عربايا.. مملكة عربية قبل الميلاد في بلاد الأناضول

مدار الساعة ـ نشر في 2021/06/14 الساعة 17:37

 مدار الساعة - عادةً ما يتمّ اختزال تاريخ العرب وفق صورةٍ نمطيّة بأنهم "بدو رحّل" لا أكثر. بينما الحقائق التاريخية تُثبت أنّ العرب كانوا أكثر من بدوٍ رُحّل، نعم لم تكن لهم "حضارة" كبيرة بالمفهوم الواسع لهذه الكلمة، ولم تكن قوّتهم قوّة عالمية إلا بعد الإسلام، لكنّ الفكرة القائلة بأنّهم كانوا فقط بدواً قبل الإسلام ليست صحيحة بشكلٍ كامل. فقد ثبت تاريخياً وجود مملكة استمرّ وجودها حوالي 4 قرون في منطقة الرّها، وهي منطقة "أورفة" التركية الحالية. كانت هذه المملكة تسمّى: مملكة الرها أو مملكة عربايا، وفي اسمها وحدها دليل على عروبتها.

 
ما قبل الإسلام.. قبائل وممالك عربية متناثرة
تَشكّل العرب كغيرهم من قبائل متناثرة داخل الجزيرة العربية، بدايةً من اليمن وسلطنة عمان الحاليتين والسعودية وبقية دول الخليج. وكان لبعض هذه القبائل تكوينات ممالك، ففي اليمن مثلاً كانت هناك مؤسسة ملكيّة تاريخية عريقة، كما سجّل التاريخ أيضاً محاولات لتأسيس ممالك في مناطق أخرى من الجزيرة العربيّة.
 
لكنّ أشهر مملكتين عربيتين ما قبل الإسلام هما مملكتا الغساسنة والمناذرة، كان الغساسنة سلالة عربية أسست مملكة في بلاد الشام، وأصبحت تابعة للدولة الرومانية، كما أنّ المناذرة حكموا بلاد العراق وكانت عاصمتهم الحيرة، وكانوا كذلك موالين للإمبراطورية الفارسية.
 
مملكة الرها
كان العالم في ذلك الوقت منقسماً بين قوتين كبيرتين لا ثالث لهما، الأولى هي الإمبراطورية الرومانية التي حكمت من روما وحتّى شمال إفريقيا وأجزاء من الشام. والإمبراطورية الفارسية التي حكمت من إيران وحتّى حدود الهند وأفغانستان والعراق. وكانت منطقة الشام دائماً هي منطقة الصراع الأبدي والدائم بين الإمبراطوريتين، بالإضافة إلى منطقة الأناضول (تركيا الحالية).
 
وهكذا احتاجت كل قوة منهما إلى مناطق عازلة عن الدولة الأخرى، وهكذا ضمّ الفرس المناذرة لِنِطاق نفوذهم، كما ضمّ الرومان الغساسنة لِنِطاق نفوذهم.
 
لكنّ قبل الغساسنة والمناذرة كانت هناك دولةٌ أخرى تشكّلت أيضاً على هامش الإمبراطوريتين العظميين في ذلك الوقت، لكنّها كانت بعيداً بعض الشيء عن سوريا والعراق (وهما الامتداد الجغرافي لجزيرة العرب)، فقد كانت هذه الدولة في الشمال السوري باتجاه الأناضول، في منطقة أورفة الموجودة في تركيا الحالية.
 
مملكة الرها أو مملكة عربايا.. أوّل من اعتنق المسيحية في تلك المنطقة
تأسَّست مملكة الرها في مدينة الرها عام 132 قبل الميلاد، وقد كان لها عدّة أسماء، فمثلاً تعرف باسم أسروينا، وأورهي (ربما نُطق قريب من أورفة)، كما عرفت كذلك باسم أديسا، لكنّ الاسم صاحب الدلالة هو اسم مملكة "عربايا"، أي مملكة العرب.
 
