جواد العناني يكتب: كيفية الوصول إلى المناصب في الأردن

مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/15 الساعة 00:29
من وحي المئوية (27) كيفية الوصول إلى المناصب (5)
كثر الحديث حول حكومة د.عبد السلام المجالي الأولى، والتي استمرت من نهاية شهر أيار عام 1993و حتى نهاية عام 1994، حيث عملت لمدة سنة وسبعة أشهر.

وقد كان واضحاً أن أمام الحكومة قضيتين أساسيتين؛ الأولى هي اتمام عملية السلام، والثانية النهوض بالاقتصاد الأردني، والذي كان ما يزال يعاني من ارتفاع نسبة المديونية. وآثار انخفاض الدينار مقابل الدولار في بدايات عام 1989، ومن المقاطعة المفروضة ضد العراق، ومن غضب أهل الخليج من موقف الأردن بعدم المشاركة في التحالف ضد العراق عام 1991.

ولقد بذلت الحكومة، وبخاصة وزير المالية آنذاك سامي قموه، جهوداً حثيثة من أجل إعادة تخفيض المديونية وتخفيض قيمة الديون واستبدالها برأسمال أردني أو ما يسمى بالإنجليزية (Debt Equity Swaps)، وساعدنا دخولنا إلى مفاوضات السلام تدريجياً في انفراج علاقاتنا مع دول تحب الأردن مثل الاتحاد الأوروبي (خاصة ألمانيا)، واليابان, وكذلك بدأت الولايات المتحدة في تفهم الموقف.

وقد بذل الأردن جهوداً كبيرة في ذلك الاتجاه. علماً أن السفن الحربية الأميركية كانت واستمرت في تفتيش السفن المتوجهة إلى العقبة، والطلب منها أن تكون حمولتها أقل من المعتاد حتى تسهل عملية التفتيش. وقد أدى هذا الأمر إلى رفع تكلفة الشحن والتأمين على المستوردات الأردنية..

وقد تسربت الشائعات في منتصف عام 1993 أن منظمة التحرير الفلسطينية بدأت في التفاوض مع وفد إسرائيلي في أوسلو، بترتيبات من وزير الخارجية النرويجي ومدير مكتبة «لارسون».. وقد تبين أن أستأذاً بجامعة تل ابيب اسمه «يآئير هيرشفيلد» قد كان أحد المرتبين لهذه المفاوضات مع رئيس الوفد الفلسطيني آنذاك السيد أحمد قريع.. ولما تسربت الأخبار جاءت ردة الفعل الأردنية مستنكرة لما جرى، ولكن جلالة الملك الحسين أصدر تصريحاً في اليوم التالي على انتشار الخبر يؤكد فيه حق الفلسطينيين في التفاوض من أجل الحصول على حقوقهم المشروعة وإقامة دولتهم المستقلة، ما ساهم في ترطيب الأجواء..

وقد ترأس وفد الأردن إلى المفاوضات آنذاك بدلاً من الدكتور عبدالسلام المجالي الدكتور فايز الطراونة، والذي عين أيضا سفيراً للأردن في واشنطن. وقد تغيرت تركيبة الوفد المفاوض ودخل إليها عناصر جديدة، مثل د.إبراهيم بدران، الدكتور هاني الملقى، د.دريد المحاسنة وغيرهم من الشباب آنذاك. أما أنا فقد أصبحت المنسق العام لعملية السلام..

