التل يكتب: الفقه الدستوري الإسلامي.. وتحديث المنظومة السياسية في الأردن

مدار الساعة ـ نشر في 2021/07/29 الساعة 02:04

مدار الساعة - كتب: د. مصطفى التل

من مُسلّمات التأكيدات أن الشعب الأردني شعب مسلم يخضع لسلطة مسلمة، وديانة دولته الرسمية كما نص على ذلك الدستور الأردني (الإسلام)، والنظام العام للدولة الأردنية هو النظام العام الإسلامي ولو بحده الأدنى، والإسلام أحد مصادر التشريع العام في المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأردنية.
ونتيجة تقلبات التيارات داخل المنظومة الأردنية السياسية والاقتصادية شأن الأردن شأن أي دولة أخرى على الكرة الأرضية، تظهر مسألة (الفقه الدستوري الإسلامي) بأقوى صورها بين منكر لها وبين مُثبت، بين مُحدد للمفهوم، وبين نافي للمصطلح، بين شارح للمصطلح وبين مطوّع للمصطلح حسب مفهوم تياره العام الفكري أو السياسي أو الايدلوجي.
فمِن (ليس للدولة دين) حسب مفهوم (الفقه الدستوري) الحديث, باعتبار الدولة يجب أن تكون على مسافة واحدة من جميع التيارات داخل الدولة نفسها ومكونات مجتمعها الفكري والأيدلوجي والعرقي، ولو كانت إلحادية أو علمانية، أو ليبرالية أو غيرها من التيارات التي بدأت تظهر على السطح السياسي والمشهد في المنطقة، إلى مفهوم أن (الإسلام هو منظومة أخلاقية فقط لا غير)، وليس له أي تشريع يختص بالدستور والقانون والاقتصاد. ولكل منهم وجهة نظر، محاولين تطويع بعض النصوص المجتزأة من القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، وبعض المواقف المحصورة المبتورة عن النظام العام للخلافة الراشدة، لتخدم ما يسعى إليه صاحب هذا التيار الفكري أو ذاك.

* إشكالية المفهوم والمصطلح :

عندما يثور النقاش حول المصطلح، فإن الأغلب يتوقف عند حرفية المصطلح، وللأسف الشديد أغلبهم يعتبر نفسه مختصاً بالقانون أو القانون الدستوري، ويسأل سؤالا : (أين ورد كلمة دستور في القرآن أو السنة النبوية أو الخلافة الراشدة)؟!.
ونسي أو تناسى أن كلمة (دستور) نفسها هي كلمة غير عربية، ولم ترد في قواميس اللغة العربية، وإنما أصلها فارسي، دخلت مع الترك، وكلمة دستور بالمعنى الفارسي، مركبة من شقين : الشق الأول كلمة (دست ) ومعناها القاعدة، والشق الثاني كلمة (اور) ومعناها صاحب، فيكون المعنى الكلي (صاحب القاعدة ).
فعندما يبحث عن هذه الكلمة حرفيا في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، وعُرف مَن سبقونا في العصور الاسلامية السابقة، فلن يجد لها أثرا قطعا.
 والسائل الذي يعتبر نفسه قانونيا، نسي أولى القواعد التي درسها في المدخل الفقهي الإسلامي عندما كان في كلية القانون في السنة الدراسية الأولى من عمره الاكاديمي في مرحلة البكالوريوس، والتي كما يظهر ترك القاعدة على مقاعد الدراسة في القاعة التدريسية عندما أدّى امتحان المادة ونجح فيها.
هذه القاعدة والتي تُكتب بماء الذهب تقول (العبرة للمعاني لا للألفاظ والمباني)، بمعنى آخر وبشكل بسيط جدا، اللفظ والمصطلح لا يهم، وانما المهم هو دلالة اللفظ والمصطلح.
فالألفاظ والمصطلحات تتغير تاريخيا واستعمالا ودلالة، حسب المُستعمل في أي تخصص، وأي مجال, وحسب التطور اللغوي والدلالي، من هنا جاءت المقولة : (خطأ مشهور خير من صحيح مهجور ), ونضرب عليها مثالا بكلمة - المطار - في المتعارف عليه هو مكان هبوط وإقلاع الطائرات، هذه الكلمة الشائعة، ليست صحيحة من حيث الاستعمال اللغوي، فإسم المكان لــ(طار) هو (المَطِير). فكلمة "المطار" بلغت من الشيوع درجةً تجعل مجرد التفكير في تصحيحها ضربًا من العبَث. ولكن الجميع متفق أن المطار أو (المَطير)، هو مكان اقلاع وهبوط الطائرات.
فمصدر اشكالية ومفهوم مصطلح (الفقه الدستوري)، هو حرفية المصطلح، وليس مدلول المصطلح عند الأغلب الأعم من أصحاب الاختصاص، كأنهم جَمدوا على الحروف، وتركوا المعنى الدال، وهو الجوهر المشكل.

