العساف يكتب: استقلال.. ولكن..

مدار الساعة ـ نشر في 2021/05/29 الساعة 12:00

ربما من الأمور القليلة التي يتفق عليها جميع مكونات الشعب، هو الاحتفال بذكرى الاستقلال، رغم ما قد يعتري أطيافه وشرائحه من اختلافات وخلافات.
وكم هو رائع ومبهج أن نحتفل باستقلالنا، وأن نكرّم من بنوا هذا الاستقلال على أكتافهم وبنضالاتهم وتضحياتهم.
غير أن ما هو أهم من الاحتفال بذكرى الاستقلال، أن نحافظ عليه، ونحميه، ونعززه، ونمتِّنه، ونعظِّم الشعور الجمعي بقيمته وضرورته.
وهذا يتطلب الكثير الكثير من الجهد الصادق والواعي الذي يراكم الإنجازات، بما يجعل تاريخ إعلان الاستقلال نقطة بداية وانطلاقة جديدة، بدل التجمد والتكلس والتراجع عمّا أنجز.
والاستقلال، في أحد معانيه؛ هو "الانعتاق" من التبعية للأجنبي والارتهان لإرادته، وتحقيق السيادة الكاملة على أراضي الدولة وقرارها السياسي، وتعزيز الحريات العامة وحمايتها، وبناء دولة القانون القائمة على العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين مختلف مواطني الدولة، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم، كاملة.. على قاعدة المواطنة ولا شيء آخر.
فإلى أي درجة تحقَّـقَ أي من هذه المتطلبات؟ وأين نحن الآن من بلوغ الاستقلال الناجز؟ والأهم من ذلك، إلى أين وصلنا في تنفيذ متطلبات ما بعد الاستقلال؟ وما المكتسبات التي جنيناها من نيل الاستقلال؟ مِن مثل الاستقلال الاقتصادي والثقافي والديمقراطية والحرية والرفاه والازدهار والتنمية والبناء..؟  
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان حال الأردن أفضل بكثير من أحوال ألمانيا وإيطاليا واليابان، التي دمرتها الحرب، بل وأفضل من أحوال معظم الدول المنتصرة، بما فيها بريطانيا العظمى التي كانت تستعمرنا.
فأين نحن الآن من هذه الدول جميعا؟ بل أين نحن من سائر دول العالم الثالث التي كانت تناضل مثلنا لتحقيق الاستقلال والانعتاق؟
ماذا أنجزنا؟
أعلم علم اليقين أن مثل هذه التساؤلات تبعث في النفس حنقا وأسى، تماما مثل الذي يعتورني وأنا أخطّ هذه الكلمات التي "تمغص".
سيقول قائل أننا حققنا الكثير من الإنجازات على صعيد البناء والتنمية.. وهو قول صحيح.. لكن..
دعونا قبل ذلك نتفق على أن الاستقلال بمعنى الانعتاق لم يتحقق عام 1946، وإنما عقب ذلك بعشر سنوات، بتعريب الجيش وطرد القيادة الإنجليزية، ثم في العام الذي يليه؛ بإلغاء المعاهدة مع المستعمر.
تلك المعاهدة التي ناضل الأردنيون منذ ولادة مشروع الدولة، ضدها، وقارعوها بمختلف الوسائل المتاحة، ولنتذكر مؤتمرَي السلط وأم قيس 1920، وتمرد الكورة (مرتين 1921، 1923) وثورة البلقاء (1923)، والاحتجاجات التي امتدت منذ عام 1928 إلى 1936، والاحتجاجات في مطالع الخمسينيات للحؤول دون ضم الأردن لحلف بغداد.
كانت البوصلة واضحة أمام الحركة الوطنية الأردنية، حيال الموقف من ثلاث قضايا مفصلية: الاستعمار، وفلسطين، وأن يحكم الأردنيون بلادهم عبر حكم ديمقراطي نيابي وحكومة وطنية.
وناضلت هذه الحركة، التي جرى الاشتغال بقوة على إضعافها ومنع تطورها، ورغم ذلك، قدمت تضحيات لا ينكرها إلا جاحد، وحققت إنجازات لا يستهان بها، ولو قيِّض لها أن تستمر لراكمت إنجازات أكثر وأعظم لصالح تعظيم منجزات الاستقلال.
عَودا على قضية التنمية.. نعم تحققت منجزات، بفضل جهود الآباء والأجداد المخلصين.. لكن إلى أي درجة كانت كافية؟
منجزات البناء والتنمية في الأردن كانت ضرورية؛ الأمن والصحة والتعليم والنقل والطاقة.. وغيرها من الأولويات لأي دولة حديثة العهد بالاستقلال، غير أنها لم تخرج عن دائرة "المعتاد" أو "المفترض" الذي صبغ تلك المرحلة (مرحلة انتهاء الاستعمار الغربي للعالم واستقلال عشرات الدول).
