السفير الليبي البرغثي يكتب: هذه رغد صدام حسين

مدار الساعة ـ نشر في 2021/06/19 الساعة 13:02
مدار الساعة - بقلم: محمد البرغثي سفير ليبيا في الأردن

- وصلتُ الى عمان عام 2007 سفيراً لبلادي لدى المملكة الاردنية الهاشمية، بالإضافة الى عملي كلفتُ بالاشراف على الملف العراقي، فى عمان كنتُ على موعد مع بابل وآشور ودجلة والفرات، ونازك الملائكة والسياب، هنا كان العراق حاضرًا بتاريخه وصراعاته ورجالاته، فى لقاء مع العقيد معمر القذافي سألني عن هذا الملف، الذى كان يُدار تحت إشرافه، وكان حريصاً على متابعة تفاصيله، سأل عن الشخصيات العراقية التى أعرفها، أجبته : "لقد فتحتُ خطوط تواصل مع الجميع، مع من كان يحكم، ومن يحكم، ومن قد يحكم".

- السيدة رغد صدام حسين، من الشخصيات التى عرفتُها فى عمان، اللقاء الأول؛ استقبلتها صُحبة أسرتها الكريمة فى بيتي الإثنين 10 مارس 2008، كان بداية لسلسلة من اللقاءات والحوارات، العنوان الأبرز كان العراق، والدُها كان الحاضر الكبير، حدثتني عن العراق بحب، وحدثتني عن والدها بعشق، كيف لا ؟ وهى الأقرب إليه، والحافظةُ لإرثه، أتسع عقلُها لسماع رأي آخر، بل رأي أراد أن يعرف أدق التفاصيل، عن مرحلة بالغة الأهمية فى تاريخ العراق، تميزت بإحداث كُبرى، أثرت فى المنطقة كلها، ولازال تأثيرها قائمًا الى يومنا هذا، مرحلةٌ لها وعليها، كان ولازال وسيظل الجدل قائماً حولها.

- الميلاد والنشأة والتكوين كان فى بغداد : "عشتُ طفولة طبيعية وجميلة، فى وسط أسري، كان والدي حريصاً عليه، اللقاء معه يومياً على مائدة الغداء، والدتي مديرةُ مدرسة، علاقتي بإخوتي وطيدة، علاقتي بوالدي قريبة، أنا كبيرةُ أخواتي، تعلمتُ فى المدارس العراقية، تزوجتُ صغيرة، أكملتُ دراستي، تخصصتُ فى الترجمة الانجليزية، أمٌ لعلي وحرير ووهج وصدام وبنان".

- تتحدثُ السيدة رغد عن نشأتها قائلة: "نشأتُ فى بيت يذُكر فيه العراق كعنوان كبير، ويُذكر فيه العرب كعنوان أكبر، دون الدخول فى التفريعات والتصنيفات التى غدت متداولة اليوم، دافع العراق عن العرب، عشتُ حياة الحرب العراقية الايرانية، كنتُ طالبة بالمدرسة، الوالد كعادته يصحو السادسة صباحاً، إفطاره الساعة السابعة، الثامنة فى مكتبه، القصف يشتد على بغداد، الطالبة تنزع حقيبتها المدرسية من على كتفيها، تتردد فى الذهاب الى المدرسة، الرئيس الوالد يُخاطب أبنته : " ماذا تفعلين، لا لا يجب أن تذهبي، العراقية زميلتك بالصف تستمد الشجاعة والصمود من وجودك وقدرتك على التحمل، لقد زرع فى نفوسنا حب العراق وصدق الانتماء للعراق".

- رغم علاقة السيدة رغد الوطيدة اللصيقة بوالدها الرئيس صدام، إلا أن ماهو سياسي لم يكن ضمن دائرة اهتماماتها، " كان ليّ موقف من السياسة، كنتُ أتمنى أن أرتبط برجل خارج دائرة الدولة، زوجة الرئيس وبناته ونساء العائلة، لا علاقة لهن بالشأن السياسي، الوالد لم يكن مُمانعاً، ولكن الأمر أيضاً لم يكن مطروحاً، لم أتدخل مع زوجي حسين كامل فى أي قرار سياسي، لقد نأيت بنفسي عن السياسة، ولكن فيما يتعلق بما هو إنساني كان ليّ رأي وقرار يؤخذ فى الاعتبار".