* هل يوجد في الفقه الاسلامي شيء اسمه (فقه الدولة)، أو (الفقه الدستوري ) حسب التسمية الحديثة..؟!

الدستور غريب في لفظه على الفقه السياسي الإسلامي في عصر النبوة والصحابة والخلافة الراشدة وما تلاها من العصور، وإن كان كل ما يتضمنه مصطلح (الفقه الدستوري) بالمفهوم الحديث تدل عليه أحكام الشريعة سواء بالموافقة أو الرفض.
والمؤلفات في (الأحكام السلطانية) تمثل الفقه الدستوري في الفقه السياسي الإسلامي مدونة ومكتوبة ومحددة.
 وأعتقد جازما أن خريجي جامعة هارفرد أو اكسفورد من وزرائنا أو أغلب مدرسي الفقه الدستوري مِن الذين تخرجوا من هذه الجامعات لم يعرفوا هذه المراجع ولم يقرؤوها، بل هم منهمكون في (جان جاك روسو) وغيره، وحتى لا نظلم، قد يكونوا سمعوا بها سمعة عابرة، واعتقدوا أنها مؤلفات من القرون المظلمة والوسطى لا تستحق مجرد الإطلاع عليها.
 لو تفحصنا كتابا مثل (كتاب الأحكام السلطانية) للماوردي، لوجدناه يشتمل على القواعد والتفصيلات التي يتضمنها اختصاص (الفقه الدستوري) و(فقه الدولة) بالمفهوم الحديث، حيث تكلم عن الدولة باعتبارها شخصية اعتبارية، ووجوب اقامتها، وتحريم خلو أي زمن من الأزمان من مفهوم الدولة، ومن ثم عقد بابا للإمامة (رئاسة الدولة) تكلم فيه عن حكم تننصب الإمام, وشروط الإمام، وكيفية وصوله لمنصبه، وشروط مَن يختاره لهذا المنصب، ثم تحدّث عن واجبات الإمام - أي حقوق الملة والأمة تجاهه, وحقوقه على الأمة -، وتحدث عن حدود الإمام ومدى طاعته من شعبه من عدمها، وحدود تدخله في جميع السلطات المختلفة مع اختلاف اسمائها في عصر المؤلف، كما تحدث عن المسوّغات التي يفقد بها الإمام منصبه إذا تحققت فيه، وعقد بابا للحديث عن الوزارة، فبيّن أنواعها والشروط التي ينبغي وجودها فيمن يلي هذا المنصب، وعقد بابا للحديث عن أمراء الأقاليم، وبابا في الحديث عن الإمارة على الجهاد، وبابا في الحديث عن الولاية على حروب المصالح، وكل ما تقدم يدخل فيما يسمى الآن بالسلطة التنفيذية، كما عقد بابا في ولاية القضاء تحدث فيه عن شروط مَن يتولى القضاء، وكيفية انعقاد ولاية القضاء، وحدود ولاية القاضي، وهذه تعد بالمعايير المعاصرة هي السلطة القضائية، كما عقد بابا لولاية المظالم، وهي معنية بالنظر في المقام الأول في تعديات الولاة وموظفي الدولة ضمن مهامهم و وظيفتهم الرسمية على أفراد الشعب، وكيفية الفصل فيها، وحدود الفصل فيها، وهي تُعد في أيامنا هذه من باب القضاء الإداري، وهكذا حتى أتم عشرين بابا، تناول أمورا في صلب ما يسمى بالفقه الدستوري.
وان استعرضنا كتاب (السير الكبير) لابن محمد الشيباني وهو الفقيه الحنفي، لوجدنا فيه القانون الدولي الإسلامي، وحدود السلطة القانونية للدولة الإسلامية كشخصية اعتبارية، ولوازم إقامة الدولة، وخطر زوالها، مع كيفية تنظيم علاقة الدول بين بعضها البعض في حالة السلم والحرب، وهل أصل العلاقة بين دول العالم هي الحالة السلمية أو الحالة القتالية، وغيره الكثير من القوانين والفقه الدولي الذي نختصره اليوم بمصطلح (القانون الدولي).
فالفقه الدستوري الاسلامي من خلال مؤلفاته ومراجعه السالفة والمستمدة من قواعده من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والخلافة الراشدة، والمصادر المختلفة مثل الاجماع والقياس والاستحسان وغيره، يشتمل على مجموعة من القواعد الفقهية الدستورية و التي تبيّن السلطات في الدولة والعلاقة بينها، ونظام الشورى وما يتعلق به من حدود تشريع، وكيفية انتقاء أعضاء لمجلس الشورى، وشروط عضو مجلس الشورى, ووجوبية وجود مجلس الشورى وحرمة خلو زمن من الأزمان من مجلس للشورى في الدولة الإسلامية، والتعيين للأعضاء أو انتخابهم وهو يطلق عليه اليوم الترشيح أو غيره من النظم العامة، والتشريع والرقابة، كما يتبيّن في (الفقه الدستوري الإسلامي) الغاية الإسلامية التي تسعى إليها الدولة، وحدود طاعة الرعية لها، والأحوال التي تصبح معها الرعية في حِلٍ من طاعتها، أو حتى مقاومتها السلمية، والقتال إن استلزم الأمر في أحوال تم تبيانها بدقة، وحدود هذه الأحوال.
 كما يحتوي على مجموعة قواعد فقهية تعالج وضع الدولة في المنظومة العالمية، وعلاقة الدولة بغيرها من الدول، ودين عامة أهلها، ووضع الطوائف المغايرة للأغلبية والتي هي من رعية الدولة أو بالمفهوم الحديث من شعب الدولة، و وضع الفرد من حيث الحقوق والحريات والواجبات، ومجموعة من القواعد الفقهية التي تعالج النظام السياسي برمته.