وقد اخترت خمسة أشخاص لكي يعاونوني في المهام الكثيرة التي كنت أضطلع بها. وكان هؤلاء هم الدكتور باسم عوض الله الذي عين في الرئاسة مستشارا من قبل المرحوم سيادة الشريف زيد بن شاكر، وكذلك السيد عبدالله العدوان، والسيد محمد العساف، والسيد سند الزبن، وأخيرا وليس آخراً السيد محمد الحديد. وقد وجدت منهم جميعاً آنذاك رغبة دافقة للعمل لأنني قلت لهم في البداية «يا أخوان علينا شغل كثير. وأنا يمكن أطلب منكم الكثير. وإذا زعلت على واحد فيكم ما يواخذني ويقول هذا قاعد بتفلسف علينا، لأنني لا أعرف كثيراً عن العائلات وما بدي ازعل أهلكم وأنا أريدكم أن تقوموا بعملكم على أحسن وجه حتى لا يسألني حدا ليش أنا بزعل أبناء العائلات»، علماً أنني كنت أعرف كل واحداً منهم أصلاً وفصلاً.

وقد كان الشباب يأتون دوماً قبلي إلى الدوام ولا يغادرون مهما تأخرت إلا بعد أن أغادر.. وأعتقد أن السبب هو إنني جعلت احترامي لهم مرتبطاً بإنجازهم للعمل وليس مرتبطاً بنسبه أو عزوته أو عشيرته.

وبعد إعلان الاتفاق على أجندات المفاوضات في شهر ايلول (سبتمبر) عام 1993 بين كل من الأردن وإسرائيل أولا. ثم في اليوم التالي بين المنظمة وإسرائيل، لاحظنا أن الحماس للتفاوض مع الأردن قد فتر، وأن الوفد الإسرائيلي يخلق مشكلات ليست مبررة ولا مقنعة. واستمر الحال حتى شهر آذار من عام 1994. حين أفقت على هاتف بعد منتصف الليل من الديوان الملكي العامر. وبادرني السيد على شكري المرافق الخاص لجلالته بالقول «آسف على مكالمتك في هذه الساعة المتأخرة ولكن سيدنا يريدك أن تحضر إلى قصر جلالته «فتساءلت «الآن أم صباحاً». فقال ضاحكاً » يعني بده اياك قبل عشر دقائق».

ولم أدر كيف بدلت ملابس النوم ببدلة ولا كيف وصلت إلى القصور الملكية ولما دخلت فوجئت بالمغفور له بإذن الله يهبط من الدرج نحو الطابق الأرضي ويقول لي «أزعجناك» فاطرقت خجلا وجلس وقال لي أريدك أن تسافر إلى واشنطن، وتعمل جهدك لتحريك التفاوض. ولما سألت جلالته عن توجيهاته إلي قال لقد أصدرتها، وعليك الباقي.

ولما وصلت واشنطن، أصر د. فايز الطراونة أن انزل في منزل السفير. وذهبت في اليوم التالي إلى وزارة الخارجية، وتحادثت مع دينس روس واقنعته أن خير وسيلة للخروج من مأزق المفاوضات هو أن تقوم إسرائيل بابداء استعدادها لإرجاع الأراضي المحتلة الأردنية وحصته في المياه، مقابل أن يعلن الأردن استعداده لإنشاء علاقات دبلوماسية وسياسية مع إسرائيل. واتصل دينس روس مع وزير الخارجية «وارن كرسيتوفر» الذي استقبلني على جناح السرعة وشرحت له موقفي. واتفق ليلتها على أن أسافر إلى باريس للالتقاء في السفارة الأميركية هنالك مع شمعون بيريز، بعدما وافق كل من جلالة الملك الحسين واسحاق رابين على الإعلان المتزامن من كلا البلدين..

وعدت إلى عمان، واستقبلني جلالة الملك وشرحت له ما جرى، وكان بادياً عليه الرضا. وانتقلت بعد الظهر للقاء سمو الأمير الحسن بن طلال والذي أطلعته على ما جرى بحضور دولة الرئيس عبد السلام المجالي..

