غزوة تيار «الإسلام السياسي» ضد وزير الأوقاف
لا يوجد في خطاب دعاة الاعتدال والوسطية، الذين نعرفهم ونحترمهم، ما يسيء الى شعائر الدين او مشاعر أتباعه، لكن يبدو أن بعض المحسوبين على هذا التيار ممن اخذو نصيبهم الوفير من «الحظوة» في بلادنا، آثروا ان يفجروا في الخصومة، فكشفوا عن خطاب آخر مزدحم بأبشع الالفاظ والمواقف، ليس فقط تجاه «خطبة جمعة» مختلف على إخراجها، وإنما تجاه الدولة ونظامها السياسي، والمؤسسات الدينية وخطباء المنابر أيضا.
كل ما فعله وزير الأوقاف، الدكتور محمد الخلايلة، انه تواصل مع بعض هؤلاء الذين تعمدوا الإساءة، وحاول أن يفتح معهم حوارا ينتهي إلى التوافق على قاعدة «وقولوا للناس حسنى»، لكنهم أصروا على موقفهم وتحصنوا في قلعة «العناد»، عندئذ لم يجد الرجل الذي تعهد الحفاظ على الأمانة التي أنيطت به، وهي وزارة الأوقاف بكل ما يتعلق بها من مكانة ودور، إلا أن يحتكم للقضاء الذي يقف الجميع أمام موازينه، ويحترمون قراراته وأحكامه.
مع الاحترام لكل الذين «استنفروا» لمهاجمة الوزير، أو ادانوا احتكامه المشروع للقضاء، أو الآخرين الذين اختلفوا معه والتزموا بآداب الاختلاف والنقد الموضوعي، فإن لدي أربع ملاحظات أستأذن بتسجيلها على هامش هذه «الواقعة»:
الملاحظة الأولى: ما حدث في قضية «خطبة الجمعة» كشفت الوجه الحقيقي لبعض المحسوبين على تيار «الإسلام السياسي» بنسخته الجديدة والقديمة، ليس فقط فيما يتعلق بـ»القواميس» التي يستل منها خطابه - اعتذر هنا عن إدراج ما تم استخدامه من ألفاظ - ولا بحقيقة التزامه بأدبيات الوسطية والاعتدال وقيم الحوار التي يرفعها ويروج لها ثم يتنكر منها عند أول اختبار، وإنما - وهنا الأهم - بما يعبر عنه من مواقف تجاه الدولة والحكم، وهي تعكس المنهج الذي تربى عليه في سياق ما يسمى «بالبيعة» أو الطاعة أو علاقة التنظيم بالدولة، وأعتقد أن هذا اخطر ما في الامر، حتى وان تلبس البعض «الخطبة المذكورة» كعباءة لاشهار اساءاتهم ضدها، فيما الحقيقة أنهم ضد ما تضمنته من أفكار تتعارض مع ما يعتقدونه.
الملاحظة الثانية: ان استدعاء قيم السماح والعفو كـ»مطالبات «لاحراج الوزير ودفعه إلى «السكوت» عن الإساءة التي صدرت من هؤلاء جاء في سياقين، أحدهما محاولة «التغطية» على الخطأ بعد تحصيل ما يلزم من «شعبوية»، إذ انهم تصوروا أن إشهار طلب السماح وتحصيله سيطوي صفحة إساءاتهم أولا، ويعزز المنطق الذي استندوا إليه فيما يتعلق بالمرتكزات التي تضمنتها الخطبة وتتعارض مع منهجهم، ثم انه سيمنع الجمهور من التدقيق في خطابهم الذي أشهروه وقد جاء بعكس ما كانوا يروجون له من قيم الاعتدال والوسطية.
اما السياق الآخر فهو انهم رفعوا السماحة كسيف في وجه الوزير لقلب المعادلة ووضعها في سياق «شخصي»، مع أن الإساءة لم تكن موجهة للوزير، وإنما للخطبة والوزارة والأئمة ومشاعر الناس الدينية، وبالتالي فليس من حق الوزير التنازل والاعتذار عن دفع الإساءة ومحاسبة أصحابها، كما ان الانحياز إلى العفو والسماحة في مثل هذه الحالة يعبر عن «ضعف» ويلحق مزيدا من الضرر، لأنه لم يصدر عن موقف «القدرة» بعد إقرار الحق واستعادته، وهو الأمر الذي لا يقرره إلا القضاء العادل، وبعدئذ تكون السماحة قد وضعت- اذا لازم الأمر- في مكانها ووقتها الصحيحين.
تبقى ملاحظة أخيرة، وهي ان ثمة فرقاً بين حرية الرأي والنقد وبين الإساءة والتجريح، وأولى الناس في الالتزام بذلك هم الفاعلون في المجال الديني، الذين يرفعون شعارات السماحة والوسطية والاعتدال، وهم إذا يطالبون بها غيرهم ويسخرون منهم إذا لم ينحازوا إليها فمن الأولى والأجدر أن يقدموا لنا بأنفسهم نماذجها تمشي على الأرض، صحيح «الحرية» هنا مقدسة لكنها لا يمكن أن تتحول إلى قاموس من الشتائم وصور السخرية والتجريح والإهانة، ولا يجوز أيضا أن تستخدم ضد قيم الدولة ومرتكزاتها، لأنها عندئذ تتحول إلى «حربة» نطعن بها ثوابتنا الدينية والوطنية وكرامات الناس والمؤسسات أيضا. الدستور