* مصادر الفقه الدستوري الاسلامي ومصادر قواعده:

مصادر الفقه الدستوري الاسلامي وفقه الدولة في الإسلام، يتحدد بمصدرين رئيسين: مصدر له الصفة الآمرة، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
ومصادر تبعية، أرشدت لها القواعد الآمرة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، مثل الاجماع، القياس والاستحسان، والمصالح المرسلة.
فالمصادر التبعية مثل الإجماع، وهو اتفاق المجتهدين من الأمة في عصر من العصور، على حكم أو قاعدة معينة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، من أمثلته في الفقه الدستوري المبكر هو الإجماع على وجوب الإمامة، وعلى أن البيعة وسيلة لإسناد السلطة، وعلى حرب المرتدين لأنهم أرادوا هدم النظام العام الاسلامي بمنعهم للزكاة، وبالتالي تهديد الدولة الاسلامية تهديدا وجوديا.
ومن المصادر التبعية في الفقه الدستوري الإسلامي هو الإجتهاد، والاجتهاد مقيّد بقواعد الاجتهاد الصحيح، وقوامها أن يستنبط الحكم من دليله، وسواء في ذلك، أتوصل إلى حكم المسألة الدستورية عن طريق القياس، أو المصلحة المرسلة، أو غيرها من أدلة الأحكام، فالمهم ألا تتدخل إرادة الحاكم الشخصية ودوائر ضغطه المختلفة أو التكتلات الضاغطة في أي منظومة سياسية، في التشريع الدستوري.

