الأردن والولايات المتحدة

مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/22 الساعة 02:28
كتب: د. جواد العناني
من وحي المئوية (28) الأردن والولايات المتحدة
في نهاية شهر أيار (مايو) من عام 1948، كنت أسكن في بلدة حلحول حيث ولدت، وشاهدت فوق رأسي طائرات حربية تحوم في سماء البلدة، وعلى ارتفاعات منخفضة. وقد استطعت أن أرى الطيار الاسرائيلي وقد اعتمر قلنسوة كالتي كان يلبسها الطيارون في الحرب العالمية الأولى. والتقت عيناي بعينيه المختبئتين خلف نظاراته الشمسية، ورفع يده ملوحاً لي، وغادر المكان.

بقيت هذه الصورة عالقة في ذهني حتى كان اليوم الأخير من شهر نيسان (ابريل) عام 1975، حيث كنت أنهي كتابة رسالة الدكتوراه في جامعة جورجيا بالولايات المتحدة.

في تلك الفترة كنت مركزاً كل اهتمامي على الكتابة حتى اتخرج وأرجع للأردن. وفجأة نادتني زوجتي لتقول لي تعال شوف... تعال. وذهبت لأرى منظر أناس يركضون وراء طائرات الهيلوكبتر الأميركية، وهي تسعى جاهدة للتحليق رغم إصرار اللاحقين بها ولهفتهم على التمسك بها أملاً في النجاة. كانت ملاذهم الأخير. وقد شاهدت بعد ذلك التاريخ بسنوات المسرحية الغنائية «مِسْ سايقون» والتي تعيد تلك المشاهد الأخيرة.

وها هي القصة تتكرر قبل أيام في مطار كابول، حيث ركض مئات الأفغان من الرجال والنساء والأطفال خلف الطائرة العسكرية الأميركية (C-130) متشبثين بها، وهي تندفع بالسرعة الممكنة على «التارماك»، لكي تصل إلى احد مُدرَّجَيْ المطار لكي تقلع إلى جهة خارج كابول.

كلها مشاهد دامية. ولكن الانسان يتساءل «ألم يتعلم الأميركان من دروس التاريخ؟» ولكن الذي يبدو أن ما قاله الفيلسوف الانجليزي «ألدوس هَكْسلي ينطبق عليهم وهو «أنَّ عدم تَعَلم كثير من الناس من دروس التاريخ هو أكبر درس يتعلمه الانسان من دراسة التاريخ».

لقد غر الأميركان ما قام القائد العسكري «دوغلاس ماك آرثر» بفرض اصلاحات سياسية على اليابان المهزومة عسكرياً بعد رميها بقنبلتين ذريتين عام 1945. وكرر الأميركان نفس التجربة من دون قنابل نووية في كوريا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. وما زالت كوريا الشمالية تشكل الشجا في حلق الولايات المتحدة، كما يقول الشاعر الجاهلي سُوَيْد بن ابي كاهل بن حارثه اليشكري:

رُبَّ مَن أنضجت غيظاً قلبه

قد تمنى لي موتاً لم يُطَع

ويراني كالشجا في حَلْقِهِ

عَسِراً مخرجه ما ينتزع

ثم كانت حرب فيتنام في ستينات القرن الماضي. وبعد أكثر من عشرة أعوام خرج الأميركان منها كما ذكرت أعلاه، ولم يحققوا الكثير، بل خرجت فيتنام رغم الجوع والدعاية وأفلام رامبو منتصرة موحدة متفوقة على النابالم والسمسوم.

ثم جاءت حرب أفغانستان التي خسرها الروس من قبلهم بجدارة، وكانت تلك الخسارة مقدمة لتحول جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تشكل جزءاً مهماً من الاتحاد السوفياتي كمصدر ثروة ومتعة إلى نقطة ضعف واضحة في خاصرة ذلك الاتحاد، والذي لم يستغرق عقد من الزمان قبل أن ينفرط عقده، ويجد الراحة في الحفاظ على روسيا وجمهورياتها، ويترك وسط آسيا، ودول البلطيق، ودول شرق أوروبا لكي يعيد لملمة نفسه في مساحة أصغر، ولكنها قابلة للحماية.

ودخل الأميركان بايعاز من جورج بوش الابن الذي غزا الأفغان أولاً والعراق ثانية حتى كاد الأخير أن يقع بالكامل تحت سيطرة ايران عدوة الولايات المتحدة. وكان قبل ذلك قد غزا أفغانستان على أساس أن الدولة المحكومة من الطالبان كانت ترعى وتدعم ابن لادن وحركته القاعدة، والتي اتهمت بأنها كانت وراء تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001. وهاهم يخرجون من هنالك بعد عشرين سنة بصورة تذكرنا بما جرى في فيتنام قبل أكثر من (46) سنة.