- حسين كامل المجيد، أسمٌ لمع فى سماء الحياة السياسية العراقية، مسؤول الحرس الجمهوري ومسؤول الأمن الخاص، وزير التصنيع العسكري، أبن عم الرئيس وصهر الرئيس، الرجل الأقرب الى الرئيس، كلُ ذلك ليس كاف لأن يُبقى الرجل فى دائرة الأمان، يشتد الصراع حول الرئيس وبين رجال الرئيس، صراعات سياسية وعشائرية، الصدامُ آت لا محالة، فى سرية تامة، يتحدث الرجل الى زوجته السيدة رغد، تتطابق وجهات النظر، يُطرح السؤال الصعب، ما الحل؟ : "عرض عليّ حسين فكرة الخروج من البلاد مؤقتاً، استشارني فى الأمر، وافقت، على ضوء المعطيات التى أمامي، كنتُ أدرك بأننا على أبواب فتنة كبيرة وحمام دم، وإذا حدث ذلك واشتعل هذا الحريق، فالنار ستطال الجميع، وأنا معنيةٌ بهم جميعًا، قرار الخروج كان عقلانياً، رغم صعوبة القرار بالنسبة ليّ، الخروج فضٌ للاشتباك وإبعادٌ لشبح المواجهة، راهنتُ على عامل الوقت، غادرنا العراق وكانت الوجهة هى الأردن ".

- يحظى الرئيس صدام حسين باحترام اجتماعي كبير فى الأردن، ربطتُه علاقة خاصة مع الملك الحسين بن طلال، فتح الأردن ذراعيه لبنات الرئيس صدام وأصهاره وابنائهم، يبدو أن حسابات الجنرال حسين كامل قد تغيرت، لتُفاجأ السيدة رغد بزوجها على شاشة التلفزيون، يعلن من خلال مؤتمر صحفي دعوته للإطاحة بنظام الحكم فى بغداد، : " لقد كانت مفاجأة كبيرةً بالنسبة ليّ، شعرتُ بغضب شديد، تشاجرتُ معه، قررتُ أن أعود الى بغداد، أعود الى والدي، أردتُ أن أكون بجانبه، لن يُحسب عليّ هدا الموقف، قررتُ أن أعود لوحدي وأترك الأولاد، لم أطلب من زوجي العودة، لأنني كنتُ أتابع الحوارات التى تجرى هناك، وكانت خشيتي كبيرة مما قد يحدث عقب العودة ".

- لم يحتمل حسين كامل البقاء خارج العراق، اجرى اتصالات مع بغداد، القيادة العراقية تتخذ قرارًا بالعفو : " عقدت القيادة العراقية اجتماعًا بحضور الرئيس الوالد لمناقشة الأمر، تحدث عمي عزت الدوري قائلًا : نحن كقيادة نتنازل عن حقنا، احترامًا وتقديرًا للرئيس صدام، وتم اتخاذ قرار العفو، عقب ذلك طلب الكلمة أحد الأقارب الذى كان مسؤولاً كبيراً فى الدولة وقال : نحن كعشيرة لن نتنازل عن حقنا العشائري فى الاعدام ".

- كم هى طويلة وموحشة الطريق الى بغداد هذه المرة، كانت السيدة تُدرك بأنه لقاء وفراق، لقاء مع الأب وفراق للزوج، ما حصل بالنسبة لها كان كبيراً، تزودت بحالة من الشجاعة والصبر لمواجهة الموقف، : " وصلنا بغداد، ذهب الرجال فى اتجاه، وذهبنا نحن والاولاد للقاء الوالد، المرة الأولى التى أرى فيها والدي وقد أخذته العبرة، أتخذ قراره بالطلاق، وتم طلاقنا، تتابع الاحداث، هجوم عشائري مسلح، يُقتل الرجال، تألمتُ كثيراً، حزنتُ كثيراً، تأذيتُ كثيراً مما حدث، حاول الوالد أن يواسيني ويراضيني، ولكن الأمر بالنسبة ليّ أصعب من أن يُحتمل ".

- تُسترجع الذكريات، نقف عند محطات بعينها، مواطن الوجع فى الجسد العربي كثيرة وعميقة، العراق يغزو الكويت فى 2 أغسطس 1990، السيدة رغد لديها صداقات كويتية تعتز بها، : " نحن العرب حالة واحدة، الكويتيون أخوتي، الأخوة يختلفون وقد يتقاتلون، ولكن فى النهاية هم أخوة، (....)، اليوم نتطلع الى المستقبل، نستفيد من أخطاء الماضي، شعوبٌ كثيرة مرت بتجارب مماثلة، بالحكمة والوعي نستطيع أن نصحح الكثير من الأخطاء ونتجاوز العديد من الصعاب ".