* التعديل الدستوري في الفقه الدستوري الاسلامي، ومجاله:
ليس خافيا على الأغلب أن الأمر وصل في بعض التيارات اللاعبة على الساحة الأردنية الى الدعوة لتعديلات دستورية جوهرية على الدستور الأردني، بل وصل بعضهم الى الدعوة لصياغة ما أسموه (عقد اجتماعي جديد)، تماشيا مع تياراتهم الفكرية والأيدلوجية.
وبعض أعضاء لجنة تحديث المنظومة السياسية الأردنية، طرحوا الدعوة إلى النظر في الدستور من حيث الأصل، وقياسا عليه هل في الفقه الدستوري الاسلامي، شيء اسمه تعديل دستوري..؟!
حقيقة إن الناظر في الفقه الدستوري الإسلامي، يجد أن التعديلات الدستورية وقعت على مرحلتين:
المرحلة الأولى : في مرحلة النبوة، ووقعت على القواعد الدستورية الآمرة، حيث أن أحكام عدة نزلت في القرآن الكريم، وأعيد الغائها أو تعديلها أو التدرج فيها، حيث كان اختصاصها القواعد الآمرة التي تحكم الدولة الاسلامية وتنظم العلاقة بين الدولة الاسلامية وسلطاتها الثلاث، ومشروعيتها، وهو ما اصطلح على تسميتها (بالنسخ )، ولمن أراد الاستزادة، يستطيع النظر في موضوع (الناسخ والمنسوخ ) من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. وهذه المرحلة من التعديلات على القواعد الدستورية الآمرة انتهت واستقرت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول قائد للدولة الاسلامية في التاريخ الاسلامي.
المرحلة الثانية : المصادر التبعية للفقه الدستوري الاسلامي، وجميع القواعد الدستورية المستمدة من هذه المصادر، قابلة للتعديل في أي وقت من زمن، ولكن ضمن اطارها الشرعي فقط، أي ان يكون تعديلها ضمن المنظومة السياسية الإسلامية.
وهنا نخلص إلى القواعد التي لها الصفة الآمرة، والتي لا يجوز اجراء أي تعديل عليها في الفقه الدستوري الاسلامي هي:
ما كان مصدرها القرآن الكريم بنص واضح لا لبس فيه.
 وما كان مصدرها السنة النبوية المطهرة، وثبت صحة ما استمدت منه بالصحة الشرعية القطعية، سواء اكانت مصدرها سنة متواترة أو أحادية أو مشهورة، والقاعدة العامة هنا هي قطعية الصحة من عدمها.
والقاعدة الدستورية المستمدة من الإجماع بشكل لا لبس فيه، وهو له قوة النص كقاعدة آمرة.
وما عداها قابلة للتعديل الدستوري حسب النظام العام للدولة الاسلامية، وما يلائمها حسب النظام العام الاسلامي.
وعليه يتضح مدى خطورة ما يطرحه البعض من أعضاء لجنة تحديث المنظومة السياسية في الأردن، من طرح مُسلّمات في الدستور الأردني للتعديل، مثل دين الدولة، ومدى ملاءمة الشريعة الاسلامية لأن تكون مصدراً للتشريع داخل الدولة الإسلامية، لا بل وصل الأمر ببعضهم لأن وضع الشريعة الإسلامية عائقا أمام دولة القانون التي يريدون الوصول لها، وبالتالي لا بد من ازاحة هذا العائق من الطريق، وان كانت الدعوات هذه على النطاق الضيق، أو كانت مجرد بالونات اختبارات لقياس ردة الفعل الشعبية تجاهها.
* الفقه الدستوري الاسلامي ودولة القانون:
 كثيرا ما يتردد في الآونة الأخيرة مصطلح (دولة القانون)، و( سيادة القانون)، حتى أن بعضهم أوصلها لمصطلح (الدولة المدنية)، سعيا منه أنها ستكون مثالا كاملا مكتملاً لدولة القانون، وسيادة القانون، وانطلقت لجان لتحديث المنظومة السياسة الأردنية، طمعا في الوصول في نهاية المطاف الى مفهوم (دولة القانون)، والتي تكون كفيلة بالازدهار الديمقراطي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، نتيجة سيادة القانون، والذي لا يُفرق بين مواطن وآخر إلا بالكفاءة.