وبدأت بعدها المفاوضات في التحرك. وسافرنا مرتين في معية صاحب الجلاله إلى واشنطن واحدة في شهر حزيران 1994، وتلتها رحلة أخرى في شهر تموز. حيث أتفق على إعلان واشنطن. وألقى كل من جلالة الملك ورئيس الوزراء اسحق رابين خطاباً أمام الجلسة المشتركة للكونغرس الأميركي حيث لم أر تصفيقاً متكرراً وطويلاً في ذلك المكان إلى أن ألقى جلالة الملك عبدالله الثاني خطابه أمام الجلسة المشتركة للكونغرس أيام الرئيس أوباما وبعد ذلك بأكثر من (12) سنة.

وقد بدأ واضحا بعد تلك الزيارة أن السلام بين الأردن وإسرائيل قد صار قاب قوسين أو أدنى. وأن القضية ليست إلا قضية وقت.

أما على المستوى الداخلي، فإن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وافقا مع الفريق الاقتصادي للحكومة على فكرة إصدار قانون ضريبة المبيعات (قانون القيمة المضافة) ولم تكن أي جهة في الأردن مؤيدة لذلك القانون سواء كانت النقابات أم المستهلكين، أم البائعين، أم أعضاء مجلس الأمة آنذاك، وقد كان اكثر المعلقين والمتحدثين ضد مشروع القانون في حينه هو المهندس ليث شبيلات، والذي عمل أيضا رئيساً لنقابة المهندسين، وعضواً بارزاً في مجلس النواب منذ عام 1984. وقد كان يتمتع حينها بشعبية كبيرة. فقررت بصفتي وزيراً للإعلام، أن أسلط الضوء على تصريحات الأخ ليث وأعطيها الأهمية الإعلامية المضخمة. ولذلك صار هو البطل غير المتوج للمعارضة ضد القانون. واتصلت به لأسأله لماذا يعارض القانون فأبدى أسبابه. فقلت له بقصد التحدي ولكنك لا تعرف بالاقتصاد كثيراً. فقال «أنا أعرف اكثر منك».

وانتهى المطاف بأنني كتبت (12) سؤالاً طلبت من المذيع أن يسألها للسيد ليث شبيلات حسب الترتيب المكتوبة فيه. وكان آخر سؤال فيها «لماذا قامت نقابة المهندسين برفع نسبة الرسوم التي تأخذها على إجازة تصميمات الأبنية علماً أن النقابة لم تقدم مقابل هذا الرفع شيئاً؟ ثم طلبت من المذيع السيد أمجد أبده أن يوجه نفس الأسئلة إلى الراحل د. فهد الفانك وقلت له إن ينشر الإجابات من قبل الاثنين سؤالاً سؤالاً. ويُثبت كامل إجابتيهما على كل سؤال بدون حذف. ولما أذاع التلفزيون الأردني إعلاناً عن الندوة، اتصل بي السيد ليث شبيلات ساخطاً، فقلت له أنا لم اخالف اتفاقنا، بل احترمته. فقال ولكنك لم تقل لي إن الأسئلة ستعرض على احد غيري. فقلت له «ولماذا تخشى من ذلك، أنت طلبت مني أن انشر كل ما تقوله بدون حذف أو تغيير» وأنا احترمت ذلك. وطلب أن ارسل له شريطاً عن اللقاء الكامل الذي سيبث. وبعد أن رآه أبلغني أنه لا يمانع في نشر الحلقة. وبعدها فاز القانون بأغلبية الاصوات وصدر عام 1994.

وفي شهر أكتوبر، كُلف الامير الحسن بن طلال من قبل جلالة الملك الحسين أن يستضيف الجولة الأخيرة من المفاوضات في منزله في العقبة. وقد كان حاضراً من الأردن كل من السيد عون الخصاونة، ود. منذ حدادين، والمرحوم تحسين باشا شردم، وآخرون. وقد استطاع الوفدان أن ينجزا معظم النقاط بينما بقيت نقطتان لم يبت فيهما بشكل نهائي وهو ترسيم الحدود خاصة في مناطق نهر الأردن، والثانية إنجاز ملاحق الاتفاق حول المياه. وقد كنت مع الوفدين ارقب دون التدخل حتى أدع للمفاوضين حرية الإبداع. وفي مساء يوم 26 /10.. جاء رابين وبيريز وقائد الجيش الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس الوفد الياكيم روبنشتاين، وغيرهم. وعقدت مفاوضات برئاسة جلالة الملك. وعضوية د. عبد السلام المجالي، وأنا، ود.فايز الطراونة، ووزير الدولة لشؤون رئاسة الوزراء طلال الحسن. وبقينا نعمل طوال الليل حتى يتمكن الوفدان من الاتفاق على النقاط الأخيرة. وجلس الوفدان حوالي الساعة الثالثة صباحاً لعقد جلسة ختامية.

