العساف تكتب: التعليم الدولي في الأردن بوابة أخرى لعلمنة المناهج المدرسية
مدار الساعة ـ نشر في 2021/07/27 الساعة 16:12
بقلم الدكتورة ليلى نمر العساف
مرّت المناهج الأردنية التي تصدرها وزارة التربية والتعليم بسلسلة طويلة من التعديلات على مر السنوات الأخيرة. جوهر تعديلات المناهج المدرسية في الأردن قائم على فكرة أنّ المناهج هي أحد أسباب تغذية التطرف والتشدد والانغلاق في الشباب الناشئ. يحاجج المدافعون عن تعديلات المناهج بأنها إحدى السبل لإدماج مفاهيم التقبل والتسامح في مرحلة الطفولة، وهي نتاج توصيات بحوث ودراسات 'أمنية' تصدر عن كبريات مراكز الدراسات الأمنية في أمريكا الشمالية وأوروبا. بالرغم من أنّ مهمة مراجعة وتعديل المناهج الأردنية هي إحدى اختصاصات وزارة التربية والتعليم الأردنية بنص القانون والتعليمات النافذة، إلا أن تنفيذ هذه المراجعات يتم بالإستعانة بخبراء ومستشارين وباحثين، جلّهم يأتي من خارج المملكة هويةً وثقافة وقيماً.
كتربوية عملت في الأردن لمدة سبع سنوات في كبرى المدارس الدولية الخاصّة، كانت لي تجربة في إدارة البرامج الأجنبية المعتمدة وزارياً مثل البرنامج البريطاني والبكالوريا الدولية. تشترط تعليمات إدارة قسم معادلة الشهادات الأجنبية في وزارة التربية والتعليم على نجاح الطالب في البرامج الدولية بالنجاح أولاً بكل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية وتاريخ الأردن إلى جانب متطلبات البرامج الدولية. في نفس السياق، تنصّ التعليمات على شرط النجاح المدرسي حصراً، بما يعطي كافة الصلاحيات للمدارس الدولية في تحديد المنهج وطبيعة الامتحانات وأسس النجاح. وحتى تتجاوز المدارس الدولية مثل هذه الشروط، فهي تلتزم شكلياً بتطبيق هذه التعليمات، في حين بأنّها لا تقوم بتوفير النصاب الكامل من الحصص في هذه المباحث، وتقدم 'تسهيلات' للطلبة من حيث النجاح التلقائي وتخفيف الحمل الدراسي. إن النتيجة الوحيدة لمثل هذه الإجراءات هو تأسيس انقطاع ما بين الطالب وبين دينه ولغته وثقافته وتاريخه. فإن كانت المناهج هي أحد الروافد الأساسية لثقافة الطالب وتنشئته في بيئة صالحة، فإنّ تغيير جوهرها وإخراجها عن أهدافها، هي إحدى الأمور الخطيرة التي تتطلب منا فوراً التوقف والمراجعة والتحرك.
كمديرة وتربوية سابقة في الأردن، لديّ تجارب عديدة في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال في إحدى المدارس الدولية التي ترفع شعارات الهوية الإسلامية عندما سألت عن سبب عدم تدريس مباحث اللغة العربية والتربية الإسلامية بحسب متطلبات الوزارة، كان الجواب بأن الطلبة قد تلقوا تأسيساً سابقاً في هذه المباحث، ولا داعي للتركيز عليها في المراحل المتقدمة، مع توجب إعطاء الوقت كله للمواد العلمية، بحجة بأنّ الأهل لديهم القدرة على متابعة أطفالهم في الدين واللغة العربية في حال رغبتهم بذلك. هذا مثال صارخ على خروج المدارس عن رسالتها وجوهر وجودها كمؤسسات تربوية إلى مؤسسات لا تلهث سوى وراء كسب رضى دافعي الأقساط ونتائج الامتحانات الدولية، مع إهمال كامل ومتعمد لضرورة إعداد طالب يعتز بهويته، لا مجرد ناقل لمعرفة علمية مجرّدة.
في سياق آخر، نرى أن هناك طرق أخرى لنزع هوية الطلبة وعلمنة المناهج عبر بوابة قدرة المدارس على تصميم وتحديد مناهجها الخاصة. على سبيل المثال، فإنّ البكالوريا الدولية تعطي للمدارس الحرية والصلاحية في بناء وتصميم مناهجها الخاصة وتدريسها. وهذه بوابة تقوم العديد من المدارس باستغلالها لتجاوز متطلبات الوزارة الأساسية في مواد اللغة والدين والتاريخ.
ففي إحدى المدارس التي تُعرف بالسمتّ المحافظ، جرت جلسات تدريبية مؤخراً، قدّمتها إحدى المدربات المعروفة في الوسط التربوي بتوجهها للتعليم المعاصر، بضرورة تدريس مبحث اللغة العربية بدون الاعتماد على نصوص دينية من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بحجة تصميم مناهج معتدلة ووسطية. هذا الخطاب الذي كنا نراه في مدارس لا تصف نفسها بمدارس تربوية ودينية، استشرى اليوم في كبريات المدارس التي يثق الأهالي بكونها البيئة الأمثل لتربية أبنائهم على الصفات الحميدة والأخلاق بحسب تعاليم الإسلام، وليس مبادئ العولمة والعلمنة!