قبل أسبوعين من تاريخ نشر هذه المقالة، كانت الولايات المتحدة ورئيسها المحترم «جو بايدن»، يخططون على مهلهم لخروج آمن من أفغانستان. ولكن حساب السرايا اختلف عن وقائع القرايا. وإذا بالتخطيط المعتمد أن العاصمة «كابول» ستبقى في منأى عن سيطرة الطالبان عليها ما يعطي القوات الأميركية وقوات الناتو الفرصة الكافية للنظر في أوراق الهجرة للأفغان الذي عملوا معهم، واتخاذ القرار المناسب بشأنهم ينقلب بين غمضة عين وانْتِباهِتها إلى مشهد مأساوي بكل ما في الكلمة من معنى.

ويتذكر المرء سورة الكهف وكيف تتغير الأمور ما بين لحظة وأخرى. وأن مثل هذه الأمور لا تحدث استثناء، بل ربما هي القاعدة الأساسية العامة. وفي سورة الكهف يقف صاحب الجنتين يتباهى فيأتيه بعد ذلك ما لا يسره «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا». ثم نرى أهل الكهف يرسلون أحدهم ليشتري لهم طعاماً. ولما وجدوا أن دنانيره قد سكت قبل أكثر من ثلاثمائة عام لحقوه إلى الكهف، ولما دخله مات هو ومن معه من صحبه». الموت لا يأتي إلا فجأة، وقس على ذلك.

ولست هنا في معرض التفكر في سنن الخالق، ولكن هكذا هي الدنيا. ومنطق «أثر الفراشة» نراه مطبقاً أمام أعيننا. فلو رفَّت فراشة جناحيها في الصين، في الوقت والترتيب المناسبين، لأحدثت أثراً على نظام الرياح صغيراً لا يكاد يذكر، ولكنه بسبب ترتيب حركة الريح ينمو ويكبر بسرعة حتى إذا ما وصل خليج المكسيك في الولايات المتحدة حيث يلتقي المحيطان الأطلسي والهادي. فإذا برفة جناح الفراشة تصبح إعصاراً شديداً.

وللتذكير نشر أستاذ التاريخ بول كينيدي بحامعة «يال» الأميركية (Yale University) عام 1989 كتاباً بعنوان «صعود وسقوط القوى العظيمة: التغير الاقتصادي والصراع العسكري».

وقد استعرض في الكتاب صعود القوى الاستعمارية الأوروبية مثل بريطانيا، فرنسا، هولندا، اسبانيا، البرتغال، بلجيكا، وغيرها. وبين بالأرقام مكاسب هذه الدول من المستعمرات حيث غذّت خزائنها بثروات هائلة في القرنين الأولين خلال الفترة (1500-1980) ولكنها بسبب الصراع مع المناطق المُسْتعمَرة، وما بين الدول الأوروبية المُستعمِرة، تحول المكسب إلى خسائر، واضطرت هذه الدول إلى التخلي عن المستعمرات، ولم تعد امبراطوريات كبيرة، بل صارت دولاً تجاهد كي تبقى، واستثنى الكاتب الولايات المتحدة من ذلك التحليل لأن الولايات المتحدة دولة كبيرة، معتمدة على ذاتها في مواردها الجمّة، وتفتح أبوابها للهجرة مما يجدد شبابها وقدراتها باستمرار.

وقد نشر المؤلف كينيدي كتابه بعدما بدأت ملامح التفكك تظهر على الاتحاد السوفياتي، وفي نفس العام الذي نشر فيه الكتاب، ألقى الرئيس الأميركي رونالد ريغان خطاباً يوم 12 حزيران (يونيو) 1987طالباً من الرئيس الروسي أن يهدم جدار برلين. وقد حصل ذلك بعد عامين ونصف العام تقريباً.

ونُشِرَ الكتاب كذلك، بعدما نجح الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر في اختراق الحائط الحديدي للصين، واللقاء مع الرئيس الصيني الراحل ماوتسي تونغ، وبداية ما سمي آنذاك بدبلوماسية «البينغ بونغ» وبعدما توفي الرئيس ماو عام 1976، واستولت عصابة الأربعة على الحكم بعد موته أي بعد عشر سنوات من إطلاق الثورة الثقافية التي قتلت الآلاف من المعارضين لها. ولكن مع مطلع الثمانينات تولى الحكم رئيس جديد » دينج شياو بينج »، الذي أنهى عصابة الأربعة ووضع نهاية للثورة الثقافية، وانفتحت الصين على العالم.