وسأل رئيس الوزراء الإسرائيلي جلالته قائلاً «أنت يا جلالة الملك حصلت على أرضك ومائك ورسمت حدودك وحافظت على دورك في القدس، وضمنت الأمان لدولتك المستقلة ولكن ماذا سأخذ أنا معي إلى شعبي غير السلام؟ «فقال له جلالة الملك «وما الذي تريده؟» فقال رابين «ولماذا لا نوقع اتفاقية تجارة حرة بين البلدين». ونظر جلالته إلي وقال «ما رأيك يا أبا أحمد».. وشعرت بمسؤولية عظيمة، الرفض فوراً مني قد يقلب الأوراق كلها. فقلت يا سيدي الفكرة جميلة، ولكن توقيع هذا الاتفاق يحتاج إلى المفاوضات وترتيبات، وأنا أرى أن ادراج بند كهذا في المعاهدة سيعطي كثيراً من الدول العربية ذريعة لمقاطعة الأردن اقتصاديا حتى ولو كان بعضهم لا يحترم شروط المقاطعة كلها.

ولذلك أنا أقترح أن نرسل للضفة بضائع بقيمة (500) مليون دولار، وأن نرسل لإسرائيل بضائع بنفس القيمة وهم يصدرون لنا في البداية بضائع بقيمة (300) مليون دولار. فقال شمعون بيريز «ولكن هذا يفتح علينا صندوق «باندورا» وهي الفتاة الواردة في الخرافات اليونانية والتي قيل لها أن تفتح كل الصناديق إلا صندوقاً صغيراً ولكنها لما عجزت عن مقاومة فضولها فتحت الصندوق الصغير الذي كان فيه شرور العالم كلها. ولما غيرت الارقام أعاد بيريز نفس الجملة. ولما كررها عدة مرات قلت له «ما دمت مغرماً بالاقتباس من الخرافات اليونانية، أنت تتهمني أنني افتح صندوق مشاكل بمقترحاتي، ولكنك أنت تريد أن تجلسني على سرير «بروكريتس»، واحمر وجه رابين، واضطرب المكان، واستأذن جلالته أن نستريح لربع ساعة. أما «بروكريتس» فقد كان قاطع طريق، يضع المسافرين في سرير له، فإذا كانو أطول من السرير، نشر القسم الزائد من أجسامهم، وإن كانوا أقصر شدهم ومزقهم حتى يمتدوا إلى طول السرير». أي أنه لا يقبل إلا بمقياس واحد.

ونظر إلي جلالة الملك الذي اقتادني مع د. فايز الطراونة إلى غرفة مجاورة وقال لي «أنا متألم جداً لم أكن أريد للأمور أن تسير على هذه الشاكلة، فقلت له يا سيدي «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتُمُ الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسَسكُم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُهُ وتلك الأيَّام نداولها بين النَّاس وليعلم اللّه الذين آمنوا ويتَّخذ منكم شهداء واللّه لا يُحبُّ الظَّالمين» والله إنك لملك عادل. ونظر إلي مبتسماً وقد عادت الطمأنينة إلى وجهه، ورأيت ردة فعل جلالته مرسومة على وجه د. فايز الطراونة رضاً وسعادة أن سيدنا راض عنا..
الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2021/08/15 الساعة 00:29