الحقوق الدستورية بين التنظيم والتقييد

مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/29 الساعة 03:43
أثارت مجموعة التشريعات التي اقترحتها هيئة الإعلام حول الحق في حرية الرأي والتعبير بواسطة الوسائل الإلكترونية موجة من الانتقادات القانونية، حيث يرى فيها الصف الإعلامي خروجا عن مفهوم التنظيم لصالح التقييد وإفراغ هذا الحق من مضمونه.

إن الخلاف في إطار ممارسة الحقوق والحريات الدستورية بين الفرد والدولة بأجهزتها المختلفة هو صراع أزلي تمتد جذوره عبر التاريخ ويستمر إلى يومنا هذا وإلى المستقبل. فعلاقة الفرد بدولته في مجال الحقوق والحريات دائما ما يشوبها اختلاف في وجهات النظر، إذ تسعى الإدارة إلى فرض القيود والضوابط على هذه الحقوق بحجة المحافظة على النظام العام وصون المجتمع الديمقراطي، في حين يتمسك الفرد بحدود عليا لممارسة حقوقه وحرياته.

إن نقطة الانطلاق في مجال الحقوق الدستورية تكمن في الاعتراف بأن الحرية لم تكن في يوم من الأيام مطلقة ولن تكون. فالفرد يعيش مع غيره في مجتمع تحكمه سلطة سياسية، تسعى إلى التوفيق بين المصالح التي قد تتعارض عند ممارسة الأفراد لحقوقهم، مع حريات الآخرين من جهة والمصلحة العليا من جهة أخرى. فالنظام الديمقراطي قائم على فلسفة وجود حقوق وحريات للأفراد مصدرها القانون الطبيعي، بمعنى أن الجزء الأكبر من حقوق الفرد تثبت له بمجرد ولادته حيا، وأنه يتعين على كل من الدستور والقانون الكشف عنها وتنظيمها.

وهذا ما أكده الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 الذي نص على أن الناس يولدون ويظلون متساوين في الحقوق وأن هدف كل مجتمع سياسي هو صيانة حقوق الإنسان الطبيعية الخالدة. فإن كانت الحرية هي الأصل والقيد هو العارض، إلا أن التنظيم يعد أمرا لازما للحرية ومرافقا معها. فلا يتصور وجود حرية دون تنظيم لها، والقول بخلاف ذلك سيؤدي في المحصلة النهائية إلى الفوضى. وهذا الاقتران بين الحرية والتنظيم معلق على شرط جوهري مفاده أن لا يؤدي التنظيم إلى مصادرة الحرية، وإنما أن يكون داعما لها ومساعدا على ممارستها.

وفي هذا المجال يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري إن المقصود بالتنظيم في مجال الحقوق والحريات الدستورية هو ذلك الإجراء الذي يرد على كيفية استعمال الحرية ولا يتضمن عدوانا عليها أو الانتقاص منها. أما التقييد، فإنه يرد على أصل الحرية فينتقص منها بشكل يحول دون ممارستها بالشكل الصحيح الكامل.

إن معيار التمييز بين تنظيم الحرية وتقييدها كما قرره الفقيه السنهوري هو معيار موضوعي بحت. فهو ينظر إلى الحرية بذاتها وعناصرها المكونة لها، ويعتبر الإجراء تنظيميا إذا كان الهدف منه بيان كيفية استعمال ذلك الحق، على أن يكون الحكم تقييديا للحرية إذا كان الهدف منه الانتقاص من جوهرها وكيفية ممارستها.

لقد تبنى الدستور الأردني معيارا مماثلا في مجال الحقوق والحريات الدستورية. فهو قد أحال مسألة تنظيم ممارسة هذه الحقوق إلى قوانين وضعية تصدر عن السلطة التشريعية، إلا أنه قد فرض العديد من القيود على السلطة التقديرية للمشرع عند التصدي لحقوق الأفراد وحرياتهم أهمها عدم التأثير على مضمون الحق وكيفية ممارسته. وهذا ما أكدته المادة (128/1) من الدستور التي تحظر على القوانين التي تصدر لتنظيم الحقوق والحريات أن تؤثر على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها. والقول بخلاف ذلك يجعل من ذلك القانون الناظم للحقوق والحريات مخالفا للدستور، وحري بالطعن به بالإلغاء أمام المحكمة الدستورية.

أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/29 الساعة 03:43