من بعد ذلك، برزت الولايات المتحدة، بسبب الأحداث والتحولات الكبيرة في الصين، والاتحاد السوفياتي كالقطب الأوحد المسيطر على المشهد العالمي. وقد ظهر ذلك جلياً في التحالف المعقود بين مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة ورونالد ريغان في الولايات المتحدة.

ولما تولى شاب جديد اسمه » وليام جيفرسون كلينتون» الرئاسة الأميركية منتصراً على جورج بوش الأب عام 1992، تأكد أن الولايات المتحدة هي القادرة على فرض نفسها ودولارها ومؤسساتها على العالم. والتهت كل من الصين وروسيا وأوروبا بمشاكلها، وحصل السلام بين الأردن ومنظمة التحرير من ناحية واسرائيل من ناحية عام 1994. ودخل الأردن في مرحلة جديدة من العلاقات العميقة مع الولايات المتحدة.

ولا شك أن الراحل الملك الحسين، هو الذي جلب انتباه الادارات الأميركية المتلاحقة للأردن ودوره. وقد واجهت هذه العلاقة عدداً من التحديات عام 1967، وعام 1973، وعام 1991. وأخيراً في العامين الأخيرين من حكم دونالد ترامب. لقد تمكن ملوك بني هاشم، الحسين وعبدالله الثاني، بذكاء وفطنه من ترسيخ تلك العلاقات. وقد زاد من أهمية تلك العلاقة للاعتبارات الاستراتيجية الأميركية هو قدرة الادارة الأردنية العليا على التكيف مع الظروف والقدرة على تجاوز تحديات لم تستطع دول أغنى من الأردن مواجهتها. وبكل المقاييس والاعتبارات صار الأردن نقطة ارتكاز مهمة للاستراتيجية الأميركية الحديثة. وكان هذا واضحاً في الزيارة الأخيرة التي قام بها جلالة الملك عبدالله الثاني وسمو ولي عهده الأمير الحسين بن عبدالله إلى واشنطن، وكانت مثمرة بكل المقاييس.

بقرار الولايات المتحدة الخروج من افغانستان، فهي تتخذ قراراً استراتيجياً لإعادة هيكلة سياساتها الدولية، واعادة تموضع قواتها بحيث تقلل من إنفاقها الخارجي الذي بات يشكل عبئاً كبيراً عليها من غير طائل. فالولايات المتحدة لا تريد أن تبقى عريفة على العالم، ولها أولوياتها. ولأنها تريد إعادة ترتيب أولوياتها بشكل أقل كلفة وأكثر فاعلية، فإن الأردن هو الدولة القادرة على الاستفادة الكبرى من هذا الوضع.

كل من يتنبأ بقرب انتهاء الولايات المتحدة في القريب العاجل متفائل أو متشائم أكثر من اللازم. فهذه الدولة لا ينطبق عليها ما ينطبق على الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية. ولكنها تواجه تحديات أكبر من قِبَل الدول التي خضعت أمامها في نهايات القرن الماضي وحتى عام 2010، لقد أصبحت دول مثل الصين خاصة وروسيا منافسة في الساحة الدولية. وانتهى عصر الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم، وكمصدر للاشعاع التكنولوجي الوحيد في العالم. ولذلك، فإن الولايات المتحدة تعيد كما تفعل دائماً–التفكير في استراتيجيتها. ولن تتخلى عن دورها في منطقتنا لأنها لا يمكن أن تسمح لخصومها الروس والصين أن يحلوا مكانها فيها.

سياسة الملك عبدالله الثاني تميل إلى التحالف مع الولايات المتحدة، ولكنها تبقي علاقاتها مع الصين وروسيا وأوروبا واليابان والهند. وهذه هي الدول المؤثرة في العالم. ولا يستطيع الأردن أن يتخلى في سياسته الخارجية عن أمرين. الأول أن يكون له عمق عربي يرى أنه مع مصر والعراق حالياً، ومع دول أخرى مثل سوريا قريباً، وبعض دول الخليج. والثاني أنه بحاجة إلى سند قوي من دولة عظمى دون التنازل عن علاقات مرنة وحسنة مع الأقطاب العالمية الأخرى.

إن علاقتنا مع الولايات المتحدة مهمة جداً، ولها كلفها، ولها عوائدها. وإذا نجحنا في المساهمة بحل القضية الفلسطينية وإعادة الزخم الاقتصادي في الأردن، وفي عملية الاصلاح السياسي والاداري، فإن الأردن مقبل على سنوات ازدهار طويلة لن تخلو من التحديات، ولكنها ستكون أحسن من السنوات العشر الماضيات، وبكثير جداً. الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/22 الساعة 02:28