقلاً عن مصادر رسمية أن حجم المواد الخام من النحاس يبلغ (45) مليون طن، وأن سعر الطن الخام -حسب هذه المصادر- يصل إلى (9000) دولار، على افتراض أن هذا السعر ثابت، فإنه قيمة الأرصدة الموجودة هنالك تساوي بحسبة بسيطة وقبل احتساب تكاليف التعدين حوالي (400) مليار دولار أو ما يساوي بالحساب البسيط عشرة أمثال الناتج المحلي الإجمالي، او عشرة أمثال كامل ديون الحكومة الأردنية، سواء الدين العام الخارجي أم الداخلي بما في ذلك دين شركة الكهرباء(نيبكو Nepco). ولو افترضنا أننا قررنا أن يكون عمر المشروع 25سنة فهذا يعني أن الأردن سيحصل على رقم إجمالي سنوي تقارب قيمته حوالي (16) مليار دولار أو زيادة نسبتها حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي الحالي.
طبعا هذا هو الحساب البلدي، أما في حقيقة الحال، لو افترضنا ان كلف التّعدين والشركات الأجنبية صاحبة الخبرة تكلف الأردن مليار دولار سنوياً على الأقل، فإن المشروع يجب أن يُدر بين 13-15مليار دولار سنوياً.
هل هذه الأرقام صحيحة؟.. لماذا لا تقوم الجهات الرسمية المعنية بتوضيح الأمور للشعب الأردني؟ حيث أن سموم الشائعات والتخيلات تملأ الفضاء السبراني، وكلها حقائق افتراضية. فهل من يعطينا حقائق واقعية لكي يحكم الناس لصالح البيئة أم لصالح المشروع؟
وبعد انتهائي من كتابة هذا المقال، اطلعت على تصريح لوزيرة الطاقة والثروة المعدنية تقول فيه إن حجم الخامات من النحاس هو 40 مليون طن وليس 45 مليون طن. إذن هذا يعني أن الدخل السنوي على مدى 25 سنة لن يقل عن 12 مليار دولار صافية. فهل هذا صحيح؟ نريد التأكيد بشكل واضح وبأسلوب علمي مقنع. وحتى هذه اللحظة لم نحصل على ذلك. الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/29 الساعة 03:45