- فما هي دولة القانون المنشودة، وما هي الدولة المدنية التي يريدون.؟!

بالمفهوم البسيط، هي تلك الدولة التي يسود فيها القانون، فالدولة تخضع لقواعد ملزمة لها، للحكام والمحكومين على حد سواء، وبغير الخضوع للقانون يؤول الحكم إلى القوة المادية، وسياسة الاستبداد والطغيان، فالنصوص الدستورية، والتشريعات التي تشرعها الهيئة التشريعية، والقرارات الإدارية والتنفيذية، والقرارات القضائية بمختلف اختصاصاتها، جميعها على اختلاف درجاتها وقوتها، تكوِّن النظام القانوني للدولة.
- ما هي مقوّمات دولة القانون، والتي ثارت بسببها جميع التيارات على الساحة الداخلية الأردنية، وكل تيار يؤطّر لنظريته في دولة القانون المنشودة حسب تصوره, وبسبب المقوّمات تم الدعوة لتحديث المنظومة السياسية الأردنية ؟!
أيضا بصورة بسيطة جدا، مقوّمات دولة القانون من حيث الإجمال هي :
قانون أساسي أو ما يسمى بــ( الدستور), وهو مدون بوثيقة الدستور ضمن مواد دستورية كقواعد سامية، ومنه تستمد بقية القوانين شرعيتها وقوتها، ويوضح حدود السلطات الثلاث، التنفيذية، التشريعية، والقضائية، ويقيّد هذه السلطات بمجالها فقط، ويوضح حدود العلاقة بين هذه السلطات الثلاث.
والدستور يُقرأ بمجموع قواعده، قراءة شمولية، وهو الأعلى على جميع القواعد القانونية دونه، حيث يراعى تدرّج القواعد القانونية، فهي ليست في مرتبة واحدة، ففي قمتها القواعد الدستورية، تتلوها التنظيمات العادية، ثم اللوائح الصادرة من السلطات، وهذا التدرج يستلزم خضوع القاعدة الأدنى للقاعدة الأسمى شكلاً وموضوعاً ؛ إذ لا يصح أن تتعارض قاعدة دنيا، مع أخرى تعلوها.
المقوّم الثاني هو خضوع جميع السلطات للقانون بمختلف تصنيفاته، إذا أن السلطة الحاكمة ان لم تخضع للقانون، فسنكون أمام دولة بوليسية أو استبدادية ؛ حيث تكون السلطة الإدارية، مطلقة الحرية في أن تتخذ ما تراه من الإجراءات حسب هوى مؤسسة الحكم فيها.
المقوّم الثالث هو الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية و ضمانها، وهو الهدف الأساسي من قيام الدولة القانونية, وسيادة القانون في الدولة، وتدخل التيارات المختلفة هنا حسب مشاربها الفكرية والأيدلوجية في صراع مرير، حول تحديد مفهوم (الحريات العامة)، ومتى نعتبر الامر حرية عامة، أو نعتبره دعوة لفتنة أو تخريب.