إن هذا الخطاب الذي استشرى في الجسد التربوي الأردني يرى اليوم بأنّ العولمة والتنوع والتسامح وتقبل الآخر لا تلتقي مع النصوص الدينية، التي تشكل جوهر وعقيدة كل مسلم في هذه الأرض الطيبة. وباسم التنوع وتقبل الآخر والتسامح، يُعطى المجال لمدربين غريبين عن هوية الطلبة، في حين لا يعلم الكثيرون من الأهالي والطلبة ما يتم تقديمه لهم. بل ويحاجج هؤلاء الخبراء بأن تدريس اللغة العربية لا بُد أن يكون بالاعتماد على نصوص كلاسيكية مثل الشعر، في محاولة صارخة لعلمنة مناهج اللغة العربية ونزعها من قلبها وسياقها التاريخي والحضاري، وكأنّ اللغة العربية بيان لغوي قائم من دون النصوص الدينية من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف! نرى جلياً بأن المجال يُعطى للمدربين والمستشارين والخبراء العاملين في منظمات أجنبية قائمة على تمويل أجنبي مشبوه بأهدافه، بينما يُحرم الكثيرون من القامات العلمية والثقافية من ابداء الصوت والرأي. وهؤلاء يناقضون أنفسهم حين يريدون لغة بلا دين، وبلاغة من دون قرآن، وأخلاقاً من دون مسحة نبوية. فهم في محاولتهم 'لتحرير' العقول وتعزيز تقبل الآخر، يفرضون على المعلم والطالب الابتعاد عن النصوص الدينية، وفي هذا نفسه تناقض صارخ، بعدم تقبل الاختلاف والتباين، وبحرمان الطالب من تكوينه كمفكر مستقل قادر على الاختيار بنفسه. بل إنّ عين التطرف هو منع الطلاب من دراسة نصوص القرآن والحديث، وهو ما يشكّل حصراً متعمداً لفكرهم وآفاقهم.
كما إن البرامج الأجنبية في أصلها لا ترى تعارض الثقافة المحلية مع القيم التعليمية. في البكالوريا الدولية مثلاً، هناك تشجيع صريح لواضع المناهج بأن يقوم باستخدام النصوص التقليدية والتي تشمل تعريفها النصوص الدينية، لارتباطها اللغوي والثقافي بهوية الطالب وكيانه. بل نجد بأنّ نظام البكالوريا الدولية يعزز مفاهيم التنوع الثقافي على غير ما يفهمه قومنا، بقوله في تحديد الفلسفة والعقلية الدولية 'هو تعليم مصمم لكسر حواجز العرق والدين والطبقة ؛ وقبل كل شيء، تعليم يشيد بفوائد التنوع الثقافي.' (جورج والكر 2011: 19)
وفي مبحث الفلسفة في البكالوريا الدولية كذلك، هناك تشجيع على الحوار والنقاش والتساؤل، وتغذية قدرة الطلاب على تفسير الادعاءات المتناقضة والمثيرة للجدل. بالإضافة إلى تشجيع الطلاب على استكشاف مجموعة واسعة من نصوص من ثقافات أخرى مختلفة للاستفادة منها، وليس بهدف التنكر لثقافة الطالب وهويته الأصلية. إن المرونة التي توفرها مثل هذه المباحث في نظام الIBDP تعني أن المعلمين لديهم الفرصة لاختيار أمثلة ذات صلة بهوية الطالب ولغته مع إمكانية الاستشهاد بنصوص من القران الكريم والحديث الشريف. لكن من المؤسف أن يرى الخبراء والمستشارون والإداريون التربويون المسؤولون عن مثل هذه القضايا في هذا، فرصة لاستبعاد اللغة والدين، واستدعاء ثقافة غريبة باسم تقبل الآخر والعولمة.
إن علمنة المناهج في كافة المناهج المعتمدة في الأردن تدق ناقوساً للخطر، وتدفعنا للتوقف والتفكير والتحرّك الفوري من قِبل أولاً المجتمع كمعلمين وإداريين وأولياء أمور، وثانياً من قِبل الوزارة لمراقبة البرامج الدولية ومدى التزامها بتدريس المواد حسب الأصول، حتى في المدارس التي تتخذ لنفسها سمة محافظة. كما أدعو كافة القياديين التربويين عدم تحويل المدارس والمؤسسات التعليمية إلى ساحات للصراعات الأيديولوجية والفكرية، وتجنيبها أي مغامرات لتطبيق أفكار ورغبات شخصية مضطربة لا تتفق مع ثوابت هويتنا الأردنية.
*خبيرة تربوية بالمناههج الدولية
مدار الساعة ـ نشر في 2021/07/27 الساعة 16:12