للأسف، سرت منذ تلك الحقبة، وإلى الآن، اسطوانة مشروخة مفادها أن "الأردن محدود الموارد" لتبرير التقاعس عن النهضة الحقة، وذلك في غمرة انغماس الدولة في التجاذبات الإقليمية "الحرب الباردة، وإفرازات الصراع الوجودي مع العدو الصهيوني حديث التشكُّل".
هذه التجاذبات أخذت حيزاً واسعاً من نشاط الدولة واستنزفت قدراتها، على حساب تعزيز الاستقلال ومكاسبه، دون الإفادة من تناقضات تلك التجاذبات..
فلم نستفد من تبعيتنا للغرب الرأسمالي وانحيازنا له ضد المعسكر الاشتراكي، كأن نشترط دعما يحقق التنمية المطلوبة مثلما حدث من إعمار أوروبا في إطار مشروع مارشال.
 ولا نحن استثمرنا إمكانات "توحيد الضفتين" في تقوية بناء الدولة، وانصرفنا إلى التنافس مع مصر "الملكية" وبعدها "الناصرية" على تمثيل الفلسطينيين، بحثا عن دور وظيفي، وانخرطنا في صراعات إقليمية جانبية استنفدت طاقاتنا وعطّلت مسيرة التنمية.
ولست أدري، كيف يمكن استيعاب مقولة "الأردن محدود الموارد" في بلد حباه الله بتنوع مناخي وجغرافي وموقع استراتيجي نادر، وثروات وفيرة مثل البوتاس والفوسفات والحديد والمنجنيز والنحاس والزيت الصخري واليورانيوم؟! ولطَمنا على "شح المياه" والأردن ينام على بحر من المياه العذبة (الديسي)، التي يستغلها من حولنا ونحن غافلون.
ألأننا لا نمتلك نفطا؟
حسنا، والإنسان "أغلى ما نملك" هل استثمرنا فيه كما ينبغي؟
دولة صغيرة مثل هولندا، لا تمتلك أي مقومات حقيقية، استطاعت أن تؤسس إحدى أهم وأكبر شركات النفط في العالم، بالاعتماد على "الإنسان".. ونحن بدل أن نبني قاعدة علمية صناعية زراعية، كنا نلجأ إلى ترحيل البطالة "تهجير الكفاءات" إلى الدول المجاورة.
استغرقنا الأمر أكثر من أربعين عاماً، منذ إنشاء الدولة، لنبني أول جامعة وطنية، فيما الشباب المتعطشون للمعرفة يسيحون في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت لتحصيل العلم.
أغلقنا معظم منطقة البحر الميت حتى أواسط التسعينيات وأهملنا العقبة حتى مطلع الألفية الثانية، فيما العدو، على الجانب الآخر، يستثمر لعقود في السياحة.
لجأ اللبنانيون إلى الأردن هربا من الحرب الأهلية، برؤوس أموالهم ومهاراتهم وخبراتهم، أواسط السبعينيات، ثم رحلوا إلى أوروبا دون أن نستثمر فيهم، لأن حصول أحدهم على مجرد خط هاتفي ليسيّر أعماله، كان يستغرقه شهورا طويلة، إذا كان محظوظا.
افتقرنا كثيرا إلى فقه الأولويات في مسيرة البناء والتنمية، وأضعنا الكثير من الفرص السانحة.
وفوق ذلك، وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، (حقبة السلام والخصخصة) غرقنا في مرحلة "التراجع"، إن لم نقل الانهيار، في معظم مكتسبات التنمية التي تحققت، وانهارت المنظومة السلوكية التربوية الأخلاقية للمجتمع، واستشرت مؤسسة الفساد وتجذرت، حتى انقطع الأكسجين عن أحدث مستشفياتنا، والكهرباء عن البلد بأكمله.
لنأتي بعد ذلك كله، لنوقع اتفاقية مع العدو الأميركي، أقل ما يمكن وصفها به أنها "مذلَّة". وتجعلنا نتشكك في حقيقة استقلالنا.
حريٌّ بنا، الآن، ونحن نحتفي بذكرى الاستقلال، الذي نفتقده، ومرور 100 عام على نشأة الدولة، أن نقف وقفة صادقة، جميعا، مع أنفسنا، وأن نبدأ بمراجعة نقدية، وأن ندون عقدا اجتماعيا جديدا يعيد صوغ العلاقات داخل الدولة والمجتمع، ونشرع في بناء نموذج أصيل لدولة تقوم على العدل والمساواة والحرية، والديمقراطية التي نفتقدها، دولة لجميع مواطنيها، وأن نبقي بوصلتنا في ذات الوقت، وبندقيتنا، موجّهةً نحو القدس.

مدار الساعة ـ نشر في 2021/05/29 الساعة 12:00