* هل يمنع الفقه الدستوري الإسلامي هذه المقوّمات من التحقق..؟!
الفقه الدستوري الإسلامي كفل هذه المقوّمات، وعدّها من نظامه الدستوري الذي لا وجود له إلا بوجودها، فلا دولة اسلامية بدون دستور، ولا دولة اسلامية بدون حاكمية عليا للقانون يحكم الجميع وبالعدل، ولا دولة اسلامية بدون حقوق وحريات للأفراد.
ولكن الخلل عند البعض يكمن في مدلول المصطلحات، وليس في المصطلحات نفسها، فعلى سبيل المثال، الأكثر اثارة عندما تتم مناقشة (الفقة الدستوري الاسلامي)، هو الحريات العامة وحرية الأفراد، وضمانتها في الدستور الإسلامي.
الأغلب يريدها حريات مطلقة من دين وعرف وعادات وتقاليد، بل اعتبر البعض أي قيد على هذه الحريات هو هدم لها، وان كان قيداً أخلاقياً.
ويريد الحريات في الدولة الإسلامية، هي نفسها الحريات في الدول الغربية وحسب فلسفتها فقط، واي شذوذ عنها، فلا حريات.
هنا يكمن الاختلاف، فمثلا حرية الزنا تحت مسميات مختلفة في المنظومة الغربية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون حرية مشروعة تحت المنظومة السياسية الإسلامية، وحرية الزواج المدني في المنظومة الغربية أيضا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون حرية مشروعة تحت المنظومة السياسية الإسلامية، وحرية الشواذ في المنظومة الغربية السياسية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون حرية مشروعة تحت المنظومة السياسية الإسلامية.
حرية الالحاد في المنظومة السياسية الغربية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون حرية مشروعة تحت المنظومة السياسية الإسلامية، إلا أن يكون إلحادا من حيث الأصل للفرد، أي ان يكون لا دينيا، وكانوا يسمون قديما بالدهريين، هنا تحفظ له حقوقه المختلفة الانسانية، ولا يظلم، ولكن يناقش ولا يجبر على الدخول في الدين إلا إن اقتنع اقتناع تام وبحرية تامة.

* أين الخلل في (مفهوم الحريات العامة في النظام السياسي الاسلامي) حتى يتعامى عنه المشرعون والسياسيون بمختلف طبقاتهم.؟!