فقد كان سكّانها من العرب الآراميين، وقد كان الكثير من سكانها يهوداً، لكنّها أصبحت أوّل الدول التي تدين بالمسيحية، ولهذا قصة أخرى.
 
تأسّست مملكة الرها قديماً وكانت تحت حكم السلوقيين (خلفاء الإسكندر الأكبر في بلاد الشام)، والتي يقال إنّ الملك سلوقس سمّاها "أديسا" على اسم ابنته، ثمّ آلت بعد ذلك إلى قبيلة "الأباجرة" العربية، التي استوطنت المنطقة وأصبحت مملكتهم.
 
عربايا 
وقد كان 10 حكّام من الثلاثين الذين حكموا الرها اسمهم "أبجر" أو "أبكر"، وتعني كلمة أبجر وفق اللغة الآرامية "أعرج". كما كان 9 منهم يحملون اسم "معنو"، وهي اسم "معن" في اللهجات العربية اللاحقة. وقد سجل ملوكها أسماء أخرى عربية مثل "بكرو" و "عبدو". وقد كانت اللغة الآرامية هي اللغة المحكية في هذه المملكة، فلم تكن اللغة العربية تطوّرت بالدرجة الكافية لتكون لغةً رسمية. وقد استمرّت هذه المملكة طيلة 4 قرون من عام 132 ق. م وحتّى عام 242م، وقد حكمها 30 ملكاً من سلالة الأباجرة.
 
مرّت المملكة كغيرها من الممالك والدول بمراحل عديدة، تراوحت بين القوّة والتوسُّع والضعف والتضعضع، بل والتبعيّة. فقد كان يُنظر لها من قبل الإمبراطوريتين البارثية (الفارسية) والرومانية، باعتبارها منطقة عازلة بينهما، وهذا ما فرض على هذه المملكة الصغيرة نسبياً مواءماتٍ سياسية فرضها عليها الوضع السياسي العالمي المتمحور حول تلك الإمبراطوريتين.
 
وهكذا تقلّبت هذه المملكة وفق تقلبات السياسة، فتارةً تكون مناهضة للرومان وتارةً مناهضة للفُرس البارثيين. لكنّها أغلب الوقت كانت مؤيدةً وحليفةً للفرس، حتّى جاءت نهايتها على يد الرومان.
 
في عام 53 ق. م وقعت معركة حاسمة بين الفرس والرومان، وكانت الغلبة فيها للجيش الفارسي، وكانت مملكة عربايا تقف إلى جانب الفرس، وبهذا الانتصار حسمت المملكة موقفها بالتحالف الكامل مع الفرس. وقد استمرّ هذا التحالف قرنين من الزمان، قبل أن يغيِّر الرومان قواعد اللعبة ويحتلوا مملكة عربايا ويخلعوا ملكها.
 
تمّت التسوية في النهاية على أن يحكم الملك العربي المملكة على أن تكون تابعة للرومان، واستمرّ الوضع هكذا طيلة قرنٍ كامل حتّى وقعت حربٌ بين جنرالات الإمبراطورية الرومانية، وعلى إثرها قَرَّر الإمبراطور كاراكلا أن ينهي حكم الأباجرة عام 214، فخلع أبجر التاسع وألغى حكم السلالة. وقد انتقل بعد ذلك أبجر العاشر إلى روما واستقر فيها نهائياً عام 242، لتنتهي قصة مملكة عربايا.
 
ويقال إنّ أحد ملوك مملكة الرها علم بأنّ يسوع يشفي من الأمراض، فراسله لكي يأتي ويعالجه، فأرسل له يسوع أحد رسله، وبدأ هذا الرسول في نشر تعاليم المسيحيّة، وقد تبنّتها المملكة رسمياً على يد الملك أبجر التاسع الذي أعلن اعتناقه المسيحية، وبهذا يعتبر البعض أنّ مملكة الرها هي أولى الممالك اعتناقاً للمسيحية.

مدار الساعة ـ نشر في 2021/06/14 الساعة 17:37