- العراق تحت الحصار، العراق تحت القصف، إنه الغزو، أمريكا تقود تحالفاً دولياً لغزو العراق، والإطاحة بالرئيس صدام حسين، سقوط بغداد فى ابريل 2003، يُدخل العراق فى مرحلة جديدة، بل ويُدخل المنطقة بكاملها فى مرحلة ذات طبيعة استثنائية، : " مخطئ من يعتقد أن والدي عاشقٌ للحروب، لا أحد يحب الحرب، حروبٌ فرضت عليه، بحكم موقعه وقيادته للعراق ومسؤوليته الاخلاقية والتاريخية تجاه أمته، كان عليه أن يتخذ قرارات صعبة، العراق بلد مهم، بلد غني، بلد له دور، يملك قوة عسكرية مؤثرة، لم يُسمح له أن يعيش حالة من الاستقرار، قاتل الشعب العراقي بشجاعة، وقدم قوافل الشهداء ".

- العراق فى حالة حرب، السيدة رغد تتخذ قرارها بالمغادرة : " لقد تم قصف البيوت، لم يعد هناك مكان آمن، بيتي فى المزرعة أصبح ركاماً، استقبلتنا عشائر عراقية، أمضينا فى ضيافتهم بعض الوقت، كان برفقتي شقيقتي رنا وابنائنا، بدأنا فى التفكير، الخطوة الثانية، الى أين ؟ إما العودة الى الموصل والبقاء فى حماية العشائر العراقية، أو الخروج الى سوريا، أتخذنا القرار الصعب بمغادرة العراق، لا توجد جوازات سفر، دخلنا (تهريب)، مشينا على ارجلنا، وصلنا الى منطقة اسمها (قرى الاسد)، أدركتُ أنني غادرتُ العراق، ألمٌ يعتصرني وحزنٌ لم يفارقني منذ خروجي من العراق ".

- أمضت السيدة رغد وقتاً قصيراً فى حلب، لتنتقل بعدها الى الأردن، ليستقر بها المقام فى عمان، ضيفة على الملك عبدالله الثاني ابن الحسين : " موقف الاردن كبير، موقف الملك كبير، أتى بنا من سوريا وخصص لنا فى البداية بيت الملك حسين سكناً لنا، أحتضننا الشعب الاردني، لم أشعر يوماً بأنني غريبة، أعيش هنا فى بلدي الى حين عودتي للعراق بإذن الله".

- القوات الامريكية تلقي القبض على الرئيس صدام حسين، : " وقوع والدي فى الأسر ترك أثراً كبيراً فى نفسي، ظرف أستثنائي، أصبحتُ فى الواجهة، التحديات كبيرة، طريقة القبض واستخدام التخدير، كانت محاولة للتشويه وإحباط المعنويات، حاولوا النيل منه، موقفه الصلب والرجولي أثناء المحاكمه، سبب حرجًا كبيرًا لدولة الاحتلال، تماسكه وثباته وشجاعته ونطقه بالشهادتين لحظة إعدامه، بثت الرعب فى نفوسهم، وصنعت له ولنا وللعراقيين والعرب تاريخاً مُشرفاً ".

- حدثتني السيدة رغد عن علاقتها الطيبة مع السيدة عائشة معمر القذافي، والتي تصفها بالأخت الوفية، وتعتز بموقفها فى الدفاع عن والدها، كما تحمل تقديرًا للعقيد معمر القذافي : "استقبلني العقيد القذافي بحفاوة بالغة، وأستأذن أن يضع النظارة الشمسية على عينيه، لأن لديه حساسية من رمل الصحراء، وقال ليّ : لا تكوني حزينة، أبنتي رغد، الانسان يموت فى لحظة بطريقة لا يتوقعها، كوني فخورة بإخوتك لا تكوني حزينة ".

- تلقيتُ دعوة كريمة من السيدة رغد صدام حسين لحضور (جاهة) خطوبة كريمتها، وذلك يوم الإثنين 16 نوفمبر 2009 فى بيتها، أقتصر الحضور على عدد من الشخصيات العراقية والأردنية، تحدث فى البداية حفيد الرئيس صدام مرحباً بالحضور، ثم أعطى الكلمة لكبير العائلة السيد رشيد النقيب صهر الرئيس صدام، الذى رحب مٌجدداً وأثنى على (الجاهة) الآتية، مشيراً الى العلاقات القديمة التى تربطهم، ثم قال : "الجواب سيكون لدى السفير الليبي الدكتور محمد البرغثي، إعتزازاً بمكانته وبالعلاقة الاخوية التى تربطنا، فليتفضل"، فوجئت بالأمر، حيث وجدتُ نفسي (وكيلاً)، قدمتُ الشكر لأهل الدار، رحبتُ بالجاهة، استمعتُ إليهم، أجبتُ طلبهم، شربوا قهوتهم، تقديرٌ أعتز به وأعتز بالعلاقة الطيبة التى جمعتنا، تبقى السيد الفاضلة أم علي، أختاً كريمة لها مني كل التقدير والاحترام.
مدار الساعة ـ نشر في 2021/06/19 الساعة 13:02