عندما نتحدّث عن حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام، نتحدّث عن بُعــــــدين متلازمين كما يقول (أحمد فرَّاج) : بُعد فكرى ثقافي مبــــدئـي يتمثّل في مبادئ تجد مرجعيتها المـوضـوعية والتاريخية في نصوص دينية مقـدّسة، تفرض التزامًا دينيًا وأخـلاقيًا وقيميًا.
والبعد الآخر بعد حقوقي وتشريعي يتمثّل في صياغات قانونية تحدّد طبيعتها ومجالاتها، ونطاق المسؤولية عنها، وإلــزام الأفــراد والدولة باحترامها وتنفيذها، وضمانات وآليات لحمايتها.
ولا نريد الخوض في الصراع المرير للإنسان المجرد, الغير مسلم، في نيل حقوقه وحرياته من المنظومات السياسية التي سادت والتي لا زالت قائمة في العالم، ولكن بشكل اجمالي لاستعراض ثمرات هذا الصراع، نجد (ماچـنا كارتا) 1215م، ثم لائحة الحقوق 1688م في بـــريطــانيا، ثم إعلان الاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية 1776م، ثم الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان 1789م.
وأخيرًا إقرار حقوق الإنسان في أعقاب الحرب العالمية الثانية في 10/12/1948م، والمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان 4/11/1950م، ثم الاتفــاقية الدولية للحقوق المــدنية والسيــاسية 16/12/1966م، ثم الاتفاقية (أو العهد الدولي) للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 16/12/1966م، وهي عهود ومواثيق لا تزال تتعزّز وتتــرسّخ (بـــالنص عليها في ديباجات الدساتير أو القوانين).
في النظام السياسي الإسلامي تنطلق حرية الإنسان من أساسين لا بد منهما: يحمل الإنسان تكريما ربانيا، والتكريم تم تعميمه على جميع جنس الإنسان مهما كان عرقه أو لونه أو صفاته الجسدية والجغرافية، ومهما كان دينه الذي يعتنقه، سوآء أكان سليما عقليا أو جسديا، أم كانت عنده عاهة مستديمة أو مؤقتة، سوآء أكان ذكرا أو أنثى، فلا فرق بين جنس الإنسان في هذا.
والإنسان مستخلف عن الله تعالى في عمارة هذا الكون الفسيح، فلا حق لأحد عليه ولا سلطة عليه لأي كان، إلا بموجب ما حدده الذي استخلفه فقط.
- اذن أين الخلل في تعامي عليّة القوم عن الحريات في الاسلام، ومحاولة استجرار الحريات الغربية وتدجينها وتطبيعها وليّها حتى تشاكل ما عندنا من حريات ويدخلونها في المنظومة العامة للأمة الاسلامية ؟!
الخلل يكمن في بعض الرواسب التي تكون في ذهن هؤلاء، نتيجة إستجرار ثقافة غربية خالصة وما تحمله من أفكار عن الاسلام وحرياته، جذورها تكونت في الحملات الصليبية وبقيت متوارثة، بعضها يتم تكريسها كدراسة أكاديمية، وبعضها شكلت العقل الجمعي لطبقة المثقفين الغربيين.
والبعض يكمن في جهله في الإسلام ونظمه وان ادعى عكس هذا، نتيجة ابتعاده كلية عنه، وانجراره خلف منظومات أخلاقية وفكرية تمثلت بمنظومة حريات بديلة عما جاء بها الإسلام، وبالتالي أصبحت المقاسات لأي حرية عنده هي تلك التي تقبع بين ثنايا تعريجات مخه المعقدة.
والثالث يعود الى بعض المتنطعين من أبناء الأمة الاسلامية نفسها، مما أوجد نفوراً عند هذه الطبقة حتى من مجرد الفكرة نفسها، وهذا الأمر نحن المسلمون نتحمله وحدنا وليس غيرنا.
والنتيجة العامة عند هؤلاء، تتمثل فيما قاله (أحمد فراج):
 (النتيجة في كل الأحوال تصب في خانة تشويه لـلإسلام وحيفٍ ضده، يترسب في العقل الغربي، ويستعدي درجات تبدأ من – أو لعلي أقول تنتهي إلى العدوانية المروعة والوحشية البشعة – كما يراها العالم من الصرب – إلى درجات من السلبية والاستخفاف تتمثّل عند بعض الباحثين في دعوة إلغائية لأي ثقافة تخالف الثقافة الغربية، وتصوّر ما عداها بالدونية والتخلّف والعجز عن قيادة حركة الإنسان والمجتمع وتنطوي صراحة على دعوة المسلمين إلى تبـنّي معطيات الثقافة الغربية في كل المجالات ومنها: مجـال حقوق الإنسان وحــريــاته، استنادًا في زعمهم إلى غياب ذلك عن الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية. وهو مع الأسف وجد أتباعًا من بعض المستغربين المسلمين).
فبدلاً من أن يعتز هذا السياسي أو ما يسمى مثقفاً بالحريات وحقوق الانسان التي جاءت به شريعته ودينه وحضارته, وبدل أن يؤصّل للحقوق والحريات في الإسلام، ويكشف عن عمق الـركائز التي أقام عليها دينه قواعد تلك الحقوق والحــريات في العقيدة والشريعة، وربط فيها بين الحق والواجب، وشيّد صـروحها في عقل المسلم وفكره وضميره؛ فأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من بنيته الثقافية ومعادلته الاجتماعية، وازدادت على مرّ التاريخ ترسّخًا وإشعاعًا فيما عدا بعض فترات الانحطاط التي كان المسلمون أنفسهم أول ضحاياها، نجده للأسف يتعالى على عموم المسلمين بأنه يعرف الحريات أكثر منهم، ويأخذ بتحريف مفهوم هذه الحريات ويلوي عنقها لتتوافق مع ما يعرفه من مفهوم، وكأنه وضع مفهومه يقاس عليه ما جاءت به الشريعة الاسلام من مفاهيم للحريات.
أكتفي الى هنا، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
 

مدار الساعة ـ نشر في 2021/07/29 الساعة 02:04